قواعد في مراتب الثقات
شرح النظم المطلول في قواعد الحديث المعلول (13)
وقسَّموا الثقات في الإجمالِ ثلاثةً أتتْ بذا المقالِ قسم موثَّقٌ على الإطلاقِ وثابتٌ في الضبطِ باتفاقِ كابنِ المسيِّبِ كذا الشعبيُّ وابنِ الزبيرِ ذلك التَّقِيُّ وبعدَهم فيما رَوَوا تفاوتُ بين صحيحٍ وأصحَّ يثبتُ نحوَ ابنِ خازمٍ أبي معاويهْ في الأعمشِ الأثبتِ كان دَاهِيهْ لكن حديثُه لغيرِ الأعمشِ فيه كلامٌ عَابَه ففتِّشِ وفي عُبَيدالله أو هشام مضطربٌ فيما روى كلام وبعدهم مَن جرحُهم مقيَّدُ فضعفُهم بقيدِه يحدَّدُ والقيدُ حالهم أو الزمانُ أو مَن رووا عنه أو المكانُ كمثلِ سِمَاكٍ إذَا عن عكرمهْ روى ففيه نظرٌ قد وسمهْ كذا الدارورديُّ قالوا إن روى من الكتاب فأصحُّ ما روى لكنه مِن غيره أو حفظهِ يخطئُ أحيانًا وذا اعتبرْ بهِ وعن عبيدالله ما تفرَّدَا به فمنكرٌ حديثُه بدَا ومثلُ ذا كثيرٌ في الثقاتِ وأنفس العلوم في الرواةِ قد حاز شأوًا في علومِ العللِ مَن كان في استذكارِه كالجبلِ
(وقسَّموا)؛ أي: أهل العلم بالحديث، قسَّموا (الثقات) من الرواة (في الإجمال)؛ أي: إجمالاً (ثلاثةً)؛ أي: ثلاثة أقسام، وقد (أتت) وبيِّنت (بذا المقال)؛ أي: بهذا النظم، وهذه الأقسام؛ هي:
الأول: (قسم موثَّق على الإطلاق)؛ أي: دون تفصيل في مروياتهم؛ لأنهم جميعهم في أعلى درجات التوثيق، وكل واحد منهم حجَّة في الحفظ والإتقان، (وثابت في الضبط باتفاق) العلماء، وهؤلاء (كابن المسيِّب)، و(كذا الشعبي وابن الزبير ذلك التقي)، وغيرهم من كبار الحفاظ، وأعيان الثقات، فهذا هو القسم الأول من أقسام الثقات.
(وبعدهم) وهم القسم الثاني، وهم ثقات بالاتفاق، لكن (فيما رَوَوا) من الأحاديث والأخبار (تفاوت) في الصحة، فما يروونه متأرجح بين حديث (صحيح وأصح) منه، (يثبتُ)، فيه تأخير وتقديم، والمعنى يثبتُ الحكم عليه، بكونه صحيحًا أو أصح، وحديثهم مع تأرجحه بين درجات الصحة يبقى ضمن دائرة الصحة والقبول، وهؤلاء الثقات من القسم الثاني؛ نحو: محمد (بن خازم) أبي معاوية الضرير، ثقة مشهور في (الأعمش) كان هو (الأثبت) والأحفظ بين أكثر تلاميذ الأعمش، و(كان داهية) في ضبط مرويات الأعمش؛ كما قال ابن عبدالبر – رحمه الله -: "أجمعوا على أنه كان من أحفظ الناس لحديث الأعمش، وأنه لا يسقط منه واوًا ولا ألفًا"[1]، وقال معاوية بن صالح: "سألت يحيى بن مَعِين: مَن أثبتُ أصحاب الأعمش؟ قال: بعدَ سفيان وشعبة، أبو معاوية الضرير"[2]، (لكن حديثه)؛ أي: حديث أبي معاوية الضرير (لغير الأعمش) للنقَّاد (فيه كلام)، قد (عابه)؛ أي: عاب رواياته عن غير الأعمش.
قال الشيخ العلامة المحدث عبدالله السعد – حفظه الله وأمد في عمره – عند تفصيله الكلام على أبي معاوية الضرير: "إذا كان شيخُه غيرَ الأعمش عمومًا وعبيدالله بن عمر أو هشام بن عروة خصوصًا، فقد تُكلِّم في حديثه عنهما"[3].
قال عبدالله بن أحمد عن أبيه: "أبو معاوية في غيرِ حديث الأعمش مضطربٌ لا يحفظُها حفظًا جيدًا"[4]، وقال يحيى بن مَعِين: "روى عن عبيدالله بن عمر أحاديث مناكير"[5]، وقال أبو داود: "أبو معاوية إذا جاز حديثُه الأعمشَ، كَثُر خطؤه؛ يخطئ على هشام بن عروة، وعلى إسماعيل – وهو ابن أبي خالد – وعلى عبيدالله بن عمر"[6].
وغير هذا من إفادة النقَّاد بأحوال هذا الإمام الجليل أبي معاوية الضرير – رحمه الله رحمة واسعة وسائر أهل العلم بالحديث والمسلمين – (ففتِّش) عنها تجدْها في كتب التراجم الموسعة.
(وفي عبيدالله) بن عمر، (أو هشام) بن عروة، حديثه (مضطرب فيما روى) عنه (كلام) للنقَّاد فيه؛ كما تقدَّم.
قال الإمام أحمد – رحمه الله -: "هو يضطرب في أحاديث عبيدالله"[7]، وقال أبو داود لأحمد: كيف حديث أبي معاوية عن هشام بن عروة؟ قال: "فيها أحاديث مضطربة، يرفع منها أحاديث إلى النبي – صلى الله عليه وسلم"[8]؛ فهذا هو القسم الثاني من أقسام الرواة الثقات.
(وبعدهم)، وهم أصحاب القسم الثالث من أقسام الثقات، (مَن جرحُهم مقيَّد)؛ فهم ثقات، لكن في مروياتهم تفصيل يصلُ إلى تضعيفِ بعضها أحيانًا؛ (فضعفُهم) ليس مطلقًا، وإنما (بقيدِه) يعرف و(يحدد)، مع ثبات مكانتهم في الثقات، (و) هذا (القيد) تارةً يكون هو (حالهم)؛ كالاختلاط، وما في معناه من قبول التلقين، والعمى لمن يغلب عليه اعتماده على كتبه، ونحو ذلك من أنواع التغيُّر المؤثِّر في حال الراوي من حيث ضبطه وحفظه؛ كما هو شأن عبدالرزَّاق بن همام الصنعاني، قال الإمام أحمد: "عبدالرزاق لا يعبأ بحديث مَن سمع منه، وقد ذهب بصره، كان يلقن أحاديث باطلة، وقد حدَّث عن الزهري أحاديث كتبناها من أصل كتابه، وهو ينظر جاؤوا بخلافها منها"[9].
(أو الزمان) وهذا من عطف الخاص على العام، فقيد الحال أعم من قيد الزمان؛ فالاختلاط المؤثِّر حدٌّ فاصل بين زمن ضبط الراوي وعدم ضبطه، فيعد ما رواه في زمن ما قبل اختلاطه مقبولاً، وما رواه في زمن ما بعد اختلاطه مردودًا، مع مراعاة ضوابط الاختلاط المقررة؛ كما سيأتي – إن شاء الله تعالى.
وأما ما هو من التغير في حال الراوي، فيما يخص ضبطه، ولا تعلق له بالزمان، فنحو ضابط الكتاب إذا روى من غيره، وعرف بذلك كما سيأتي.
(أو مَن رووا عنه)، وهذا أيضًا من أنواع القيود التي يقيَّد بها ضعف الراوي الثقة، وهو الضعف المقيد بالشيوخ؛ ومثاله: جعفر بن برقان الجزري، قال الإمام أحمد – رحمه الله -: "يُؤخَذ من حديثه ما كان عن غير الزهري، فأما عن الزهري فلا"[10].
(أو المكان) وهو من أنواع القيد التي يقيَّد بها ضعف الراوي الثقة، وهو الضعف المقيد بالبلدان؛ ومثاله: معمر بن راشد الأزدي، حديثه بالبصرة فيه اضطراب كثير؛ لأن كتبه لم تكنْ معه، وحديثه باليمن جيد[11]، وقد نظمتُ هذه القيود – بتوفيق الله تعالى – في كتابي "منظومة في قواعد الجرح والتعديل"[12]، وقد جاء فيها:
والضعفُ منه ما يكونُ مطلقَا فحكمُه الردُّ سوى إذا ارتَقَى بعاضدٍ إلى الحديثِ الحسنِ ومنهُ ما قد قيَّدوا بالوطنِ أو بالشيوخِ فالقَبولُ ممكنُ في غيرِ ما قد قيَّدوا وبيَّنُوا ومنه نِسْبِيٌّ كما لو أَطْلَقُوا حديثهم على الذي يوثَّقُ إن جاء ذكرُه لدى المحقِّقِ مقترنًا بذكره للأوثقِ وحكمُه ليس على الإطلاقِ لكن بحَسْبِ القصدِ والسياقِ
وأيضًا كمثل سِمَاك بن حرب الذهلي البكري (إذا عن عكرمة روى) الحديث (فـ) إنه (فيه نظر) وكلامٌ للنقاد (قد وسمه) من السمة، وهي العلامة، فأصبح معروفًا بذلك.
قال الشيخ عبدالله السعد – حفظه الله وأمد في عمره -: "حيث وثَّقه ابن معين، قال: أبو حاتم: صدوق ثقة، وقال ابن عَدِي: "ولسِمَاكٍ حديث كثير مستقيم إن شاء الله.. وأحاديثه حسان، وهو صدوق لا بأس به"، وأما إذا روى عن عكرمة ففي حديثه عنه نظر[13]، وقال شعبة: "كانوا يقولون لسماك: عكرمة عن ابن عباس، فيقول: نعم"، وقال علي بن المديني: "رواية سماك عن عكرمة مضطربة، وهو في غير عكرمة صالح، وليس من المتثبتين"[14].
(كذا) عبدالعزيز بن محمد بن عبيد (الداروردي قالوا) عنه: (إن روى) الحديث (من الكتاب)؛ أي: من كتبه، (فـ) هو (أصح ما روى) من الأحاديث، قال الإمام أحمد: "إذا حدَّث من كتابه، فهو صحيح"[15]، (لكن) حديثه عن غيره؛ أي: من غير كتابه، كتحديثه من كتب الآخرين، (أو من حفظه)؛ فهو (يخطئ) فيه (أحيانًا)، وليس دائمًا، (وذا) قيدٌ انتبه له، و(اعتبرْ به) في الحكم على مروياته، قال الإمام أحمد: "إذا حدَّث من كتب الناس وهِم، وكان يقرأ من كتبهم فيخطئ"، وقال أبو زُرْعَة: "سيئ الحفظ، فربما حدَّث من حفظه الشيء فيخطئ"[16]، (و) ما يرويه عبدالعزيز الداروردي عن (عبيدالله) بن عمر، (وقد تفرد به)، (فـ) قيل (منكر حديثه)؛ أي: حديثه منكر، كما (بدا) للنقاد من تتبع رواياته عنه.
قال النسائي عن الداروردي: "ليس به بأس، وحديثه عن عبيدالله منكر"[17]، فهذا هو القسم الثالث من أقسام الثقات إجمالاً، (ومثل ذا)؛ أي: مثل هذا الذي ذكرناه من معرفة مراتب الرواة الثقات بالتمثيل لكل قسم (كثير في الثقات)، لا سيما القسم الثاني والثالث، (فـ) هو أنفس العلوم في علم (الرواة)، وهو (علم مراتب الثقات)، الذي هو عمدة معرفة الصحيح من السقيم وكشف العلل الخفية.
كما قال ابن رجب – رحمه الله -:
"معرفة مراتب الثقات وترجيح بعضهم على بعض عند الاختلاف، إما في الزيادات، وإما في الوصل والإرسال، وإما في الوقف والرفع، ونحو ذلك، وهذا هو الذي يحصل من معرفته وإتقانه وكثرة ممارسته الوقوفُ على دقائق علل الحديث"[18].
(قد حاز) ونال (شأوًا) وهو: السبق (في علوم العلل)؛ أي: علل الحديث (مَن كان) في حفظه؛ أي: في حفظ مراتب الرواة الثقات وأحوالهم، وكان (في استحضاره كالجبل)، في ثبات حفظه، وعلو شأنه، وعمق معرفته، فإن الجبل راسخ شامخ، ثابت عالٍ قوي، وله وتدٌ تحت سطح الأرض أضعاف ما هو عليه ارتفاعه وعلوُّه؛ ولذلك يطلق على كبار الحفاظ تعبير: جبل من جبال السنة، أو جبال الحديث؛ كناية عن رسوخه في حفظها وثباته، وعمق معرفته ودرايته بها، والله أعلم.
في حفظ البارئ
لاحرمنا منك آبدآ ولآمن ابدآعك
بآنتظار جديدك المتميز
تقييمـ & نجـــــــــــــــــــومـ
و ربي يفرحك و يسعد قلبك عاجلا خير آجل