اعتمد القرآن الكريم في خطابه أسلوب المقابلات؛ وذلك بأن يقابل بين الأشخاص، ويقابل بين الأعمال، ويقابل بين النتائج، فإذا تحدث عن المؤمنين أتبعه بالحديث عن الكافرين، وإذا تحدث عن العاملين المخلصين أردفه بالحديث عن القاعدين المهملين، وإذا تحدث عن عاقبة المتقين قرنه بالحديث عن عاقبة المكذبين، وعلى هذا السَّنَن يجري الخطاب في القرآن الكريم.
وعلى هذا النسق جاء ذكر الظالمين ووعيدهم في قوله سبحانه: {من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا * خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا * يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا} (طه:100-102)، ثم ثنى سبحانه بالحديث عن المتقين وحكمهم، فقال: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما} (طه:112)، والحديث هنا يتناول المراد من الآية الأخيرة.
قوله تعالى: {ومن يعمل من الصالحات}، قيل: إن المراد بـ {الصالحات} أداء فرائض الله التي فرضها على عباده. والأصوب أن يقال: هي الأعمال التي تعود بالخير على الإنسان أو على غيره، فيدخل في هذا أداء الفرائض وغيره من الأعمال الصالحة. وأضعف الإيمان أن يحافظ العبدُ في ذاته على صلاحه، فلا يفسده، كمن يجد بئراً يشرب منه الناس، فلا يردمه بالتراب، أو يلوثه بالأوساخ، فإن رقي بالعمل فيحسنه ويجوده ليزيد في صلاحه، فيبني حوله جداراً يحميه، أو يجعل له غطاء، أو نحو ذلك من أنواع الأعمال ، فالباب مفتوح، والثواب موصول، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً.
قال ابن عطية: وفي قوله: {من الصالحات} تيسير من الشرع؛ لأن {من} تفيد التبعيض، فمن رحمة الله بنا أنه سبحانه حينما حثنا على العمل الصالح، قال: {من الصالحات} فيكفي أن نفعل بعض {الصالحات}؛ لأن طاقة الإنسان لا تسع كل {الصالحات} ولا تقوى عليها، يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله في هذا الصدد: "فحسبك أن تأخذ منها طرفاً، وآخر يأخذ منها طرفاً، فإذا ما تجمعت هذه الأطراف من العمل الصالح من الخلق، كوَّنت لنا الصلاح الكامل. ففي كل فرد من أفراد الأمة خصلة من خصال الخير، بحيث إذا تجمعت خصال الكمال في الخلق أعطتنا الكمال". فكل عمل صالح يكمل غيره من الأعمال، فتستقيم أمور الدنيا، ويسعد الإنسان بالآخرة.
قوله سبحانه: {وهو مؤمن} أي: وهو مصدق بالله؛ لأن الإيمان شرط في قبول العمل الصالح، فإن جاء العمل الصالح من غير المؤمن، أخذ أجره في الدنيا ذكراً وشهرة، وتخليداً لذكراه، فقد عمل ليقال، وقد قيل، وقضي الأمر. وقد روي عن قتادة قوله: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن} وإنما يقبل الله من العمل ما كان في إيمان. وليس بخاف أن اقتران (العمل الصالح) بـ(الإيمان) متواتر في القرآن الكريم، فهما متلازمان ومتكاملان، فلا (إيمان) بغير (عمل)، ولا (عمل) بغير (إيمان)، بل (إيمان)، و(عمل).
قوله عز وجل: {فلا يخاف ظلما ولا هضما}، أصل (الهضم): النقص، يقال: هضمني فلان حقي. ومنه امرأة هضيم، أي: ضامرة البطن. وقولهم: قد هضم الطعام: إذا ذهب. وهضمت لك من حقك، أي: حططتك. وهضمت ذلك من حقي، أي: حططته، وتركته. ورجل هضيم ومهتضم، أي: مظلوم. وتهضمه، أي: ظلمه، واهتضمه: إذا ظلمه، وكسر عليه حقه.
قال الماوردي: الفرق بين (الظلم) و(الهضم) أن (الظلم) المنع من الحق كله، و(الهضم) المنع من بعضه، و(الهضم) ظلم، وإن افترقا من وجه؛ قال المتوكل الليثي:
إن الأذلة واللئام لمعشر مولاهم المتهضم المظلوم
وقال ابن عطية: (الظلم) أعم من (الهضم)، وهما يتقاربان في المعنى ويتداخلان، ولكن من حيث تناسقا في هذه الآية، ذهب قوم إلى تخصيص كل واحد منهما بمعنى، فقالوا: (الظلم) أن تعظم عليه سيئاته، وتكثر أكثر مما يجب، و(الهضم) أن ينقض حسناته ويبخسها.
وقال بعض أهل العلم: (الظلم) أن ينقص من الثواب، و(الهضم) أن لا يوفي حقه من الإعظام؛ لأن الثواب مع كونه من اللذات، لا يكون ثواباً إلا إذا قارنه التعظيم، وقد يدخل النقص في بعض الثواب، ويدخل فيما يقارنه من التعظيم، فنفى الله تعالى عن المؤمنين كلا الأمرين.
وقال ابن عاشور: يجوز أن يكون (الظلم) بمعنى النقص الشديد، كما في قوله {ولم تظلم منه شيئا} (الكهف:33)، أي: لا يخاف إحباط عمله، وعليه يكون (الهضم) بمعنى النقص الخفيف، وعطفه على (الظلم) على هذا التفسير احتراس.
فإن قلت: فما فائدة عطف {هضما} على {ظلما} فنفي (الظلم) نفي لـ (الهضم)؟ أجاب الشيخ الشعراوي عن هذا، فقال: لأنه مرة يُبطل الثواب نهائياً، ومرة يقلل الجزاء على الثواب.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذا الصدد، قوله: {فلا يخاف ظلما ولا هضما}، قال: {هضما}: غصباً، قال: لا يخاف ابن آدم يوم القيامة أن يُظلم، فيزاد عليه في سيئاته، ولا يُظلم فيهضم في حسناته. وجاء في رواية ثانية عنه، قوله: {فلا يخاف ظلما ولا هضما}، يقول: أنا قاهر لكم اليوم، آخذكم بقوتي وشدتي، وأنا قادر على قهركم وهضمكم، فإنما بيني وبينكم العدل، وذلك يوم القيامة. وروي نحو قول ابن عباس رضي الله عنهما عن عدد من التابعين.
وعلى الجملة فالمعنى: أن المؤمن بالله حق الإيمان لا يخاف من الله أن يظلمه، فيحمل عليه سيئات غيره، فيعاقبه عليها، ولا يخاف أن يهضمه حسناته، فينقصه ثوابها.
وهكذا ينقسم الناس في الموقف يوم القيامة قسمين:
قسم ظالمُ لنفسه بكفره وشركه وشره، فهؤلاء لا ينالهم إلا الخيبة والحرمان، والعذاب الأليم في جهنم، وسخط الديان.
وقسم آمن الإيمان المأمور به والمطلوب، وعَمِلَ صالحاً من واجب ومسنون، فلا يخاف زيادة في سيئاته، ولا نقصاً من حسناته، بل تُغفر ذنوبه، وتطهر عيوبه، وتضاعف حسناته، كما قال تعالى: {وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما} (النساء:40).
وقد يكون من المفيد هنا أن يقال: قرأ جمهور القراء {فلا يخاف} بصيغة المرفوع بإثبات (ألف) بعد (الخاء)، على أن الجملة استئناف، وليست جواباً لفعل الشرط، كأن انتفاء خوفه أمر مقرر، ومفروغ منه؛ لأنه مؤمن ويعمل الصالحات. وقرأه ابن كثير بصيغة الجزم (فلا يخفْ) بحذف (الألف) بعد (الخاء)، على أن الجملة شرطية، وأن الكلام نهي مراد به النفي. وقد أشار الطيبي إلى أن قراءة الجمهور توافق قوله تعالى في الآية السابقة للآية التي معنا: {وقد خاب من حمل ظلما} (طه:111)، في أن كلتا الجملتين خبرية. وقراءة ابن كثير تفيد عدم التردد في حصول أمنه من (الظلم) و(الهضم)، أي في قراءة الجمهور خصوصية لفظية، وفي قراءة ابن كثير خصوصية معنوية. و{لله الأمر من قبل ومن بعد} (الروم:4).
وجزاک اللہ خيراً
وجعله في ميزان حسناتك