تخطى إلى المحتوى

ما تحتاج إليه مدارس اليوم من دعائم التربية الفكرية 2024.

ما تحتاج إليه مدارس اليوم من دعائم التربية الفكرية

ط®ظ„ظٹط¬ظٹط©

ثمَّة إجماع بين قديم علماء الفِكْر والتربية ومعاصريهم، على أهمية العناية بالناشئة وبذل صادق الجهد في تعليمهم، وتهذيب شخصيَّتهم، وصقل مواهبهم، والنهوض بأركان العملية التعليمية، لإيجاد أجيال صاعدة تسلَّحتْ بالعلم النافع المفيد، وأفادتْ منه في بناء الأمَّة والحضارة وفق أعلى ضوابط الجودة والإتقان.

وقد حفِظ التَّاريخ لمن مضى من علماء السَّلف الصَّالح فضْلَهم الكبير حين أسَّسوا قواعد علوم التَّربية، وقاموا بشأْنِ العمليَّة التعليميَّة خير قيام، ونثروا بُذُورها بسخاء، فآتتْ أكلها مع الجيل الصَّاعد الذي كان تربة خصبة أثمر معها ما بُذل من الجهد، فانعكس صدق تلك المساعي في ظهور أشْبال غدَوا فيما بعد أسودًا سادوا الزَّمان والمكان.

وقد امتلأ تُراثُنا الإسلامي المجيد بالكثير من نماذج المعالم التَّربويَّة المضيئة، التي دلَّتْ على استيعاب سلفِنا الصَّالح لأبعاد التَّعليم المنهجيَّة، وما تحتويه من أُسُسٍ وأرْكان، فأرْسَوا بذلك نظريَّات تربويَّة أصَّلتْ فلسفة الفكر والتَّربية، ودفعتْ بعجلتها قُدمًا نحو الأمام، وفاح لأجْلِها عبق الرُّقِي وعبير الإبداع.

إنَّ التعليم لا شكَّ واحد من أهمِّ مستلزمات بناء الحضارات، واتِّساع آفاق الذِّهْن، وبناء العقول التي تخدم أبناء الأمَّة، وتُقدِّم لأجل النهوض بها الغاليَ والنَّفيس، وما تزال حاجتنا – نحن أبناءَ اليوم – قائمة لمعرفة المزيد من حال سابقينا من أهل السَّلف، وهم يتناولون أبعاد الفكر الحضاري تلك، ولا بدَّ لنا أن نتشوَّف صورًا من حياتِهم العلميَّة والعمليَّة، وأن نضرب أمثِلة فريدة، قد تساعد في بعْثِ رُوح من الحياة الجديدة في أوْصال مؤسَّساتنا التَّعليمية، عساها ترث عن سابقاتِها بعضًا من مجدها الرَّفيع وعزِّها التَّليد.

وبين أيدينا الآن معالِم تُضيء طريق أستاذ اليوم وطالب العِلْم المعاصر، إنْ هما أرادا اقتِفاء أثر من كان قبلهما واتّباع سننه، وما أشدَّ ما تحتاج إليْه مدارسنا لتطبيق تلك الدَّقائق الأدبيَّة في وقت يشهد شُحَّ ما فيه من المثل والقيم والآداب، مما ينذر باقتراب وقوع الخطر الَّذي يتمثَّل في انهِيار دعائم العمليَّة التربوية، وما يترتَّب على ذلك من ضرر بالغ، وحينها لات ساعةَ مندم.

تعتمد نظريَّة التَّدريس الناجحة، على العديد من العوامل التي يأتي في قمَّتها إيجاد علاقة وثيقة متوازنة بين الطَّالب والأستاذ، وهما طرفا الموضوع اللَّذان يمثِّلان حجر الأساس في عملية البناء الفكري المتطوِّر، وينبثق عن ذلك حقوق محفوظة ينالهها كلّ ذي حق، وواجبات تترتَّب على هذين الشريكَين، وسنعمد هنا إلى دراسة الأمر عن كثب من زواياه المختلفة، وذلك في صورة نقاط يمكنها أن تندرج تحت عنوان: "ما تحتاج إليه مدارسنا من متطلبات عملية التعليم الناجحة".

حق الطالب على الأستاذ:
سعى المربي المسلم قديمًا إلى توثيق أواصر المودّة، وبثّ روح سامية من التعاون المتبادل بين الأستاذ والطالب، ويهدف ذلك إلى تحْقيق أكبر قدر من الفائدة المرجوَّة من عمليَّتي التعلُّم والتعليم، وها هو – على سبيل المثال – ابن جماعة يصِف الحال المثلى لتلك العلاقة الفريدة، فيقول: "وينبغي أن يعتني الأستاذ بِمصالح الطَّالب، ويعامله بما يعامل به أعزَّ أوْلاده من الحنوِّ والشَّفقة والإحسان إليْه، والصبر على جفاء ربَّما وقع منه، ونقصٍ لا يكاد يخلو الإنسان منه، وسوء أدب في بعض الأحيان، ويبسط عُذْرَه بحسب الإمكان، ويوقِفه على ما بدر منه بنُصْحٍ وتلطُّف، لا بتعنيف وتعسُّف، قاصدًا بذلك حُسْن ترْبِيته وتحسين خلُقه، وإصلاح شأنه"

ويقول في مقام آخر: "وكذلك ينبغي على الأستاذ أن يترحَّب بالطلبة إذا لقيهم، وعند إقبالهم عليه، ويكرمهم إذا جلسوا إليْه، ويُؤْنِسهم بسؤاله عن أحْوالِهم وأحوال مَن يتعلَّق بهم، وليعامِلْهم بطلاقة الوجْه وظهور البشر وحسن المودَّة، وإعلام المحبَّة وإضمار الشفقة" .

إذًا؛ يكاد المعلِّم هنا – بمنظور ابن جماعة – أن يبلغ منزلة الأب الحقيقي، الذي يحرص على العناية بمصالح أبنائه، مع خفضٍ في الجناح ولينٍ في الجانب، ويبذل تجاههم المشاعر الصادقة الحانية، ونراه وقد أجاد في حفظ حقِّ الصُّحْبة، وأظهر تجاه الطَّالب صادق التودُّد وحسن الخلق، وهو في الوقت نفسه لا يتردَّد في التِماس العذر لتلميذه، إنْ هو قد نسِي أو أخطأ، في جوٍّ يسودُه تخوُّل النصيحة المبشِّرة لا المنفِّرة.

ويزيد ابن جماعة في كلِماته الرائعة تلك، فيقول واصفًا حالة الاستِقْرار والصَّفاء والودّ الصَّادق التي تسود الحلقة العلمية: "فإنْ كان الطَّالب مريضًا عاده، وإنْ كان في غمٍّ خفض عليْه، وإنْ كان مسافرًا تفقَّد أهله وسأل عنْهم، وتعرَّض لحوائجِهم، وإنْ لم يكن شيءٌ من ذلك تودَّد عليْه ودعا له" .

إنَّ الارتِقاء الرَّفيع بالعلاقة بين مِحْوري عمليَّة التَّعليم – الأستاذ وتلميذه – تنمِّي أطْيب المشاعِر نحو ما يقدِّمه المربِّي من العلم، وفي ذلك تنمية لأُفُق التِّلْميذ وملكاته، تدفَعُه إلى بذْل المزيد من جهد الطَّلب والتحصيل، وهذا لا شك يحقِّق الغاية النبيلة والهدف السامي المطلوبَين.

ويمضي المعلِّم الفذُّ ابن جماعة، فيوصي الأستاذ بالرفق وعدم تحميل تلميذه ما لا يطيقه من الواجبات، ونراه عن ذلك يقول: "إذا سلك الطَّالب في التَّحصيل فوق ما تحمِله طاقته، وخاف الشَّيخ ضجره، أوْصاه بالرفق بنفسه، والأناة والاقتِصاد في الاجتهاد، وكذلك إذا ظهر منه سآمة أو ضجر، أمَرَه بالرَّاحة وتَخْفيف الاشتِغال، ولا يشير على الطَّالب بتعلُّم ما لا يحتمِلُه فهْمه أو سِنُّه"

وما أحْوجَ مدارسَ اليوم إلى فكرٍ تربويٍّ راقٍ كهذا! تسمو به أجواء من العلاقة الوثيقة بين الأستاذ وتلاميذ صفِّه، إذ تخيِّم عليهم سحائب التَّراحم، ويغلب عليهم سيماء التعاطف والتوادّ، فيغدو بهم الحال إلى أن تصبح حلقة الدرس أشبه بأسرة واحدة وجسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.

يتــــــــــــخليجيةــــــــــــبع


وماذا عن حقوق الأستاذ؟

على الجانب المقابل لضفة نهر الفكر، نرى أنَّ سلفنا من فضلاء المربِّين لم يهملوا حقوق الأستاذ، بل نراهم وقد حفِظوها كاملة في أجواء متوازنة تعطي كلَّ ذي حق حقه، وهم بذلك يضمنون لكل طرف معنيٍّ ما له عند الطرف الآخر، ويفرضون عليْه واجبه، وكان ذلك سببًا في أن تسود في فضاء العمليَّة التَّعليميَّة روح من العلاقة المثاليَّة المتبادلة.

ونرى على سبيل المثال ابن جماعة، وهو يقول للتِّلْميذ وهو يعظه: "وينبغي أن ينقاد التِّلْميذ لشَيْخِه في أموره، ولا يَخْرُج عن رأْيِه وتدبيره، فيشاوره فيما يقْصِده، ويتحرَّى رضاه فيما يعتمِدُه، ويتقرَّب إلى الله بخدمته، ويعلم أنَّ ذلَّه لشَيْخِه عزٌّ وتواضع له ورفعة" .

وها هو يوصيه في مقام آخر قائلاً: "وأنْ يعرف للأستاذ حقّه، ولا ينسى له فضله، ويعظّم حرمته، ويردّ غيبته، ويغضب لها، وينبغي أن يصبر على جفوة تصدر من شيخه، أو سوء خلق، ولا يصدّه ذلك عن ملازمته " .

ونرى ابن جماعة يقول في فصْلٍ آخَر، مشجِّعًا على التخلُّق بأحسن الخلق مع أستاذ الحلقة: "وينبغي ألاَّ يدخل على الشيخ في غير المجلس العام إلاَّ باستئذان، ويدخل كامل الهيئة متطهِّر البدن والثياب نظيفهما، وإذا حضر فلم يجدِ الشيخ انتظره لكيلا يفوِّت على نفسه درسه، فإنَّ كلَّ درس يفوت لا عوض له، ولا يطرق على الشيخ ليخرج إليه، وإنْ كان نائمًا صبر حتَّى يستيقظ، أو ينصرف ثمَّ يعود، وينبغي أنْ يَجلس بين يدي الشَّيخ جِلسة الأدب، أو متربِّعًا بتواضُع وسكون، ويُصْغِي إلى الشيخ ناظرًا إليْه ويُقْبل بكلِّيَّته عليه، متعقِّلاً لقوله، ولا يلتفِتْ من غير ضرورة، ولا ينظر إلى يَمينه أو شماله أو فوْقه أو قدَّامه بغير حاجة، ولا يعطي الشَّيخ جنبَه أو ظهره، ولا يعبث بشيءٍ من أعضائه، ولا يكثر كلامه من غير حاجة، ولا يضْحك لغير عجب، فإنْ غلبه تبسَّم تبسُّمًا من غير صوت" .

إنَّ التزام طلابنا اليوم بتعليمات رائدة كتلك التي صاغها المربّي ابن جماعة، يدفع بخطى واثقة عجلةَ التعليم نحو الأمام، فهو يُعلي من شأن الأستاذ ويرفع من قدره، وهذا لا شك سينعكس في صورة المزيد من الإخلاص والتفاني في تقديم ما وُهب الشيخ من علوم ومعارف، وبذلها بصدر رحب تجاه الطلاب، وإذا انعكست الأمور، فلنا أن نتخيّل ما ستصير إليه الحال لو لم يأخذ المدرِّس حقه من الاحترام والتقدير، وما سيصدر عن ذلك من إهماله اللاحق لجانب التحضير والتلقين، نتيجة هضم ما فرضتْه المدرسة الفكريَّة على الطلاب من واجبات تجاه معلّميهم.

وفي واقعِنا المعاصر نلمس في الكثير من الأمثلة، جانبًا من تقصير بعض التلاميذ في أداء حقوق أساتذتهم، ولا يخفى على أحد الآثار السلبية المترتّبة على ذلك، التي أخّرتْ سير العملية التعليمية ودفعتْ بها نحو الوراء، ولن ترجع الأمور إلى نصابها القويم إلاَّ حينما تعود للأستاذ كامل حقوقه التي ضمنتْها له المحافل التربوية والتعليمية.

وللزملاء حقوقهم أيضًا:لزملاء حلقة الأمس وفصل اليوم الكثير من الحقوق التي يفرضها التفاعل التربوي النموذجي، فللزميل – كما يرى ابن جماعة مثلاً – على زميله حق أدب التعامل وحسن المعايشة، وعلى تلميذ الصف أن يتأدَّب مع زملائه من الحاضرين في مجلس الأستاذ؛ فهم قبل كل شيء رفقاؤه، وعليه أن يوقِّر أصحابه ويحترم زملاءَه وأقرانه، ولا يجلس وسط الصَّفِّ ولا أمام أحد إلاَّ لضرورة، وعليْه أيضًا ألاَّ يفرّق بين رفيقين أو مُتَصاحبَيْن إلاَّ بإذْنِهما، وإنْ جاء قادم ما رحَّب الزملاء به ووسَّعوا له وتفسَّحوا لأجله في مجالِسِهم، وأكرموه بما يُكرَم به مثله .

لا شكَّ أنَّ في الالتزام المتبادل للأدب والاحتِرام بين تلاميذ الصف الواحد أثرًا إيجابيًّا ملموسًا، في إثراء العمليَّة التربويَّة والنهوض بها، فالفصْل الدراسي حينها يسير بيُسْر وسلاسة واضحين، وقد خيَّم على جنباته الهدوء ونزلتْ عليه السَّكينة، فخُلُق الاحترام حينها متبادل، والإيثار واضح، والتأدُّب مع الجميع ظاهر، وبذلك تَمضي الحلقة العلمية وقد حفَّتها الملائكة، وقد ذكر الله طلابها فيمَن عنده.

أمَّا إنْ ساد نقيضُ ذلك، وبدتْ العلامات المضادَّة لتلك الأخلاق الفاضلة، فإنَّ الفصل ستسودُه مشاعر الضَّغينة والبغضاء، وسيؤثِّر ذلك حتمًا في الأهداف التَّربويَّة الَّتي ستقلُّ شيئًا فشيئًا، حتَّى تذوب تمامًا، وستصبح العمليَّة التعليميَّة عديمة الأثر والجدوى، وسيُثْمِر عن ذلك ظهور جيل تنقصه الكثيرُ من فضائل الأعْمال ومحاسن الأخلاق.

التركيز على العناية بالكيف لا بالكمّ:
حرَص سلفنا الصالح على تقديم خلاصة الفائدة المركَّزة وجوهر المادة العلمية، بالاعتماد على القدر اليسير من المعلومات الذي يتَّسم بالعمق والوضوح، وإيضاح ذلك بتأنٍّ ورويَّة للوصول إلى محصِّلة علميَّة ذات فائدة وجدوى.

وقد اهتمَّ أساتذة الماضي بموْضوع الإتقان والجودة، فوضعوا نُصْبَ أعيُنِهم الأخذ بالعزائم، وبذل قصارى الجهد في تَحسين الأداء، وصرفوا أنظارهم عن التوسُّع الزَّائد في تلقين المادة العلمية عبر حشو عقلية التلاميذ بفيض من المعلومات، من غير التيقُّن من استيعابها والإحاطة بأسرارها ومكنوناتها.

ولاهتمام المعلِّم بالتنمية المستمرَّة لقدراته الفكريَّة والتربوية الخاصَّة دور هام في التمكُّن من المادَّة العلميَّة، والإحاطة بكمٍّ أكبر من أسرارها، وفي ذلك بذْل للمزيد من العطاء وتوطيد للعلاقة مع تلاميذ الصف، وسيكبر المدرِّس حينها في أنظار هؤلاء، وسيصبح بلا شكٍّ محطَّ إعجابهم وتقديرهم.

كما أنَّ لتِلْك الاستِزادة التي عُرفتْ حديثًا باسم التَّثقيف المستمرّ، وعدم الاستِنْكاف عن طلب العلم، والاشتغال بالتَّصنيف والجمع والتأليف والاطِّلاع على الفنون ودقائق العلوم – أثرًا واضحًا في إثْراء العمليَّة التَّربويَّة ونجاحها، وتحقيق أسمى أهدافِها وأنبل غاياتِها، وفي ذلك اهتمامٌ صادِق في ترْقِية الذَّات والإعْلاء من شأْنِ الكيْف على حساب الكمّ.

ولنضرِبْ مثالاً عن حال السَّلف الصَّالح وهم يتناولون هذه الجزئيَّة التَّربويَّة، فالمدرِّس الكفْء في نظر الشَّيخ ابن جماعة تقعُ على عاتقه الكثير من المسؤوليات، فهو قدوة فاعلة تترك بصماتها الواضحات في المجتمع، فعليه إذًا ألاّ يجعل العلم وسيلة يصل بها إلى الأغراض الدنيوية من جاه أو مال أو سمعة أو شهرة، وعليه أيضًا أنْ يتنزَّه عن دنيء المكاسب ورذيلها، وأن يتجنَّب مواضع التُّهم والريبة .

يتبـــــــــــــــــخليجيةــــــــــــــع


والمدرِّس الكفْء أيضًا لا يقترِب ممَّا يطعن في مروءتِه، حتَّى لا يعرِّض نفسَه للتُّهْمة، أو يوقع النَّاس في ظنون مكْروهة، وهو من جانِب آخَر ينهض في مصالح المسلمين، ويأخذ نفْسَه بأحْسن الأفعال الظَّاهرة والباطنة، ونراه يعامل النَّاس بمكارم الأخْلاق، وتتَّضح في هدْيِه أخلاق كظم الغيظ وإفشاء السَّلام والإيثار وترْك الاستئثار، والسعي في قضاء الحاجات.

ويكمل ابن جماعة وصفه للمدرِّس المثالي، فنراه يبتعد عن التَّنافس في الدنيا والمباهاة بها، ويذمُّ المداهنة وحبّ المدْح بما لم يفعل، ويشتغل عن عيوب الخلْق بعيوب نفسه، ويترك الحميَّة والعصبيَّة لغير الله.

وعلى الجانب المقابل، يُولِي ابن جماعة اهتمامًا زائدًا ورعاية خاصَّة بالطَّالب الذي أظهر نُجْبًا متّقدًا وذكاءً واضحًا سبق به أقرانَه، فنراه يوصيه بتطهير قلبه من صفات الغش والخلق السيئ وسوء العقيدة، وينصحه بتصحيح النِّيَّة والمبادرة إلى التحصيل، وعدم الاعتياد على حياة التسويف والتَّأميل، وأنْ يكون له خطَّة واضحة يقسّم فيها أوقات ليله ونهاره، وأنْ يستخير الله فيمن يأخذ العِلْم عنه، وألاّ يخرج عن رأي شيخه وتدبيره، ويحفظ له حقَّه ولا ينسى له فضله، ونراه أيضًا يركِّز على حضور الذِّهْن الدَّائم، وتصحيح القِراءة المتقن قبل الحفظ النهائي، وفي ذلك امتلاك لناصية الموضوع، والتَّقليل من نسيانه.

وقد أولى ابن جماعة جانب علوِّ الهمّة أهمية خاصّة وتشجيعًا مضاعفًا، فنراه يوصي الطَّالب النَّبيه بعدم الاكتفاء بقليل العلم مع إمكان أخذ كثيرِه، وعدم تأخير تحصيل الفوائد، واغتِنام وقت الفراغ والنَّشاط والعافية ونباهة الخاطرة، وإنْ أشْكَل عليْه شأنٌ ما، سارع فسأل عنه بتلطُّف وحسن خطاب.

الاهتمام بالجانب التطبيقي في تثبيت المعلومات:
ثمَّة إجماع لدى أهل الخبرة والاختِصاص التربوي، على أهميَّة التَّطبيق العملي لما يتمُّ تلقينه للطَّالب من معلومات نظريَّة، ففي ذلك تثبيتٌ لها، ووصْلها بالمادَّة العلميَّة، وقد غدا ملموسًا ما نراه من شيوع عادة حفظ كمٍّ ضخم من المعلومات النظرية، التي يضنُّ الأستاذ بجانبها التطبيقي العملي، فينشأ لدى ذلك التلميذ ضعفٌ علمي ملموس، تتّضح معالمه بحفظ المادة العلميّة من غير إدراك لاستعمالاتها أو فقه لمكنوناتها، وسرعان ما تنضب المعلومات لاحقًا، ويعود ذلك كلّه إلى الاهتمام بالجانب النظري البحْت، وإهمال التطبيق العملي وإغفال مراجعة ما تمّ تلقينه من معلومات.

ولدى ابن جماعة في هذا الباب كلام نفيس، فنراه يقول: "إذا فرغ الشَّيخ من شرح درس، فلا بأس بِطَرْح مسائل تتعلَّق به على الطَّلبة يمتحن بها فهمهم، وضبطهم لما شُرح لهم، ومَن لم يفهمه تلطَّف في إعادته له بطرح المسائل؛ لأنَّ الطَّالب ربَّما استحيا من قوله: لم أفهم".

وتحقيقًا لذلك؛ ينصح ابن جماعة المعلّمَ الناجح بأنْ يطالب تلاميذه بإعادة ما أملاه عليهم من العلوم، وامتحان استيعابهم لما قدّم لهم من القواعد والمسائل، وفي ذلك ضبط للنص المحفوظ من أفواه الطلاب، وسبر لما لديهم من معلومات، والتأكد من تثبيتها في أذهانهم، وهذا تعويد للفكر على التنظيم والتحليل، وتحقيق لأهداف الربط والاستنتاج.

من جانب آخر، فإنّ تحوّل عملية التعليم إلى مسرح أصمّ من التلقين والتلقيم، وضعف لغة الحوار والتفاعل البنّاء، وإهمال عامِلَي الأخذ والعطاء بين الطَّالب وأُستاذه، يحوّل القاعدة التعليمية إلى عادة يغلب عليْها طابع الجفاف والتصحُّر، وتُضْفِي على الجوِّ سمة الملل والرَّتابة، وتغدو المحصِّلة النّهائيَّة حينها ضعيفة باهتة لا رُوح فيها.

مراعاة اختلاف الملَكات بين طالب وآخر:
يتحتّم على المربي الناجح أن يُلقي البال تجاه الفروقات الفردية بين طلاب الصف الواحد، ولا شكّ أنَّ اختلاف الملكات أمر ملاحظ لا بدَّ منه، والأستاذ القدير يعلم تمامًا أنّه ليس للطالب الأقلّ ذكاءً والأدنى فطنة من أقرانه ذنب في ذلك، وعليه فإنّ ميزان التعامل مع الجميع يجب ألاّ يتوحّد، فأمام الأستاذ عدد كبير من الطلاب، ولا يعقل أنْ يكون جميعهم في مستوى واحد من قدرة الاستيعاب أو مستوى الفهم أو حاضرة البديهة، وهذا يتطلّب من المدرّس روحًا أطول من الأناة والتروي وسعة الصدر، وبذْل المزيد من الجهد، فقد يَحتاج البعْض إلى إعادة شرْح نقطة ما مرَّة أخرى أو أكثر.

وأستاذ الفصْل الدراسي هنا حينما يراعي هذا الجانب، والد عطوف يعرف إمكانات ولده الذهنية وقدراته الاستيعابية، وهو بذلك ينصح كلّ تلميذ على حدة بناءً على معطيات شخصيّته وملَكاته، ولا يتردّد في إعادة الشرح ولا يملّ مع التكرار، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

يقول أستاذ الأمس ابن جماعة عن ذلك: "وينبغي أنْ يحرص الأستاذ على تعليم تلميذه وتفهيمه ببذل جهده وتقريب المعنى له من غير إكثار لا يحتمله ذهنه، ويوضّح لمتوقّف الذهن العبارةَ، ويحتسب إعادة الشرح له وتكراره، وإذا علم أنه لا يفلح في فنّ أشار عليه بتركه والانتقال إلى غيره ممّا يرجى فيه فلاحه".

تعزيز عملية التشجيع والثواب:
تُظهر لنا نتائج العديد من الدراسات التربوية الدورَ الفاعل والأثر الإيجابي الذي تتركه عملية تشْجيع الطالب ومدحه أمام أقرانه، وانعكاس ذلك في صورة المزيد من البذل وتقديم الجهود والحرص على الاستِزادة من طلب العلم، ونرى هنا ابن جماعة وهو يبثُّ روح الثناء والمديح الإيجابيَّة في نفوس طلاَّبه، فيقول: "فمَن رآه مصيبًا في الجواب، شكَره وأثنى عليه بين أصحابه، ليبْعَثه وإيَّاهم على الاجتِهاد في طلب الازْدِياد، ومَن رآه مقصِّرًا ولم يخَفْ نُفوره، حرَّضه على علو الهمَّة ونيل المنزلة في طلب العلم" .

وعلى النَّقيض من ذلك، نلاحظ في بعض مدارس اليوم ذُيوع ظاهرة اللوم وتوجيه مطارق التَّوبيخ والتَّأنيب واستخدام عبارات التَّثبيط، التي تجري على لسان بعض الأساتذة تجاه الطالب المقصّر، وفي ذلك تأثير سلبي مدمّر، فهو يُضعف دافع التعلّم لدى التلميذ المستهدَف، وقد يدفعه إلى التمرُّد والإعراض عن متابعة التَّعليم، وأيّ ضرر يمكن تجنُّبه أكبر من ذلك؟! ويبقى تقديم النُّصح بالحكمة والموعِظة الحسنة، والبعد عن الفظاظة – حجرَ الأساس في برنامج الوقاية الناجح من تلك الآثار التعليمية الضارة.

الاهتمام بالأمانة العلميَّة:
تضمّ الأمانة العلميَّة جوانب التناول الجادّ لوسائل العلم، والتدقيق في موارده، والحرص على مصادره الصحيحة، وأدائه أداءً دقيقًا مع تحرِّي ألفاظه ونصوصه.

وقد حقّق طلبة السلف الصالح أهداف الأمانة العلميّة، وعُنوا بتطبيقها، فنراهم يكتبون عن الشيخ، ثم يصحّحون مذكّراتهم بعرض كتاباتهم على الشيخ نفسه، ونراهم من جانب آخر يوجبون على المحدّث التراجع عن روايته إذا تبيَّن خطؤه فيها، وعدُّوه آثمًا إن لم يفعل ذلك.

وتستدعي الأمانة العلمية في كثير من الأحيان بذل جهد مضاعف في تحضير المادة العلميّة، وفي ذلك إحاطة العلم بالعناية والإتقان، ويقول في ذلك ابن معين على سبيل المثال: "إنّي لأحدّث بالحديث فأسهر له، مخافة أن أكون قد أخطأتُ فيه" .
ومن مظاهر الأمانة العلميَّة الأخرى: اعتماد الكثير من المحدِّثين على الكتب أكثر من اعتمادهم على الذاكرة في تلقين ما بجعبتهم من العلوم، وعدم نشْر المصنّفات إلاَّ بعد تهذيبها وتحريرها وتنقيحها.

يتبــــــــــــــــــخليجيةـع


وما أعظم أستاذَ اليوم، وهو يحقِّق شرط الأمانة العلميّة! هذا في تدريس مادته المنهجيّة، فنراه يحضّر الدرس بتدبّر وإخلاص قبل إلْقائه على مسامع طلابه، ونراه يعود إلى أمَّهات الكتب والمراجع ليستزيد منها ما يفيده من معلومات تعطي الدرس حقَّه من الإجادة والإتقان.

نشر العلم إلى أكبر شريحة ممكنة:
ممَّا يتحتَّم على المدرِّس من واجبات تُمْليها عليْه عناصر العمليَّة التربويَّة المثاليَّة: نشْر العِلْم والثَّقافة إلى أكبر عددٍ مُمْكن من الطُّلاب، والمساهمة في تضْييق دائِرة الجهْل في المجتمع إلى أصْغَر ما يمكن، ونرى تطبيقَ الكثير من عُلَماء السَّلف الصَّالح لذلك الهدَف النَّبيل واضحًا، فها هو مثلاً عطاء الخراساني إذا لم يَجد أحدًا يحدِّثُه، يأتي المساكين فيُمْلي عليهم، وها هو وكيع يَمضي في الحرّ ليحدّث السقَّائين وهو يقول: "هؤلاء قومٌ لهم معاش لا يقدِرون أن يأتوني"، فيحدِّثهم يتواضع بذلك .

ونرى من ذلك أيضًا الوليد بن عتبة يلوم تلميذًا له دأب على التأخُّر عن حلقة الدرس، فلمَّا عَلِم أنّه رجل مُعيل يَخشى أنْ يفوته معاشه، أوْقفه عن حضور الحلقة، وصار يمشي إليه يقرأ له ما فاته من علوم في دكَّانه، لمِا رأى من حرصه وتوخِّيه لطلب العلم .

إنَّ حِرْص الإنسان المثقَّف على نشر ما أوتي من العلم والتنوير في البيئة من حوله – خُلُقٌ قويم، وفضل من الله عظيم يؤتيه من يشاء، وهو لا شكَّ من أعظم الصدقات الجاريات التي يستمرُّ أجْرُها وثوابها بعد موت صاحبها، والامتناع عن سنَّة كتلك يفوِّت على المتعلِّمين كثيرًا من فُرَص العلم، التي قد تكون أحيانًا منْعطفًا جذريًّا يحوِّلهم نحو جادَّة الخير ويقودهم نحو طريق الصَّواب، وما أجَلَّ أستاذ اليوم وهو يَجود على مَن حوله بشيءٍ ممَّا اكتسبه من العلوم والمعارف! كلٌّ بحسب تخصُّصه وخبراته، وما أعظمَ ما يخدم به مجتمعه الَّذي هو بأمسِّ الحاجة إلى مثل تلك التَّعليمات والإرْشادات!

توخِّي الرِّفْق ولين الجانب:يُجْمع علماء الفِكْر والتربية، على أنَّه ما مُزجتْ الشدَّة مع شيء إلاَّ شانته، ولا شكَّ أنَّ ذلك ينطبق أيضًا على سيْر العمليَّة التعليميَّة، فالشدَّة الزَّائدة على طلاَّب العلم مضرَّة بهم، واتِّباع أسلوب اللَّوم والتَّوبيخ والضَّرب والتعنيف، حاجز تتعثَّر معه التربية القويمة، ويؤثِّر سلبًا في الكيان الإنساني، ويُبعد الأهداف العلميَّة عن مسارها التربوي الصحيح، فتتأخّر هنا النتائج المرجوّة، وهذا سيدفع بالمتعلّم إلى اتّباع أساليب الكذب والمكر والخديعة؛ خوفًا من تسلُّط المعلِّم، وسيظهر بذلك جيل ذو خلُق سيئ منحرف، وقد كسلتْ نفسه عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل.

يقول ابن خلدون معلِّقًا على حال حلقات العلم التي طغتْ عليها أجواء الحزم الزائد والشدَّة: "ومَن كان مرباه بالعسْف من المتعلِّمين، سطا به القهْر، وضيَّق عن النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعا إلى الكسل وحمل على الكذِب والخبث؛ خوفًا من انبِساط الأيدي بالقهر عليه، وعلَّمه المكر والخديعة لذلك، وصارتْ له هذه عادة وخُلُقًا".

ومما يُحزن من واقع حال مدارسنا اليوم: ما نراه من وسائل الشِّدَّة والقمع المستخدمة من قِبل بعض الأساتذة، وتوظيفهم لوسائل القهْر والإذلال والجور تجاه طلاَّبهم، ولا يخفى على أحد ما نتج عن ذلك من مشكلات تربويَّة ونفسيَّة واجتماعيَّة، كان لها وقع مؤْلِم في أسماعنا وقلوبِنا على حدٍّ سواء.

الجدّ والمواظبة في طلب العلم:
بلغتْ أهمية الجدّ وحضور الذهن المتّقد والحرص على جني الفائدة العلمية شأنًا عظيمًا لدى سلفنا من علماء المسلمين، فنراهم يُولون الأمر عناية خاصة، تحثّ طالب العلم على بذل عظيم الجهد والاستفادة من أقصى ما أوتي من طاقة وقدرة لنيل أكبر قدر من المعارف والعلوم.

وطالب العلم في نظر الإمام الزرنوجي مثلاً، ما يبرح يسهر الليالي ويكرِّر ما أخذه عن الشيخ في أوَّل الليل وآخره، وهو أيضًا يغتنِم أيَّام الحداثة وعنفوان الشَّباب، ويستفيد منها بأكبر قدر مُمكن من بذْل الطَّاقة والجهد .

وينصح الزرنوجي طالبَ العلم بالأخذ بالجدِّ والهمَّة ما استطاع إليهما سبيلاً، ويصفه بالتلميذ الفطن النَّبيه الَّذي لا يتردَّد في حضور مجالس أهل العلم؛ لعلمه أنَّ ما ينفعه من العلوم يتوزَّعُه هذا وذاك، ولذلك فإنَّه يستفيد في جَميع الأحوال والأوقات، وينهل من جميع الأشخاص دون استثناء.

والتِّلْميذ المثالي في نظَر الزرنوجي لا يفتر ولا يكلُّ ولا يملُّ، ويأخذ العلمُ منْه جلَّ وقْتِه، وهو يستعين بالله دائمًا، ويتذرَّع بالصَّبر والهمَّة والمتابعة، ويتحلَّى بالطُّموح وينشد الترقِّي.

ختامًا:
فإنَّ ما ذُكر من معالم فكريَّة وآفاق تربويَّة، ما هو إلاَّ غيض من فيض، واهتمام السَّلف الصَّالح بأبعاد الموضوع أكبر من أن يُحْصَر، وما تلك إلاَّ نقطة من كأس، سُدْنا وارتقَيْنا إنْ نحن شرِبْناه، وما أحرانا – نحن أساتذةَ اليوم وطلاَّبه – أنْ نستشْعِر دومًا كلامًا قيِّمًا كهذا؛ لنستفيد منه في واقعِنا التَّعليمي ومستقبلنا العلمي، وليْس من الحكمة المرور على تِلْكم المواقف بسرعة أو قلَّة تدبُّر، من غير أنْ نطبِّق ما حملتْه بين طيَّاتها من أخلاق وآداب تفيد منها مؤسساتنا التربوية القائمة، فتقيل من عثرتها وتنتشلها مما وصلتْ إليه من تأخر وتخلّف.

إنَّ ارتقاء علماء سلفنا الصالح وتقدُّمهم العلمي الذي شهدتْ لهم به الحضارات المختلفة، ما كان إلاّ بفضل ما بذلوه من جهد تربوي صادق، هذّبوا به أنفسهم وتعاهدوه، وكان أنْ رفع الله بالعلم مَن شاء مِن هؤلاء حين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من البذل والعطاء، في سبيل النهوض بالفكر والعلم والثقافة.

المراجع:
– تذكرة السَّامع في أدب العالم والمتعلم، بدر الدين بن جماعة، دار الكتب العلمية، بيروت.
– تعليم المتعلم في طرق التعلم، برهان الدين الزرنوجي، دمشق.
– مقدمة ابن خلدون، بيروت، دار الكتب العلمية.
– الجامع لأخلاق الراوي والسامع، الخطيب البغدادي، الرياض.

بالتوفيق

بارك الله فيكي ام انفال
بارك الله فيك أم أنفــــآل
موضوع قيم … اختيار راائع جدآآآ
جزاك الله كل خير …
ودي لك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.