الحمد لله الذي جعل لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأرسل إلينا رسولاً
رؤوفاً رحيماً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين جاهدوا في سبيل الله جهاداً
عظيماً.
أما بعد..
فإن قضية التأليف بين فصائل الأمة، والسعي في إصلاح ذات بينها وجمع شملها
على الحق والهدى، ورأب صدعها والتقريب بين فئاتها المتنازعة من أعظم
أصول الإسلام، ومن أفضل أبواب الخير، وضرب من ضروب الجهاد في سبيل
الله، والأمة لم تؤت من ثغرةٍ مثل ما أتيت من جانب فرقتها وتنازعها والصراع
بينها، فاستحقت وعيد الله: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
مفهوم الاتفاق في الشريعة الإسلامية
الاتفاق والتعاون على البر والتقوى مبدأ شرعي، وواجب عام بين المسلمين
بنص القرآن الكريم، قال الله (تعالى): (وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى) سورة
المائدة: ، والبر إذا اقترن بالتقوى يقصد به ما تعدى نفعه إلى المسلمين من
الأعمال المشروعة. والتقوى تختص بما يقتصر نفعه من الأعمال الصالحة على
خاصة الإنسان. وبهذا تحوي دلالات الآية مجالاً خصباً يتسع لكل عمل صالح
يتحقق نفعه وخيره بالاتفاق والتعاون على مستوى الفرد والأمة.
فالاتفاق والتعاون أمران مطلوبان، أوجبهما الشرع ولا يستغني عنهما في
الواقع، والاختلاف غير المذموم أمر واقع أقره الشرع ضرورة وفطرة، وبعض
الناس يغيب عنه منهج الإسلام الوسط
في أمور شتى من بينها الاتفاق والتعاون حال الاختلاف؛ وحجم وطبيعة ذلك
الخلاف الذي يوجب الإسلام الاتفاق والتعاون رغم وجوده، وذلك المطلب
الشرعي المهم هو المحور الذي تدور حوله هذه الدراسة التي نرى أنها تكون
مجالاً للنقاش الموضوعي بين ذوي الاختصاص، والله نسأل للجميع التوفيق
والسداد.
إنّ موضوع الاتفاق بين المسلمين
موضوع قديم حديث، ينبغي على الأمة ألا تمل طرحه؛ لما له من أهمية في بناء
كيانها؛ فالموضوع يستقي أهميته من عدة جوانب:
الجانب الأول: تركيز القرآن الكريم
والسنة النبوية على هذه القضية، واعتبارها هدفاً وغاية من غايات هذا الدين
وأصلاً من أصوله.
والجانب الثاني:
هو المنظور التاريخي، الذي يتمثل في بيان دور هذه الوحدة في بناء حضارة
الإسلام المجيدة؛
فالحديث عن الاتفاق حديث عن عوامل بناء دولة الإسلام في عهد الرسول صلى
الله عليه وسلم والتي تمثلت في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
أما الجانب الثالث: فهو منظور الواقع، الذي
يتمثل في حاجة المسلمين في هذا الزمان إلى هذا الاتفاق حتى يستعيدوا ريادتهم
في قيادة الأمم، فالحديث عن الاتفاق بأشكاله وصوره المتنوعة هو حديث عن
مستقبل الإسلام، وحديث عن الحضارة الإسلامية المقبلة؛ إذ لن يتسنى للمسلمين
في زماننا هذا استعادة هويتهم وشهادتهم على الناس إلا باتفاقهم.
ما هو الاتفاق الذي يريده الشرع ويدعو إليه؟
إننا إذ ندعو إلى الاتفاق في واقع المجتمعات الإسلامية نسعى إلى تحقيقه ضمن
مفهومه الشرعي الواسع والشامل بكل أشكاله وألوانه،فنريد:
الفكرية أو التصورية:
وتعني اتفاق الأمة على الأسس المنهجية في
أصول الإيمان وأصول الأحكام. أما الإيمان فيتضمن الإيمان بالله
وما يجب له من حق العبودية والطاعة، والإيمان بألوهيته وربوبيته وأسماءه
وصفاته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره
وشره وبسائر أمور الغيب، أمّا أصول الأحكام فتتضمّن المحكم من العبادات
والمعاملات والسياسة الشرعية.
ونريد الوحدة الثقافية:
والتي تعني اتفاق الأمة على الآليات التي يتم من خلالها إنجاز الأمور النظرية
علمياً في أرض الواقع.
ونريد الوحدة السياسية:
والتي تعني وجود كيان سياسي واحد تتوجه إليه أنظار المسلمين كافة، والذي
يشكل المرجعية لتمكين منهج الله في واقع الناس.
ونريد الوحدة الوجدانية:
والتي تمثل المشاركات العاطفية التي يحس بها المسلمون تجاه بعضهم، فيفرح
المسلم لفرح إخوانه المسلمين، ويحزن لأحزانهم، ويتألم لآلامهم. بهذه الوحدة
وبمفهومها الواسع، قام الكيان الحضاري للأمة الإسلامية في عهد النبي صلى
الله عليه وسلم.
السبيل إلى الاتفاق:
لقد أرشد الله تعالى إلى سبيل الاتفاق، فقال سبحانه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعاً..) سورة آل عمران: 103، فالسبيل هو الاعتصام بحبل الله المتين،
والتمركز حول العقيدة الإسلامية، واعتبار
نصوص الوحيين هما المرجعية في تحديد الغايات، والمنطلق، والمسيرة (آليات
العمل)، للوصول إلى الأهداف المرسومة. وإن هذه الأمة
لن تجتمع حتى تتوحد نظرتها العقدية، وفق فهم السلف الصالح، وتختط منهجاً
يتفق ونهج النبي صلى الله عليه وسلم، مع مراعاة أوجه التغيير ومواكبة
تطورات الزمان والمكان، يقول تعالى: ( إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ
فَاعْبُدُونِ) سورة الأنبياء: 92 وإننا بقدر ما نؤمن بحاجة الأمة إلى التغيير
الفاعل في واقعها للخروج من أزمتها الراهنة بقدر ما نؤمن بأن العامل الأمثل
للتغيير هو (تغيير الذات): (إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) سورة الرعد: 11،
ومن مقتضيات تغيير الذات:
التعالي عن معاني الحقد والتحاسد والبغض والكره للمسلمين، وتخلية النفس من
شوائب الازدراء والسخرية لأفراد المجتمع المسلم. وبالمقابل فإنه ينبغي تحلية
النفس بالمعاني النبيلة، والمعاني السامية: بمعاني الحب والود والعطف
والشعور بالرحمة والرأفة نحو المسلمين، وتبني قضاياهم وهمومهم، والسعي
على ضعافهم ببذل المعروف والمال، والصبر على إيذائهم والدعاء وبذل النصيحة
لهم، فإن هذا بمجموعه يولِّد مجتمعاً مترابطاً متماسكاً متآخياً، وهي الحالة التي
أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بحالة الجسد الواحد في قوله:
((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم،
مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر
والحمى)). وحينما شرع الله سبحانه وتعالى الاتفاق ودعا إليه،
ووجَّه المسلمين نحوه، شرع ما يؤدي إلى تحقيقه ويعين عليه، ويعمل على
صيانته. فشعائر الإسلام كل منها رمز للاتفاق، فشرع صلاة الجماعة التي يصلي
فيها المسلمون ضمن حركات متناسقة تنساب كأنها أمواج البحر، لا يشوبها
تضارب أو تضاد، وبألفاظ واحدة، خلف إمام واحد، متجهين إلى قبلة واحدة،
يدعون إلها واحداً، وشرع الزكاة التي تمثل أكبر مظاهر التكافل الاجتماعي في
الإسلام، والتي تظهر فيها معاني التراحم والتعاطف، وشرع الصيام الذي تظهر
فيه معاني الشعور نحو الآخرين، والحج الذي يمثل بحق المؤتمر العالمي
الإسلامي السنوي، الذي يظهر فيه المسلمون بمظهر واحد يلبون نداء رب واحد.
إن بعض الغربيين يستغربون جدًا أن تتكلم الشعوب العربية لغة واحدة، ويفهم كل
منهم عن الآخر، ويشتركون في شعائر وعبادات يومية وموسمية يكون الاتفاق
في أدق تفاصيلها: في الأذان والإقامة، ومواقيت الصلاة، وعددها وعدد ركعاتها،
وسرها وجهرها، وكذا الجمعة وخطبتها، وكذا الصوم والزكاة، والحج وما فيه
من الاتفاق في المواقيت الزمانية، وورود كل الحجيج إلى المشاعر المقدسة،
ومع ذلك يكون بينهم هذا التفرق والتناحر!
لا شك أن الذي يمنع المسلمين من الاتفاق
أو التفاهم هو ضعف النظر في العواقب وعدم الانتباه لما يحيط بالمسلمين من
أخطار.
لماذا تقام تكتلات كبيرة لأعداء الإسلام، ونحن نمارس هواية التشرذم والتفرق
ونكثر من عدد اللافتات والعناوين؟ أيقيم أعداء الإسلام دولاً طويلة عريضة على
أفكار وكتب من اختراع بشر، بل هي من حثالة أفكار البشر،
وكتاب الله بين أيدينا؟ وتفسيره بين
ظهرانينا؟ وهو حبل الله المتين، وهو العروة الوثقى لا انفصام لها، ويبقى
المسلمون على حالهم المزرية هذه؟
ألا يحق لنا أن نطمع بمطلب متواضع من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية
وهو التفكر بما يدور حولهم؟ وأن يتفق المسلمون فيما بينهم على تذليل الصعاب،
على قدر ما يمكنهم الاتفاق؟ وأن يرتضوا لأنفسهم ما رضيه لهم الله ورسوله في
مجال الأصول: كتاب الله والسنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، وإجماع
الصحابة؟
فواقع المسلمين في هذه الأيام يضطرهم للمطالبة
بالحد الأدنى من الاتفاق والتعاون والتنسيق، بدلاً عن التشهير
والتمزيق، فنحن نمر بفترات حرجة لا نحتاج إلى التعاون والتنسيق بل إلى
الانصهار في عمل كبير يعيد للمسلمين عزتهم وكرامتهم، ويشعرهم بالثقة
المفقودة، يعيد إليهم الأمل والرجاء، إننا نحتاج إلى
إنكار للذات بالدرجة الأولى، وإعمال الفكر في مستقبل المسلمين
والإسلام، وتأتي الخطوة التالية بالعمل الدؤوب الذي لا يعرف الراحة، وإيجاد
البرامج الجادة التي توحد ولا تفرق.
إن الساعات الحاسمة في التاريخ هي الساعات التي
تتحول فيها الأمة كلها إلى (ورشة عمل)،
كلٌّ له مكانه وكل له مكانته، يشعر كل فرد أنه يشارك في
البناء بل إنه ضروري لهذا البناء، هكذا قام المجتمع الإسلامي الأول عندما
شارك المسلمون كلهم في بناء المسجد بمن فيهم قائد هذا المجتمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وعندما استقبل الأنصار إخوانهم المهاجرين وتنازلوا عن
شطر أموالهم، ونفَّذوا هذا عملياً ولم يكتفوا بالأدبيات والكلام عن الأخوة
الإسلامية أو (يجب علينا أن نبني مسجداً!).
لا شك أنّ الخطوة الأولى هي الاتفاق المخلص والتعاون الصادق، ولكن كم نتمنى
أن يتلو هذه الخطوة خطوات. فإحياء الأمة ودعوتها إلى استئناف دورها الخيري
لا يتأتى إلا بأعمال كبيرة، وأرجو أن لا تقف طموحاتنا عند الحد الأدنى والذي إذا
استمر لا ينتج إلا الضعف، وتمر السنون دون أن نحقق عملاً كبيراً يرضي الله
ويغيظ أعداء الإسلام ويشفي صدور قوم مؤمنين.
الشيخ. مدثر أحمد إسماعيل *
المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعض
مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، مثل الجسد . إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى
الراوي: النعمان بن بشير المحدث: مسلم – المصدر: صحيح مسلم – الصفحة أو الرقم: 2586
خلاصة الدرجة: صحيح
جزاااااااااكى الله خيرااااااااااا
مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، مثل الجسد . إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى |
وجزاااكى
الف مرحبا بكى انرتى متصفحى بردك العطر