الأب: كيف حال الولد؟
الأستاذ: بخير والحمد لله، ابنكم لديه استعداد كبير للتفوق والنبوغ، ولكن!
الأب في لهفة: ولكن ماذا؟
الأستاذ: ولكنه كثير الشرود، إنه يتخذ من نافذة الفصل منفذًا لشروده وبحرًا يسبح فيه بخياله، وسماءً يحلق بها بآماله!
الأب وكأنه يعرف السبب: معذرة يا أستاذ، اصبر عليه هذه الأيام.
الأستاذ: هل هناك مشكلة يعاني منها طفلك؟
الأب وهو يحاول أن يخفي: لا، لا شيء، فقط اهتم به.
الأستاذ في إلحاح: أرجوك يا سيدي أخبرني حتى أستطيع أن أفيد طفلك.
الأب في جواب يشبه الصدمة: حسن يا أستاذ، سأخبرك ولكن لا تخبر أحدًا.
الأستاذ: لا تقلق يا سيدي.
الأب: هناك بعض المشاكل في البيت بيني وبين زوجتي، وأعدك أني سأحاول أن أحلها في أسرع وقت ممكن.
الأستاذ وبعد تنهد طويل: أرجو ذلك.
الطفل الشارد وقفة تأمل.
كثيرًا ما نرى في المدارس هذا النموذج من الأطفال, وهو نموذج الطفل الشارد، ويمكن تعريف شرود الطفل على أنه: ضعف قدرة الطفل على التركيز في شيء محدد خاصة أثناء عملية التعلم, وقد يأتي هذا الاضطراب منفردًا، وقد يُصحَب بالنشاط الحركي الزائد والاندفاعية غير الموجهة
وفي الحقيقة إن لهذا الشرود الأثر السلبي الكبير على مستوى الطفل الدراسي، وعلى درجة تحصيله العلمي، فبالتأكيد الطفل الذكي الذي يتابع ويتفاعل مع المدرس ليس كالشارد في ركن وحده، بالإضافة إلى أن الطفل قد يتعرض لتعنيف المدرسين، ويتعرض كذلك للسخرية من زملائه.
إننا كثيرًا ما نرى هذا الطفل الشارد الذي ينظر دائمًا من النافذة.
أو يصوب نظره إليك ولكن ذهنه ليس معك.
أو الذي لا يتفاعل أبدًا مع معلمه، ولا يبدي أي سلوك إيجابي في الفصل، فإذا ما وجه المعلم سؤالًا للتلاميذ، كان ذلك الطفل في وادٍ آخر، وإذا ما قام أحد زملائه بالإجابة عن السؤال لم يستوعب الطفل ما قيل، وإذا انتهت الحصة هو أيضًا شارد، بل وإذا انتهى اليوم الدراسي ودق جرس الخروج فهو أيضًا شارد.
قليل التفاعل، بطيء التحصيل، غامض منطوي في أغلب الأحيان، تُرى ما السر وراء هذا الطفل الشارد!
شرود الطفل ليس لغزًا كبيرًا.
نعم هو كذلك، فبتأمل بسيط لحال هذا الطفل الشارد؛ سنعلم أن المشكلة لن تتعدى ثلاثة جوانب رئيسية، قد يكون أحدها أو مجملها سببًا في شرود هذا الطفل:
أولًا: صعوبة المادة.
ثاينًا: عدم قدرة المدرس على جذب الانتباه.
ثالثًا: مشكلة داخلية تدور في نفس الطفل.
وإذا أردنا أن نحلل، ونصل إلى مكمن الداء، سنبدأ أولًا بمحاولة لرفع مستوى الطفل في هذه المادة، إما عن طريق درس خصوصي, أو اجتهاد من جانب الوالدين في البيت.
فإذا ذهب الشرود؛ نكون بذلك قد اخترنا الاحتمال الأول واستبعدنا باقي الاحتمالات.
أما إن أردنا أن نبحث الاحتمال الثاني، فسنقارن بينه وبين بقية الأولاد في الفصل، هل هو الوحيد الذي يعاني من هذا الشرود أم أن الأولاد أغلبهم متفاعل وإيجابي، فإن كانت الإجابة الثانية؛ فسنستبعد الاحتمال الثاني ولن يكون أمامنا إلا أن نقبل الاحتمال الثالث، وهو الاحتمال الغالب، وهو أن الطفل يواجه مشكلة نفسية داخلية، غالبًا ما يكون منشؤها من داخل البيت.
ولكن على المعلم أن يبذل قصارى جهده أثناء الشرح حتى يجنب الأطفال شرود الذهن، وذلك بالإكثار من استخدام الوسائل التعليمية الجذابة، وسرد القصص المفيدة، والتحكم في نبرات الصوت علوًا وهبوطًا، والحرص على اشتراك الطفل الشارد الذهن، ونحن في زمان كثرت فيه المغريات والماديات، وأصبح الأطفال يعيشون في بيئات سريعة التغيُّر، ولا شك أن وسائل الإعلام لها آثارها الخطيرة.
فإذا كان مستوى ذكاء الطفل متوسطًا أو فوق المتوسط، وإذا كان المدرس كذلك ناجحًا مع باقي التلاميذ، والطفل لا يزال شاردًا؛ إذن فهو بالتأكيد يواجه مشكلة نفسية.
قد تكون المشكلة طارئة، كغياب أحد الأبوين أو سفره, خاصة الأم، وهذه مشكلة بسيطة، وقد تكون مشكلة دائمة وهي التوتر الأسري، وعدم الاستقرار في العلاقة بين الوالدين.
استقرار العلاقة الأسرية له الدور الأكبر في رفع مستوى التحصيل العلمي للطفل.
نحن لا نلغي دور المدرسة، بل هو دور حيوي وهام، ولا نلغي أيضًا وجود فروق فردية بين الأطفال بعضهم البعض، ولكننا نؤكد على أن الأسرة هي صاحبة الدور الأكبر والرائد في نجاح الطفل وتفوقه دراسيًّا، (ففي بحث قام به "كولمان" 1966م، على ستمائة ألف طفل في الولايات المتحدة الأمريكية، توصل الباحث بما لا يدع مجالًا للشك إلى أن البيئة المنزلية، بما في ذلك المستوى التعليمي للوالدين ودخلهما، كان لها الأثر الأكبر على التحصيل المدرسي لهؤلاء الأطفال، ويلي ذلك في الأهمية ما تتميز به المدرسة من خصائص.
كما أن البيانات التي جاء بها البحث أوضحت أنه إذا كان المنزل سندًا قويًا للطفل؛ فإنه ـ أي المنزل ـ يستطيع أن يعوض ما قد يكون هناك من خلل في النظام المدرسي)
إن الطفل في الحقيقة وهو في المدرسة ما هو إلا مرآة تعكس الوضع الراهن في البيت، فالطفل المستقر يعكس بيتًا مستقرًا، والطفل غير المستقر يعكس بيتًا غير مستقر، (وعلى هذا الأساس وجدنا دراسات تعني بالطفل ضمن الأسرة من خلال دراسة واقع الأسرة والمناخ السائد فيها، ومدى التماسك أو التفكك الأسري، ومستوى الوالدين التعليمي، والأساليب التي يستخدمانها في الاتصال الثقافي، والمنشأ الريفي أوالحضري لهما، والسلم القيمي لكل منهما، وطبيعة المهنة والديانة، وما إلى ذلك، مع تحديد أثر ذلك في الطفل)
لا نريد أن يعيش الأطفال مشاكلنا.
ليس هناك بيت مهما بلغت درجة استقراره لا يحوي المشاكل، فهذا أمر مستحيل على البشر، فالمشاكل أمر طبعي يطرأ على كل البيوت، ولكن ما ينبغي على الزوجين عمله، هو عدم إشعار الطفل بالمشكلة، ونظرًا لأنه لا تخلو زيجة من مشكلات فلذلك اهتم الشرع الحكيم بوضع حلول تحاصر هذه المشاكل، وذلك عن طريق:
أولًا: الدعوة إلى الود والرحمة بين الزوجين، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر))[رواه مسلم].
وثانيًا: الدعوة إلى الصلح إن حدث خصومة ونزاع، {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا } [النساء: 35]، وقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128].
وثالثًا: بتبغيض الطلاق والتحذير من التساهل والتلاعب به، فقال صلى الله عليه وسلم: ((من لعب بطلاق أو عتاق فهو كما قال))[حسنه الألباني]، وقال: ((ثلاث لا يجوز اللعب فيهن: الطلاق والنكاح والعتق))[حسنه الألباني]، وقال أيضًا: ((أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس؛ فحرام عليها رائحة الجنة))[صححه الألباني].
إذن المشاكل الأسرية هي أمر طبعي بالواقع والمشاهدة، ولكن ما نحن مأمورون به أن لا نجعل أبناءنا يعيشون مشاكلنا، وألا نخطئ في ردود أفعالنا فتكون غير تربوية بسبب المشاكل والتوترات.
ويمكن حصر أهم الأخطاء التي قد يقع فيها الولدان في خطأين رئيسين وهما:
أولًا: التشاجر أمام الأولاد.
وهذا أمر واضح، فلابد أن نتحكم في عواطفنا، وإن أردنا التناقش في الأمور التي نختلف فيها لا يكون ذلك أبدًا أمام الأولاد، فما الطفل الشارد إلا نتاج هذا التشاجر.
ثانيًا: ظهور أثر المشكلة بين الزوجين في التعامل مع الطفل.
(عندما يعيش الكبار حالة القلق بسبب أوضاعهم؛ فإنهم لا يعطون أطفالهم الاهتمام والعناية الضروريين، ويتعرض الأطفال للعقاب الجسدي وسوء المعاملة إذا ما أساءوا التصرف) ومثال ذلك أن يخطئ الطفل خطأً ما، ربما نكون نتعامل معه في جو الهدوء وعدم المشاكل بطريقة ما، ولكننا كثيرًا ما تكون ردود أفعالنا في التعامل مع أخطاء أبنائنا عنيفة جدًا في وقت المشاكل، وهذا هو مكمن الداء وجوهر الخطأ.
وليس معنى هذا أننا نقول للمربي لا تغضب, كلا (فهذا مستحيل, وغير صحي أيضًا, إذ أن الغضب من المشاعر الإنسانية الأساسية, إننا نقول وببساطة أن مقابلة سلوك الطفل بالغضب الشديد يمكن أن يجعل الموقف أكثر سوءًا, فالخط الذي يفصل ما بين الغضب والخطر رفيع للغاية) [
وختامًا عزيزي المربي نسأل الله تعالى أن يصلح حال أبنائنا