تفسير سورة الكهف
قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال "
وقال : " من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق "
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات 1 ـ 5
( الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا * ماكثين فيه أبدا * وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لآبائهم ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا )
يحمدالله نفسه فى بدايات السور ليعلمنا كيف نحمده على نعمه وهنا يحمد نفسه على أنه أنزل القرآن الذى ليس به عوج ولا زيغ ولا ميل مستقيما على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك لينذر من خالفوا القرآن وكذبوا به بأن لهم العقوبة الشديدة فى الدنيا والآخرة .
ويبشر الذين آمنوا به وصدقوا أعمالهم به بالأجر الحسن والمثوبة الجميلة ، ويظلون فى ثواب الله والجنة خالدين دوما
وينذر الكفار الذين ادعوا الولد لله والذين عبدوا الملائكة وقالوا إنها بنات الله مثل آبائهم ، بدون علم عندهم بذلك فهذه كلمة كبيرة فى حق الله وبشعة ولا دليل لهم عليها وهذا كذب وافتراء على الله
( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا * إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا * وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا )
باخع : مهلك
أسفا : غضب وحزن
آثارهم : فعلهم
الحديث : القرآن
زينة : حلة خضرة
صعيدا : الأرض القفراء التى ليس بها زرع ولا ماء
جرزا : لا تنبت ولا ينتفع بها
يعزى الله نبيه صلى الله عليه وسلم ويسليه ويقول له لا تهلك نفسك فى الحزن عليهم بسبب عدم إيمانهم بالقرآن فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها
ويخبر تعالى أنه جعل الأرض حلوة خضرة مزينة ولكن زينتها زائلة فهى دار ابتلاء واختبار لينظر ما تعملون بها ومصير هذه الدنيا إلى الخراب والدمار ويصبح كل ما عليها خراب ويجازى كل بما عمل عليها
قال صلى الله عليه وسلم : " إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بنى اسرائيل كانت النساء "
الآيات 9 ـ 12
( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا * إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا * فضربنا على ءاذانهم فى الكهف سنين عددا * ثم بعثناهم لنعلم أى الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا )
طلب اليهود اختبار محمد صلى الله عليه وسلم فى نبوته وسألوه ما يعرف عن جماعة الكهف التى حدثت من عصور قديمة
فأخبره الله عز وجل
فقال : يا محمد … ( الآية 9 ) ليس أمر أهل الكهف عجيبا فى قدرة الله وسلطانه لأن خلق السموات والأرض وما فيهن آيات أعجب من ذلك
الكهف : هو غار فى جبل لجأ إليه فتية هربا من ظلم الحاكم ورغبته فى قتلهم بسبب توحيدهم لله ودعوتهم لعبادة الله الواحد
الرقيم : الكتاب من السماء
( الآية 11 ) : ألقى الله عليهم نوما عدة سنين
( الآية 12 ) : ثم أيقظهم الله من نومهم بعد السنين الكثيرة ليعلم المختلفين فى أمرهم كم عدد ما لبثوا وليعلموا الغاية والهدف من ذلك
ثم يأت التفصيل فى الآيات بعد ذلك للقصة
الآيات 13 ـ 16
( نحن نقص عليك نبأهم بالحق ، إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى * وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعوا من دونه إلاها ، لقد قلنا إذا شططا * هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة ، لولا يأتون عليهم بسلطان بيّن ، فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا * وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا )
ويبدأ هنا الله عز وجل فى شرح القصة
إنهم مجموعة من الشباب الذين هداهم الله لأنهم آمنوا بالله الواحد ولم يشركوا معه
وصبرهم الله على مخالفة عقائد أهل مدينتهم
وقيل فيهم أنهم كانوا من أبناء أمراء وملوك الروم العابدون للأصنام وكان ملكهم عنيد جبار ( دقيانوس ) وكان لهم عيدا يذبحون فيه للطواغيت وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم ونظروا ما يفعل آباءهم فاستنكروا ذلك لأن الأصنام لا تضر ولا تنفع
فأخذ كل واحد منهم يبعد عن أهله واجتمعوا معا على عبادة الله خالق السموات والأرض وتنكروا للأصنام وجمعهم الإيمان
وقالوا لبعضهم البعض ما دار فى نفوسهم وأصروا أن لا يعبدون إلا الله واتخذوا لأنفسهم معبدا ليتعبدون فيه وصاروا يد واحدة
علم بأمرهم قومهم ووشوا بهم عند الملك فأحضرهم وقالوا الحق وأنهم لن يعبدوا إلا الله لأن غير ذلك باطلا
شططا : باطل
وقالوا هؤلاء قومنا اتخذوا آلهة باطلة فهل عندهم دليل واضح على ذلك
فالظالمون هم المفترون الكذب على الله
تهددهم الملك وتوعدهم وترك لهم الفرصة فى الرجوع عن عقيدتهم
وكان رحمة من الله فتمكنوا من الهرب
وقال بعضهم البعض : لنفارق القوم ونفارق ما يعبدون من دون الله ونذهب إلى الكهف يستركم الله من قومكم ويجركم من قومكم
ولعل الله يهيئ لكم مما أنتم فيه أمرا يرفق بكم ( مرفقا )
وبحث الملك ولم يعثر عليهم وأخفى الله أعينهم عنهم وناموا فى الكهف سنوات طوال
( وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم فى فجوة منه ، ذلك من آيات الله ، من يهد الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا )
يخبر الله تعالى أن عند طلوع الشمس تطلع على باب الكهف ( وهذا يدل على أن باب الكهف كان من ناحية الشمال ) ولكن المعجزة أنها تتقلص ( تزاور ) يمينا كى لا تحرقهم حرارتها
وعند الغروب ترتفع وتمر بالباب وأيضا المعجزة أن الله يأمرها ( تقرضهم ) فتميل بهدوئها نحو الباب وتدخل الكهف لتدفئهم وقيل تتركهم
والمعنى العام أن الشمس أمرها الله أن تميل يمينا ويسارا لتدخل بهدوء ورفق وتبعد حرارتها الحارقة عنهم
وهم فى فجوة منه : متسع بالداخل
وهذا كله من أمر الله الذى ساعدهم على الهرب إلى الكهف المناسب صحيا المتسع الذى تدخله الشمس بغير إحراق وفتحة بابه فى جهة تدخل منها الشمس والهواء وتبقى بذلك على أبدانهم وهم نيام
والله هو الذى هدى هؤلاء من بين قومهم حيث رأى فيهم خيرا ومن أضل فلا هادى له من بعد الله
الآية 18
( وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ، وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ، لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا )
الوصيد : الباب
ويوضح الله حالهم فقد ضرب على آذانهم فناموا ولكن الناظر لهم يرى أعينهم مفتوحة كأنهم يقظة حتى لا يسرع إلى أعينهم البلى فبقيت مفتوحة للهواء
ويقلب الله أجسامهم يمينا ويسارا لأن فى التقلب حماية للجسد من التقرحات والبلى أيضا
وهذا الكلب الذى يمد قدميه على الباب لحراستهم وقد ميز هذا الكلب عن باقى نوعه كرامة لهم
فمن يصاحب المؤمن يكرم لكرمه
فالكلب المعروف بنجاسته وبعد الملائكة عن المكان الذى يتواجد فيه أصبح مكرما وأصابه النوم مثلهم
وألقى الله عليهم المهابة لئلا يقترب منهم أحد فالناظر لهم يتملكه الرعب ويبتعد
حتى يقضى الله الحكمة من رقدتهم
( وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم ، قال قائل منهم كم لبثتم ، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ، قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا * إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم فى ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا )
وكذلك بعثناهم : كما أرقدناهم بعثناهم لم يفقدوا من أشعارهم وأبشارهم وأبدانهم شيئا
وذلك بعد 309 سنة
فسأل بعضهم بعضا كم نمتم ؟
فقد ناموا صباحا واستيقظوا مساء
فقال أحدهم لقد نمنا يوما أو جزء من اليوم
قال آخر الله أعلم كم نمتم
فقالوا ليس مهم كم لبثنا إنما الأهم نريد الطعام ، فاختاروا من يذهب بنقودكم ويشترى ما خف حمله من الطعام الحلال الطيب
أزكى : حلالا طيبا
وليتلطف : يكون خفيفا لا يشعر به أحد
فإن القوم إن وجدوكم يرجموكم أو يعيدوكم فى دينهم ولو حدث ذلك لخسرتم الدنيا والآخرة
الآية 21
( وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم ، فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم ، قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا )
وكذلك أعثرنا : أطلعنا عليهم الناس وهم على حالهم هذا
ليعلم الناس أن وعد الله حق وأن القيامة لا شك فيها وأن الله يحي الموتى
وقيل أنه عندما أراد أحدهم الخروج ليحضر الطعام ذهب المدينة ( دقسوس ) وكان يظن أنها على حالها ولم يبعد عنها إلا يوما واحدا وكانت فى الحقيقة قد تبدلت ثلاثة قرون وتغيرت معالم البلاد والناس وطبيعة النقود والمعاملات فلم يعرف أحد فجعل يتحير فى نفسه وظن أن به جنون فذهب إلى رجل ليشترى ويتعجل الخروج من المدينة وأعطاه ما معه من نقود فأنكرها الرجل وأخذ يتدافعها لجيرانه فى السوق ويقولون لعله وجد كنز وإلا فمن أين له هذه النقود القديمة ؟
فأخذ يكشف عن أمره أنه ترك البلدة من عشية الأمس وكان فيها دقيانوس الملك ، فقالت الناس إنه مجنون وحملوه إلى الوالى فأخبر بأمره وهو أيضا متحير فصحبهم إلى الكهف وطلب منهم أن يسبقهم ليخبر زملاءه كى لا يخافوا
ودخل وتأخر بالداخل فدخل الناس عليهم فوجدوه : وقيل فى ذلك أمران
1 ــ دخلوا وجدوهم ناموا ثانية
2 ــ دخلوا وكان الملك ( يندوسيس ) مسلما وتحدث معهم وفرحوا به ثم ناموا ثانية
( فقالواابنوا عليهم بنيانا ) سدوا عليهم الباب ببناء واتركوهم على حالهم
( قال الذين غلبوا على أمرهم …) قال أصحاب النفوذ والسلطة نبنى عليهم مسجدا
وبالطبع هذا باطل وشرك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبياءهم وصالحيهم مساجد "
( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ، قل ربى أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل ، فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا )
يقول سبحانه وتعالى :
اختلف الناس فى عددهم ثلاثة أم أربعة وهذا خطأ لأنهم يقولون ما لم يتيقنوا منه
(رجما بالغيب ) والبعض قال خمسة أو سته أو سبعة ومعهم كلبهم وهذا هو الأحرى لأن الله سكت على هذا العدد ولم يضعفه مثل الذى قبله
ثم يقول الأفضل فى ذلك أن الله يعلم عددهم ولا يعلم إلا قليل من الناس
( فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ) : فلا تجادل فى ذلك الأمر وكن سهلا لينا لأن ليس منه فائدة
( ولا تستفت منهم أحدا ) : ولا تسأل أحد فهم لا علم لهم به فلا تسأل أحد
( رجما بالغيب ) بدون استناد إلى كلام صحيح
الآيات 23 ، 24
( ولا تقولن لشئ إنى فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله ، واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربى لأقرب من هذا رشدا )
هنا يعلمنا الله عز وجل بالأدب مع الله فى الحديث عن المستقبل أن يرد المشيئة إلى الله ولا يقول سأفعل ذلك ولكن يقول سأفعل إذا شاء وأراد الله لى أن أفعل لأن كل أمر هو بيد الله وحده ولا يعلم الغيب إلا الله
وإذا نسينا فعلينا أن نذكر المشيئة عند التذكر ، لأن النسيان من الشيطان
( وقل عسى أن يهدين ربى لأقرب من هذا رشدا ) : تعنى إذا طلبت شيئا فاسأل عنه الله يوفقك للصواب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهنا لنا وقفة مع قصة لنبى الله سليمان عليه وعلى نبينا السلام إذ قال لأطوفن الليلة على سبعين إمرأة ـ من زوجاته الألف ـ تلد كل إمرأة منهن غلاما يقاتل فى سبيل الله فقال له الملك قل إن شاء الله فلم يقل
فطاف بهن جميعا ( دخل بهن ) فلم تلد منهن إلا إمرأة واحدة نصف إنسان
وقال رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم " والذى نفسى بيده لو قال : إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته " وفى رواية " ولقاتلوا فى سبيل الله فرسانا أجمعين "
دركا لحاجته : أدرك ما طلب
وفى هذا الشأن آيات فى كتاب الله وسوف نعرض لتفسيرها إن شاء الله
( ولبثوا فى كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا * قل الله أعلم بما لبثوا ، له غيب السموات والأرض ، أبصر به وأسمع ، ما لهم من دونه من ولى ولا يشرك فى حكمه أحدا )
يخبر الله تعالى عن مقدار ما لبثوا وناموا حتى بعثهم أنه 309 سنة هلالية أى 300 سنة شمسية ولهذا قال وأزدادوا تسعا لأن فرق السنة الميلادية من الهلالية ثلاثة سنوات
وإذا سئلت عن مدة نومهم قل هذا العدد وأن التوفيق لهذا العلم هو من عند الله فلا يعلمه إلا عالم غيب السموات والأرض
إنه السميع البصير لهم
فلا أحد أسمع بهم ولا أبصر من الله الذى ليس له وزير ولا شريك ولا مشير
الآيات 27 ، 28
( واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك ، لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا * واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا )
يأمرنا الله بتلاوة الكتاب الكريم المقدس ( القرآن) فلن يقدر أحد على تبديله ولا تغييره كما حدث من قبل فى التوراة التى غير فيها اليهود والإنجيل الذى حرفه النصارى
وكتاب الله القرآن لن تجد غيره ملجأ ( ملتحدا )
وكان أشراف قريش طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحدهم فى يوم مخالف ليوم جلوسه مع الضعفاء والمساكين والعبيد من مؤمنى قريش
فأنزل الله القرآن يقول له :
أصبر على الجلوس مع هؤلاء ولا تعرض عنهم ولا تطع الأشراف فيما طلبوا ولا تتجاوز عنهم لغيرهم فهؤلاء الفقراء يدعون الله دوما يطلبون مرضاته أما هؤلاء الأشراف قد أغفل الله قلوبهم عن الحق واتبعوا أهواءهم ورغبات أنفسهم فى الشر والتعالى والتكبر واعلم أن أمرهم تفريط وضياع