انظُر كيف استوجبَ الصومُ تشريفَهُ بِنِِسْبَتِهِ إلى اللهِ مع أنّ كلّ العبادات لله سبحانه!، وانظُر كيفَ أنّ أجره بدون حساب لا كالأعمال الأخرى تضاعفُ إلى سبعمائة ضعف، وانظُر كيف وصفه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنّهُ محضُ تركٍ لأجل الله جلّ وعلاَ!، وانظُر كيفَ يترُكُ صاحبُهُ الرفثَ والمقاتلة والسبَّ والصَّخب؛ لأنَّهُ امرؤٌ صائم! جميعُ هذه المعاني شرّفَ اللهُ بها عبادة الصيام؛ لأنَّها عبادةٌ تَركيَّةٌ في الأساس لا فعلَ فيها يُرى، وهي تُربّي النفسَ الإنسانيّة على أن تدعَ لوجه الله جلّ وعلاَ، وهذا هو المقصودُ الأعظم.
الخطبة الأولى:
الحمد لله ربّ العالمين، حمدًا كثيرًا طيّبًا مبارَكًا فيه، ملءَ السموات وملءَ الأرضِ وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شاءَ ربُّنا من شيءٍ بعد، وأشهد أن لا إله إلا الله، له الحكمةُ البالغة سبحانه، والثناءُ الحسنُ الجميل، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبد الله ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحبِهِ الأخيار، ومن تبعَهُم على الحقّ إلى يوم الدّين وسلَّم.
ثم أما بعد:
معشر المؤمنين: حديثنا اليومَ عن صفةٍ جليلةٍ خصّ اللهُ بها عبادة الصوم، هي أبرزُ حقائقه، وركيزتُهُ الأساسيّة التي عليها يقوم، إنّها تربية النفسِ على عبادةِ التركِ لوجه الله جلَّ وعلاَ!
ما من عبادةٍ إلاّ وتقومُ حقيقتها على الفعلِ المشروعِ لوجه الله جلّ جلاله، بالقلبِ أو اللسانِ أو البدن: الطهارة فيها غسلٌ لليدين ومضمضةٌ واستنشاقٌ واستنثار، ثم غسلٌ للوجه واليدين إلى المرفقين، ثم مسحٌ للرأس والأذنين، ثم غسلٌ للرجلين، وهذه كلها أفعالٌ إيجابيّةٌ تُرَى، قال ربنا سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَين) [المائدة: 60].
الصلاة كذلك فيها إحرامٌ وقراءةٌ وركوع ورفعٌ وسجود وتشهّد وتسليم، وهذه كلها أفعالٌ إيجابيّةٌ تُرَى، قال ربنا سبحانه: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُوم * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِين) [الشعراء:218-219].
والحج اجتمع فيه البذل والعطاء، والسفر والأداء، وفيه الإحرام والطواف والسعي والحلق وغيره من الأفعال التي تُرَى. والجهاد وقراءة القرآن، وغيرها من العبادات، حتى الزكاة فإنّ فيها نقلاً ودفعًا وإخراجًا!، إلا الصوم – معشر المؤمنين-؛ فإنَّهُ مدرسةٌ تعبُّديّةٌ خاصّة، لا فِعلَ فيهِ يُرَى في الحقيقة، بل هو محضُ تركٍ على وجهٍ مخصوص لوجه الله الكريم جلّ وعلاَ!، وهذا من أبرزِ مزاياهُ ومقاصدّه.
أجل -معشر المؤمنين -؛ الصومُ مدرسةٌ تنطلقُ بالعبدِ من الهلال إلى الهلال، من طلوع الفجر الصادِقِ في كل يومٍ إلى غروب شمسِ ذلك اليوم، يدعُ فيها المؤمنُ طعامه وشرابه وشهوتَهُ الحلال لوجه الله وحده لا شريكَ له، ثم يعودُ إلى أصله بعد الإذن له من الشرع.
وقد ثبتَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ على هذه الحكمةِ والمزِيّة:
في المتفق عليه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قَال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي. للصائم فرحتان؛ فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولَخَلُوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. والصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب. فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم".
فانظُر كيف استوجبَ الصومُ تشريفَهُ بِنِِسْبَتِهِ إلى اللهِ مع أنّ كلّ العبادات لله سبحانه!، وانظُر كيفَ أنّ أجره بدون حساب لا كالأعمال الأخرى تضاعفُ إلى سبعمائة ضعف، وانظُر كيف وصفه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنّهُ محضُ تركٍ لأجل الله جلّ وعلاَ!، وانظُر كيفَ يترُكُ صاحبُهُ الرفثَ والمقاتلة والسبَّ والصَّخب لأنَّهُ امرؤٌ صائم! جميعُ هذه المعاني شرّفَ اللهُ بها عبادة الصيام؛ لأنَّها عبادةٌ تَركيَّةٌ في الأساس لا فعلَ فيها يُرى، وهي تُربّي النفسَ الإنسانيّة على أن تدعَ لوجه الله جلّ وعلاَ، وهذا هو المقصودُ الأعظم.
أيها الإخوةُ في الله: العبدُ يضرُّهُ الاستِرسالُ في العوائدِ والشهوات، ورمضانُ مدرسةٌ تفطِمُ أمّهاتِ الجوارحِ عن أمّهاتِ الملذّات، لا يأتي إلاّ بعد أحدَ عشر شهرًا كلها انطلاقٌ في المباحات، وإمعانٌ فيها، واسترسالٌ مع دواعيها، ثم يأتي بعد ذلك شهرُ الحِميَةِ لوجهِ الله جلّ وعلاَ، شهرٌ يقيّدُ الناسَ عن الانطلاقِ في الحلالِ الطيّبِ بأمرِ الله وابتغاءَ رضوانه، في الحديث القُدسي: "يدع شهوته وطعامه من أجلي" !، أجل -معشر المؤمنين– يدعُ شهوتهُ التي أذنَ اللهُ له فيها، وطعامه الذي له فيه لذَّةٌ وحاجَة، يدعها لوجه الله وحده، لا للعادَة ولا لوجه أحدٍ كائنًا ما كان في الحياة، وهاهنا يبرزُ دورُ الإيمان والتقوى، ويظهرُ أثرُ التربيةِ والتهذيب، فإذا بتلكَ الأنفسِ التقيّة الزكيّة تعتادُ التركَ لوجه الله تعالى للمباحاتِ، ويصيرُ لها بموجبِ ذلك استعدادٌ وتجهُّز، فما بالك أخي بتركِ المناهي والمحرّمات!
نسأل الله السلامة والعافية. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب؛ إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
معشر المؤمنين: إذا استقرّ في الأذهانِ أنّ الصومَ يفطمُ العبدَ عن الاسترسالِ في المباحِ لوجه الله جلّ وعلاَ، فهل يستقيمُ بربّكُمُ أن يسترسلَ العبدُ في المكروهاتِ والمناهي والمحرّمات وهو صائم ؟!، حاشا لله وأبعَد!!
إنّ شهرًا يفطِمُ نفسَكَ عمّا أذنَ اللهُ فيه لحريٌّ أن يفطمَها عمَّا نهى اللهُ عنه، فإذا خالفت هذا المعنى "فليس لله حاجةٌ في أن تدع طعامك وشرابك!": عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" رواه البخاري.
ووردَ في لفظٍ للطبراني في الصغير والأوسط من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع الخنا والكذب، فلا حاجة لله أن يدع طعامه وشرابه" حسّنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1088).
أجَل -معشر الأحباب-: إذا لم يحمِلكَ صومُكَ على تركِ الخنا والكذبِ وقولِ الزورِ والعملِ الزورِ -وهي محرّماتٌ بيقين-؛ فكيف طاوعتكَ نفسُك في الحقيقةِ على تركِ الحلالِ لوجه الله جلّ وعلاَ؟! لا شكّ أنَّ تركَ الأوّل أولى وأعلَى عند الأيقاظِ بأدنَى عملٍ عقلي!
معشر المؤمنين: إنّ الصومَ عند الأيقاظِ المتأمّلين مدرسةٌ تعلّمُ التركَ لوجه الله جلّ جلالُه، الترك في شهرٍ على وجه الوجوب والإلزام، وإرشادًا إلى هذا التركِ في بقيّة أشهُر العام، فلا ينبغي أن نُفسِدَ معنى التربيةِ على تركِ الملذّاتِ الحلال بالإفراطِ في التمتُّعِ بها في الليل حتّى كأنَّها واجبات فاتَتنا !، فكيفَ بتركِ الحرامِ والآثام معشر الكِرام ؟!، هي واللهِ أعلىَ وأولى ارتباطًا بمعنى الصوم وحقيقته!
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضَى، اللهم حبب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
جزاك الله كل خير وجعله الله في ميزان حسناتك