سورة المنافقون
تفسير الآيات (5- 6)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
.شرح الكلمات:
{وإذا قيل لهم تعالوا}: أي معتذرين.
{لووا رؤوسهم}: أي رفضوا الاعتذار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ورأيتهم يصدون}: أي يعرضون عما دعوا إليه وهم مستكبرون.
{سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم} أي يا رسولنا.
{لن يغفر الله لهم}: أي أيأس من مغفرة الله لهم.
{إن الله لا يهدى القوم الفاسقين}: أي لأن من سنة الله انه لا يهدى القوم الفاسقين المتوغلين في الفسق عن طاعة الرب تعالى وهم كذلك.
معنى الآيات:
( 5 ) وإذا قيل لهؤلاء المنافقين: أقبلوا تائبين معتذرين عمَّا بدر منكم من سيِّئ القول وسفه الحديث، يستغفر لكم رسول الله ويسأل الله لكم المغفرة والعفو عن ذنوبكم، أمالوا رؤوسهم وحركوها استهزاءً واستكبارًا، وأبصرتهم -أيها الرسول- يعرضون عنك، وهم مستكبرون عن الامتثال لما طُلِب منهم.
يقول السعدى : وهذا من لطف الله وكرامته لرسوله، حيث لم يأتوا إليه، فيستغفر لهم،
( 6 ) سواء على هؤلاء المنافقين أطلبت لهم المغفرة من الله -أيها الرسول- أم لم تطلب لهم، إن الله لن يصفح عن ذنوبهم أبدًا؛ لإصرارهم على الفسق ورسوخهم في الكفر. إن الله لا يوفِّق للإيمان القوم الكافرين به، الخارجين عن طاعته.
0 وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في عبد الله بن أبي بن سلول:
وفصل ابن إسحاق هذا في حديثه عن غزوة بني المصطلق سنة ست على المريسيع.. ماء لهم.. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الماء بعد الغزوة وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عون ابن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار. وصرخ جهجاه. يا معشر المهاجرين. فغضب عبد الله بن أبي بن سلول، وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم غلام حدث. فقال: أوقد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا. والله ما أعدُّنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من حضره من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم: أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فسمع ذلك زيد بن أرقم. فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب. فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ لا ولكن أذن بالرحيل» وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها.
فارتحل الناس، وقد مشى عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به. وكان في قومه شريفاً عظيماً. فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل. حدباً على ابن أبي بن سلول ودفعاً عنه.
قال ابن إسحاق فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟» قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: «عبد الله بن أبي» قال: وما قال: قال: «زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل؟» قال: فأنت يا رسول الله والله لتخرجنه منها إن شئت. هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله ارفق به. فوالله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً!
ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس. ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله ابن أبي.
0 فهذا هو الصف المسلم يندس فيه المنافقون؛ ويعيشون فيه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قرابة عشر سنوات. والرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرجهم من الصف، ولا يعرفهم الله له بأسمائهم وأعيانهم إلا قبيل وفاته. وإن كان يعرفهم في لحن القول، بالالتواء والمداورة. ويعرفهم بسيماهم وما يبدو فيها من آثار الانفعالات والانطباعات. ذلك كي لا يكل الله قلوب الناس للناس. فالقلوب له وحده، وهو الذي يعلم ما فيها ويحاسب عليه، فأما النَّاس فلهم ظاهر الأمر؛ كي لا يأخذوا الناس بالظنة، وكي لا يقضوا في أمورهم بالفراسة! وحتى حينما عرف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالنفر الذين ظلوا على نفاقهم إلى أواخر حياته، فإنَّه لم يطردهم من الجماعة وهم يظهرون الإسلام ويؤدون فرائضه. إنما عرفهم وعرّف بهم واحداً فقط من رجاله هو حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ولم يشع ذلك بين المسلمين.
حتى إن عمر رضي الله عنه كان يأتي حذيفة ليطمئن منه على نفسه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمه له من المنافقين! وكان حذيفة يقول له: يا عمر لست منهم. ولا يزيد! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُمر ألا يصلي على أحد منهم مات أبداً. فكان أصحابه يعرفون عندما يرون الرسول لا يصلي على ميت. فلما قبض صلى الله عليه وسلم كان حذيفة لا يصلي على من عرف أنه منهم. وكان عمر لا ينهض للصلاة على ميت حتى ينظر. فإن رأى حذيفة هناك علم أنه ليس من المجموعة وإلا لم يصل هو الآخر ولم يقل شيئاً!
وهكذا كانت تجري الأحداث كما يرسمها القدر لحكمتها ولغايتها، للتربية والعبرة وبناء الأخلاق والنظم والآداب.
0وهذا الحادث الذي نزلت فيه تلك الآيات هو وحده موضع عبر وعظات جمة..
هذا عبد الله بن أبي بن سلول. يعيش بين المسلمين. قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم تتوالى الأحداث والآيات من بين يديه ومن خلفه على حقيقة هذا الدين وصدق هذا الرسول. ولكن الله لا يهدي قلبه للإيمان، لأنه لم يكتب له هذه الرحمة وهذه النعمة. وتقف دونه ودون هذا الفيض المتدفق من النور والتأثير، تقف دونه إحنة في صدره أن لم يكن ملكاً على الأوس والخزرج، بسبب مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسلام إلى المدينة! فتكفه هذه وحدها عن الهدى. الذي تواجهه دلائله من كل جانب. وهو يعيش في فيض الإسلام ومده في يثرب!
0 وهذا ابنه عبد الله رضي الله عنه وأرضاه نموذج رفيع للمسلم المتجرد الطائع. يشقى بأبيه ويضيق بأفاعيله ويخجل من مواقفه. ولكنه يكن له ما يكنه الولد البار العطوف. ويسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يقتل أباه هذا. فيختلج قلبه بعواطف ومشاعر متباينه، يواجهها هو في صراحة وفي قوة وفي نصاعة. إنه يحب الإسلام، ويحب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحب أن ينفذ أمره ولو في أبيه. ولكنه لا يطيق أن يتقدم أحد فيضرب عنق أبيه ويظل يمشي على الأرض بعده أمام ناظريه. وهو يخشى أن تخونه نفسه، وألا يقدر على مغالبة شيطان العصبية، وهتاف الثأر.. وهنا يلجأ إلى نبيه وقائده ليعينه على خلجات قلبه، ويرفع عنه هذا العنت الذي يلاقيه. فيطلب منه إن كان لا بد فاعلاً أن يأمره هو بقتل أبيه. وهو لا بد مطيع. وهو يأتيه برأسه. كي لا يتولى ذلك غيره، فلا يطيق أن يرى قاتل أبيه يمشي على الأرض.
فيقتله. فيقتل مؤمناً بكافر. فيدخل النار..
0 وإنها لروعة تواجه القلب أينما اتجه وأينما قلب النظر في هذا الموقف الكريم. روعة الإيمان في قلب إنسان، وهو يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكل إليه أشق عمل على النفس البشرية أن يقتل أباه وهو صادق النية فيما يعرض. يتقي به ما هو أكبر في نظره وأشق.. وهو أن تضطره نوازعه البشرية إلى قتل مؤمن بكافر، فيدخل النار.. وروعة الصدق والصراحة وهو يواجه ضعفه البشري تجاه أبيه وهو يقول: «فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني». وهو يطلب من نبيه وقائده أن يعينه على هذا الضعف ويخرجه من هذا الحرج؛
0 والرسول الكريم يرى هذه النفس المؤمنة المحرجة، فيمسح عنها الحرج في سماحة وكرامة: بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا. ومن قبل هذا يكف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رأيه: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟.
ثم تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم في الحادث تصرف القائد الملهم الحكيم.. وأمره بالسير في غير أوان، ومتابعة السير حتى الإعياء، ليصرف الناس عن العصبية المنتنة التي أثارها صياح الرجلين المتقاتلين: يا للأنصار! يا للمهاجرين! وليصرفهم كذلك عن الفتنة التي أطلقها المنافق عبد الله ابن أبي بن سلول، وأرادها أن تحرق ما بين الأنصار والمهاجرين من مودة وإخاء فريدين في تاريخ العقائد وفي تاريخ الإنسان..
وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع أسيد بن حضير، وما فيه من تعبئة روحية ضد الفتنة، واستجاشة للأخذ على يد صاحبها وهو صاحب المكانة في قومه حتى بعد الإسلام!
وأخيراً نقف أمام المشهد الرائع الأخير. مشهد الرجل المؤمن عبد الله بن عبد الله بن أبي. وهو يأخذ بسيفه مدخل المدينة على أبيه فلا يدعه يدخل. تصديقاً لمقاله هو: {ليخرجن الأعز منها الأذل}. ليعلم أن رسول الله هو الأعز. وأنه هو الأذل. ويظل يقفه حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأذن له. فيدخلها بإذنه. ويتقرر بالتجربة الواقعة من هو الأعز ومن هو الأذل. في نفس الواقعة. وفي ذات الأوان.
ألا إنها لقمة سامقة تلك التي رفع الإيمان إليها أولئك الرجال. رفعهم إلى هذه القمة، وهم بعد بشر، بهم ضعف البشر، وفيهم عواطف البشر، وخوالج البشر. وهذا هو أجمل وأصدق ما في هذه العقيدة، حين يدركها النَّاس على حقيقتها، وحين يصبحون هم حقيقتها التي تدب على الأرض في صورة أناسيّ تأكل الطعام وتمشي في الأسواق.
ثم نعيش في ظلال النصوص القرآنية التي تضمنت تلك الأحداث:
{وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءُوسهم، ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون}..
فهم يفعلون الفعلة، ويطلقون القولة. فإذا عرفوا أنها بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم جبنوا وتخاذلوا وراحوا يقسمون بالأَيمان يتخذونها جنة. فإذا قال لهم قائل: تعالوا يستغفر لكم رسول الله، وهم في أمن من مواجهته، لووا رؤوسهم ترفعاً واستكباراً! وهذه وتلك سمتان متلازمتان في النفس المنافقة. وإن كان هذا التصرف يجيء عادة ممن لهم مركز في قومهم ومقام. ولكنهم هم في ذوات أنفسهم أضعف من المواجهة؛ فهم يستكبرون ويصدون ويلوون رؤوسهم ما داموا في أمان من المواجهة. حتى إذا ووجهوا كان الجبن والتخاذل والأيمان!
ومن ثم يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قضاه الله في شأنهم على كل حال. وبعدم جدوى الاستغفار لهم بعد قضاء الله:
{سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم: إن الله لا يهدي القوم الفاسقين}..
ثمَّ ويحكي طرفاً من فسقهم، الذي استوجب قضاء الله فيهم
من هداية الآيات
1– لا ينفع الاستغفار للكافر ولا الصلاة عليه بحال.
2- ذمّ الإِعراض والاستكبار عن التوبة والاستغفار. فمن قيل له استغفر الله فليستغفر ولا يتكبر بل عليه أن يقول: استغفر الله أو اللهم اغفر لي.
3- مصادر الرزق كلها بيد الله تعالى فليطلب الرزق بطاعة الله ورسوله لا بمعصيتهما.
جزاكم الله خيراً على طيب المتابعة
____________________________
المراجع:
تفسير ابن كثير تفسير القرآن العظيم.
التفسير الميسر لمجموعة من العلماء.
في ظلال القرآن الكريم سيد قطب
الجزائرى أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير