ثانيا: قصة سليمان وملكة سبأ
وهي قصة طويلة ذكرها الله في سورة النمل، وقد فصل المفسرون فيها، وذكروا فيها عددا من الروايات، ولم تخل من الإسرائيليات ( ) وسأقتصر على النص القرآني للوقوف عند بعض هذه المواقف التي نلتمس فيها الحكمة في التصرف واتخاذ القرار.
1- وأول موقف نراه هو عناية سليمان برعيته، وتفقده لأحوالهم. (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ) (النمل:20).
2- وسليمان -عليه السلام- لا يتعجل بالحكم على غياب الهدهد، حيث وضع الاحتمال الأول بالسؤال عن سبب عدم رؤيته، (مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) (النمل: من الآية20). فقد يكون موجودا، ولكن سليمان لم يره لسبب من الأسباب، أم أنه كان من الغائبين!!.
إنه منهج للتثبت وعدم العجلة، قبل اتخاذ القرار.
3- وعندما تأكد لسليمان – عليه السلام- أنه كان غائبا أصدر القرار العادل:
العذاب الشديد، أو: الذبح، أو: البراءة، وهي التي تنجيه من إحدى هاتين العقوبتين -إن جاء بسلطان مبين- فسليمان -عليه السلام- لم يغتر بملكه وقوته وقدرته ليتسلط على هذا المخلوق الضعيف، لأنه يعلم قدرة الله عليه.
وقد كان احتياط سليمان -عليه السلام- سليما، ووضعه للاحتمالات كان صائبا، فقد ثبتت براءة الهدهد، فقد جـاء بسلطان مبين، (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ) (النمل: من الآية22).
إنه منهج للعدل، يرسمه سليمان -عليه السلام- وأسلوب في القيادة يندر له المثيل.
4- يسمع سليمان -عليه السلام- خبر سبأ كما حكاه الهدهد، والخبر في غاية الأهمية، بل إنه خبر يزلزل الجبال، ملك قوي، وعرش عظيم، ويعبدون غير الله، كل هذا وهم في جوار سليمان، فقد يهددون ملكه ذات يوم ( ) ومع هذا فلا يتعجل -عليه السلام- ويلتزم منهج التثبت، مع أنه يعلم أن الهدهد أقل من أن يكذب عليه ( ) وبخاصة أن الهدهد بحاجة إلى براءة ساحته بعد تخلفه وغيابه، فمن المستبعد أن يضيف إلى ذلك جريمة لا تغتفر، فإذا كانت عقوبة الغياب بدون إذن هو العذاب أو القتل، فماذا ستكون عقوبة الكذب؟! والهدهد يعلم أن سليمان لا يخفى عليه الكذب، ومع أن كل الدلائل تشير إلى صدق الهدهد، وبعده عن الكذب فإن سليمان -عليه السلام- لا تاخذه العاطفة، ويظل ملتزما بمنهج التثبت، (قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (النمل:27). وهذا عين الحكمة وأساسها.
5- ويكتب سليمان -عليه السلام- الرسالة، وأي رسالة، وبأي أسلوب، حتى مع أعدائه، وهم مشركون -أيضا-، إنه أسلوب رائع حكيم، يقتحم شغاف القلوب ويسيطر عليها، مع الإيجاز والقوة والبيان (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (النمل:31).
6- وعندما يسمع المرء خبر الهدهد، وأن هؤلاء القوم قد ولوا امرأة يتملكه العجب! أليس فيهم رجال؟!! ولكن عندما يرى كيف كانت هذه المرأة تقود قومها؟! وحنكتها، وسياستها، وحكمتها، لا يستغرب ذلك، ويدرك سر هذا الاختيار ( ) ولننظر إلى شيء من حكمتها في قيادة قومها.
(أ) فهي أولا تلتزم بالشورى منهجا وسلوكا، ولا تقطع أمرا دون عقلاء قومها، وهم ملؤها.
(ب) عندما فوضها قومها باتخاذ القرار المناسب، كانت حكيمة وعاقلة فلم تستخف بقوة سليمان، ولم يدخلها الغرور بقول قومها: (نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) (النمل: من الآية33). بل كان رأيها الصائب وموقفها الحكيم، (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل: من الآية34). ولهذا كان لا بد من اتخاذ خطوة عملية تكشف حقيقة عدوها قبل الدخول في معركة قد تكون خاسرة، (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (النمل:35).
ولهذا فقد وصف الحسن -رحمه الله- هذه المرأة، قائلا: كانت هي أحزم رأيا منهم، وأعلم بأمر سليمان، وأنه لا قبل لها بجيوشه وجنوده ( ).
7- ونستمر مع هذه التصرفات الحكيمة، والقرارات الصائبة، حيث جاء جواب سليمان على رسالتها -الهدية- (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) (النمل:36، 37).
قارنوا بين الرسالة الأولى في رقتها ولينها وقوتها، وبين هذه الرسالة في صرامتها وحزمها وبلاغة أسلوبها، وهذه هي الحكمة، "وضع الشيء في موضعه" فالبداية كانت تقتضي مثل تلك الرسالة، والنهاية تقتضي هذه الرسالة، ولقد فعل سليمان -عليه السلام- ما ينبغي، كما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، ولا غرو فقد آتاه الله الملك والحكمة، كما آتى أباه -عليهما السلام-.
8- وأخيرا تتخذ هذه المرأة القرار الحاسم، الحكيم، الذي يعجز عن اتخاذه كثير من الرجال بسبب الهوى، والتعصب، والتقليد، إنه قرار الاستجابة لسليمان -عليه السلام- ودعوته، طائعة مختارة.
9- أما غاية الحكمة وذروتها، فهو موقف سليمان -عليه السلام- مما حدث، فهل داخله العجب والغرور، أو نسب الفضل لنفسه ؟ حاشاه من ذلك، بل قال: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل: من الآية40).
ما أحوجنا إلى تأمل هذه القصة! والإفادة مما فيها، بجميع أطرافها: سليمان -عليه السلام-، ملكة سبأ، الهدهد.
إن إبراز مواطن الحكمة في هذه القصة تبرز من خلال ما يلي:
1- العدل.
2- التثبت.
3- بُعدُ الرؤية، وسعة الأفق.
4- إتقان قاعدة المصالح والمفاسد.
5- القوة بدون عنف، واللين بدون ضعف.
6- أداء المسئولية على وجهها.
7- الشورى.
8- نسبة الفضل لأهله.
9- التنبه والحذر من الاستدراج.
10- القوة في اتخاذ القرار في الوقت المناسب.