بسم الله الرحمن الرحيم
في العلاقة بين السرقة الشعرية والتناص
إنَّ تَداخُل النُّصوص أمرٌ حَتْميٌّ لا مَفرَّ منه؛ فلا يُمْكن أن نتحدَّث عن نُشوء نصٍّ من الصِّفر؛ إذْ لا بدَّ مِن تلاقُح النُّصوص ودُخولها في سِجال وعَلاقاتِ تأثُّر وتأثيرٍ، وهو أمر يَفرضُه قانونُ الإبداع منذ الأزلِ؛ ذلكَ أنَّ: "كلّ كتابَة أو نقْشٍ امتدادٌ لسابِقاتها، تُثير سِجالاً معها، وتَنتظِر رُدودَ فعلٍ نَشِطة في الفَهمِ، تَتجاوَزُها وتَستبِقها"[1]؛ وعلى هذا فالنصُّ بُؤرة تتفاعَل فيها النُّصوص اللاحِقة والسابِقة، وهذا التَّفاعُل يَكون بتبنِّي النُّصوصِ التي يتأثَّر بها إيجابيًّا فيُوظِّفها، وبإقْصاء النُّصوصِ التي يتأثَّر بها سلبًا فيَتجاهَلُها ويُسقِطها مِن حِسابه، وقد أشارَ غَير واحِد إلى مَسألة تَفاعُل النُّصوصِ فيما بينها وحتميَّةِ ذلك؛ فالكَلامُ العربيُّ كما قال أحمد بن أبي طاهِرٍ: " مُلتبِسٌ بعضُه ببعضٍ، وآخِذٌ أواخِره بأوائله، والمُبتدَع منه والمُخترَع قليل إذا تَصفَّحتَه وامتحَنته، والمُحترِس المُتحفِّظ المَطبوع بلاغةً وشِعرًا مِن المُتقدِّمين والمُتأخِّرين لا يَسلَم أن يَكون كَلامه آخِذًا مِن كلام غيره، وإنِ اجتَهد في الاحتِراس، وتَخلَّل طريقَ الكلام، وباعَد في المَعنى، وأقرب في اللفْظ، وأفلتَ مِن شِباك التَّداخُل، فكيف يَكون ذلك مع المُتكلِّف المُتصنِّع، والمُتعمِّد القاصِد؟! (…) ومَن ظنَّ أنَّ كَلامه لا يَلتبِس بكَلام غَيرِه، فقد كذَب ظنُّه، وفضَحه امتِحانُه…"[2]، والمتأمِّل لكَلام ابن أبي طاهِر يَلفى وعيًا بقضيَّة التَّداخُل والتَّفاعُل الذي تَعيشُه النُّصوص في انتِقالها وهِجرَتِها، وتَلاقُحها وتَزاوُجها، فهو يُصرُّ على الْتِباس الكَلام وتَداخُله وقلَّة المُختَرع منه، وهذا نفْسُ ما تمَّ إقراره في الدِّراسات النقديَّة المُتطرِّقة لقضيَّة التناصِّ؛ وعلى هذا الأساس فالنصُّ الأدبيُّ "يَدخُل في شجَرة نَسبٍ عريقة ومُمتدَّة تَمامًا مثلَ الكائن البَشريِّ، فهو لا يأتي مِن فَراغٍ، كما أنَّه لا يُفضي إلى فَراغ"[3]؛ وعلى هذا يَغدو النصُّ إنتاجًا أدبيًّا لغويًّا "لكلِّ ما سبَقه مِن مَوروثٍ أدبيٍّ، وهو بذرة خِصبةٌ تؤول إلى نُصوصٍ تَنتُج عنه"[4].
ولا نَزوغُ عن سمْتِ الحَقيقة إذا قُلنا: إنَّ النُّصوص السابِقة تَتلاقى في فِكرة مِفصليَّة، هي أنَّ كلَّ نصٍّ لا بدَّ وأن يَربِط مع غَيرِه عَلاقات تَقوم على التَّفاعُل والسِّجال، والأخْذ والردِّ؛ حيثُ يتأثَّر بنُصوصٍ ويؤثِّر في أخرى، وإن استَعرْنا عِبارةَ "الغذامي": "النَّصُّ ابن النَّصِّ"، أمكنَنا القَول أنَّ النَّصَّ "يُولد" مِن نصٍّ أو نصوص، وهكَذا يَكون "النصُّ ابن النصِّ"، و"يَلد " بعد ذلك نَصًّا أو نُصوصًا، فيَكونُ (النَّصُّ أبو النَّصِّ)؛ فهو بهذا القياسِ مولودٌ ووالِد، لكنْ ما العَلاقة المُفترَضة بين ما يُسمَّى تَناصًّا، وما يُطلَق عليه "سَرِقة" في النَّقدِ القَديم؟
تَجدُر الإشارَة بادِئَ الأمر إلى أنَّ تَداخُل النُّصوصِ لم يَكنْ مُقتصِرًا على ميدان الإبداع الشِّعريِّ؛ ذلك أنَّنا نَجده في التَّفاسير، والشُّروح الشِّعريَّة، والمقامات، والخَطابة، والحِكايَة العجائبيَّة، وأدب الرِّحلَة، وعُلوم البَلاغَة إلى غير ذلك مِن النُّصوص الأُخرى، لكنَّ المُلاحَظ أنَّ التَّركيز انصبَّ على الشِّعر دون غَيره مِن الفُنون الأُخرى؛ لما للشِّعر مِن مَكانة رمزيَّة، وهَيمنة على سائر المَجالات الإبداعيَّة آنذاك، وقد كان الاهتِمام في جانِب التَّداخُل بين النُّصوص بظاهِرَة " السَّرِقات" دون غَيرها مِن الظَّواهِر، ويُمكِن أن نَجدَ عَلاقاتٍ مُتنوِّعةً بين مَفهومَي التناصِّ والسَّرِقة الشِّعريَّة، نُحاوِل رَصْدها في الآتي:
• يَقوم التناصُّ في الأصل على تَداخُل النُّصوص وتَساجُلها وتَفاعُلها؛ إذ لا وجودَ لنصٍّ بِكرٍ، وكذلكَ الأمر بالنِّسبة لنظريَّة السَّرِقات الشِّعريَّة في عُمقِها؛ فهي تَقوم على أنْ لا أحدَ يُمكِن أنْ يَعرى مِن السَّرِقة والأخْذ، قصَدَ أمْ لم يَقصِد؛ فهي: "بابٌ لا يَعرى منه أحدٌ مِن الشُّعراء" كَما قال النُّقاد القُدَماء؛ إذًا فالتأثُّر حَتميٌّ، ولعلَّ السببَ الرئيسيَّ في ذلك هو مَحفوظ الشاعِر مِن أشعارِ السَّابِقين أو المُعاصِرين، الذي يَترُك بَصمَته في كتابات الشاعِر بعد أن يَتناساه، أَضفْ إلى ذلك ما يَستعين بِه الشاعِر مِن عُلوم أخرى تُعينُه على نَظمِه وإبداعِه[5]، فيَكون لها عَميق الأثَر فيما ستَجودُ بِه قَريحتُه، سواء بشكْلٍ جليٍّ أو خَفيٍّ غير ظاهِر لِلعيان، ولا يُمكن بأيِّ حالٍ مِن الأحوال إغْفالُ عامِل الإعْجاب ببَيتٍ، أو معنى، أو صياغَة مُعيَّنة.
• من ناحية المصطلح، نجد "التناصَّ" يُعبِّر عن كلِّ تَداخُل بين النُّصوص كَيفما كان نوعُه، لكنَّ مُصطَلح "السَّرِقة" يُعبِّر عن ظاهِرة السَّرِقات بشكْل عامٍّ، لكنَّه لا يُعبِّر عن درَجات السَّرِقة وأنواعِها؛ إذْ لكلِّ نَوع مِن أنواعها سِماته التي تُميِّزه عن النَّوع الآخَر، وعلى هذا الأساسِ يَرى بعضُ الباحِثين أنَّ النَّقدَ القَديمَ كان أكثرَ ضَبطًا وتَحديدًا حينَ نظَر إلى التناصِّ – وهو مُصطَلح حَديثٌ – مِن زوايا مُتعدِّدة، تُثبِت نَوعَ هذا التناصِّ ودرجتَه؛ فعبَّر بالتَّضمين، والاقتِباس، والنَّظَر، والإحالَة، والمُعارَضة، والمُحاكاة، والمُجاوَرة، والتَّرجيع، والمُناقَضة، والمُفاخَرة، والمُنافَرة، والانتِحال، والانتِزاع، والإغارَة، والإلمام، والنَّسخِ، والسَّلخِ، والمسْخِ والنَّقْل، والمُناقَلة، والتَّلفيقِ، والتَّلميح، والتَّنزيلِ، والسَّرِقة، وإنْ طُرحَ بعض هذه المُصطَلحات في نِطاقِ التَّنقيصِ والتَّجريح"[6].
وهذا التَّعدُّد في المُصطَلحات يُبيِّن لنا الغِنى المُصطَلحيِّ للظَّاهِرة، ولا يَدلُّ بحالٍ مِن الأحوال على فَوضى مُصطلحيَّة كما يَحلو للبعْض تَردادُ ذلك.
• السَّرِقة والتناصُّ كِلاهما مَدخَلان للحُكمِ على أدبيَّة النصِّ وتَميُّزه.
• التناصُّ يُربَط على الدَّوامِ بالجانِب الإبداعيِّ، فيما قد تُحمَل السَّرِقات حُمولةً أخلاقيَّةً واجتماعيَّةً، تؤدِّي إلى القدْحِ والتَّنقيصِ والتَّجريح.
• ويُشير نفْسُ الباحِث إلى وجودِ فرْقٍ آخرَ في "القيمة"؛ ذلك أنَّ ناقِد السَّرِقة الأدبيَّة إنَّما يَسعى إلى استِنكار عمَلِ السارِق وإدانَتِه، في حين أنَّ ناقِد التناصِّ يَقصِد إظهار البُعد الإبداعيِّ في الإنتاج[8].
• على مستوى آخرَ، نجد فرقًا في القَصديَّة؛ إذ تكون العمليةُ القَصديَّة في السرقة واعيةً، بينما في التناصِّ تكون العملية لا واعية[9].
نلاحظ أن خليل الموسى عندما يفرِّق بين السرقة والتناص في القيمة، فإنه يقرن عملَ الناقد للسرقة بالاستنكار، فيما يرى العكس بالنسبة لناقدِ التناص، الذي لا يرى في التناص عيبًا بقدر ما يهتمُّ بالبُعد الجمالي والإبداعيِّ فيه، وهنا نسائل الناقدَ: ألم يهتمَّ النقاد القدماءُ في تناوُلِهم للسرقة بالبُعد الجماليِّ والإبداعي؟ أليس حديثُهم عن السرقة المحمودةِ إشارةً إلى هذا البُعدِ الجمالي؟ أليس قولهم: "من سرق شيئًا واسترقه، فقد استحقه وملكه، وصار أحق بالمعنى من السابق" يصب في بوتقة اهتمامِهم بالبعد الجمالي؟
وبالنِّسبَة للقَصديَّة: نَرى أنَّ السَّرِقة تَكون فيها العمَليَّة قصديَّةً، بخِلاف التناصِّ الذي تَكونُ فيه العمَليَّة غيرَ قَصديَّةٍ، ولكنْ كيف يُمكِننا الحُكمُ على القَصديَّة مِن غَيرها؟ كَما أنَّ الشاعِر القَديمَ في سَرِقاتِه وأخْذِه لم يَكنْ في كَثير مِن الأحيان يَعرِف أنَّ شاعِرًا آخرَ طرَقَ نفْس المعنى حتَّى يَنتَبِه إلى ذلك، وما حَديثهم عن توارُد الخواطِر واتِّفاق الضَّمائر إلا مَظهَرٌ مِن مَظاهِر اللاقصْديَّة في الأخْذِ، ثمَّ ماذا نَقولُ عن تأثُّر الشاعِر بما حَفِظ وخزَنَه في ذاكِرَته ؟ هل يَستطيعُ الشاعِر أنْ يَنفكَّ مِن رِبقَته؟ أبدًا لن يَستطيعَ؛ لأنَّه المحفوظ، رُكزَ في الذاكِرَة، ونُقشَ وحُفرَ، وصار مُستحيلاً تَخلِّيه عنه، ومِن ثمَّةَ كان واردًا تأثُّرُه بِه في إبداعه، قصَدَ إلى ذلك أمْ لم يَقصِد؛ إذًا فالحُكمُ بالقَصديَّةِ نِسبيٌّ، سواء في السَّرِقة أو في التناصِّ.