بسم الله الرحمن الرحيم
يوم في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم
الـمـقـدمـة :
الحمد لله الذي بعث رسوله بالهدى ودين الحق ، والصلاة والسلام على إمام المرسلين المبعوث رحمة للعالمين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين …. وبعد :
فإن غالب الناس في هذا الزمن بين غالٍ وجاف ، فمنهم من غلا في الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى وصل به الأمر إلى الشرك – والعياذ بالله – من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به ، وفيهم من غفل عن إتباع هديه صلى الله عليه وسلم وسيرته ، فلم يتخذها نبراسًا لحياته ومَعلمًا لطريقه .
ورغبة في تقريب سيرته ودقائق حياته إلى عامة الناس بأسلوب سهل مُيسر ، كانت هذه الورقات القليلة التي لا تفي بكل ذلك .. لكنها وقفات ومقتطفات من صفات النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله .
ولم أستقصها ، بل اقتصرت على ما أراه قد تفلت من حياة الناس ، مكتفيًا عند كل خصلة ومنقبة بحديثين أو ثلاثة .
فقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم حياة أمة وقيام دعوة ومنهاج حياة .
وهو عليه السلام أمة في الطاعة والعبادة ، وكرم الخُلق وحسن المعاملة ، وشرف المقام ، ويكفي ثناء الله عز وجل عليه : {وإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
وأهل السنة والجماعة يُنزلون الرسول صلى الله عليه وسلم منزلته التي أنزلها الله إياه ، فهو عبد الله ورسوله وخليلة وصفيه ، يحبونه أكثر من أولادهم وآبائهم بل أكثر من أنفسهم ، لكنهم لا يغالون فيه ولا يطرونه وحسبه تلك المنزلة .
ونحن على هذا الأمر سائرون فلا نبتدع الموالد ولا نقيم الاحتفالات ، بل نحبه كما أمر ؛ ونطيعه فيما أمر ؛ ونجتنب ما نهى عنه وزجر .
فــمـبـلـغُ الـعـلـمِ فـيـه أنـه بـشـــرٌ ……..
…….. وأنـَّـه خـــيـر خــــلـقِ الله كُـلـِّهـمُ
أغــر عـلـيـه لـلـنــبـوة خــــاتـــمٌ ……..
…….. مـن نـــــور يـــلـوح ويـشـــــهـدُ
وضم الإله اسـم النبي إلى اسـمه ……..
…….. إذا قال في الخمسِ المؤذنُ أشهدُ
وشــق لـه مـن اســـمـه لـيُـجـِلَّـهُ ……..
…….. فـذو الـعـرشِ محمودٌ وهذا أحمدُ
وإن فاتنا في هذه الدنيا رؤية الحبيب صلى الله عليه وسلم وتباعدت بيننا الأيام ، فادعوا الله عز وجل أن نكون ممن قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم : "وددتُ أنـَّا قد رأينا إخواننا" قالوا : ألسنا إخوانك يا رسول الله ؟ ، قال : "أنتم أصحابي ، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد "، فقالوا : كيف تعرف من لم يأت بعد من أُمتك يا رسول الله ؟ ، فقال : "أرأيت لو أن رجلاً له خيلٌ غرٌ محجلة بين ظهري خيلٍ دُهم بُهمٍ ألا يعرف خيله ؟ "، قالوا : بلى يا رسول الله . قال : "فإنـَّهم يأتون غـُرًا محجلين من الوضوء ، وأنا فرطـُهم على الحوض …" رواه مسلم .
أدعو الله عز وجل أن يجعلنا ممن يتلمس أثره صلى الله عليه وسلم ، ويقتفى سيرته ؛ وينهل من سنته ، كما أدعو الله عز وجل أن يجمعنا معه في جنات عدن ، وأن يجزيه الجزاء الأوفى جزاء ما قدم . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
عبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن القاسم
كتبته لكم أختكم في الله : أم أوس المدنية
سنعود قرونًا خلت ونقلب صفحات مضت ، نقرأ فيها ونتأمل سطورها ، ونقوم بزيارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته عبر الحروف والكلمات ، سندخل بيته ونرى حاله وواقعه ونسمع حديثه ، نعيش في البيت النبوي يومًا واحدًا فحسب ، نستلهم الدروس والعبر ونستنير بالقول والفعل .
لقد تفتحت معارف الناس وكثرت قراءتهم ، وأخذوا يزورون الشرق والغرب عبر الكتب والرسائل وعبر الأفلام والوثائق ، ونحن أحق منهم بزيارة شرعية لبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ، نطل على واقعه جادين في تطبيق ما نراه ونعرفه .ولضيق المقام نـُعرج على مواقف معينة في بيته .علنا نربي أنفسنا ونطبق ذلك في بيوتنا .
أخي المسلم ، أختي المسلمة : نحن لا نعود سنوات مضت وقرونًا خلت ؛ لنستمتع بما غاب عن أعيننا ونرى حال من سبقنا فحسب ، بل نحن نتعبَّد الله عز وجل بقراءة سيرته صلى الله عليه وسلم ، وإتباع سنته والسير على نهجه وطريقه ، امتثالا لأمر الله عز وجل بوجوب طاعته فيما أمر ، واجتناب ما نهى عنه وزجر ، يقول الله عز وجل عن وجوب طاعته وامتثال أمره صلى الله عليه وسلم ، وجعله إمامًا وقدوة : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} آل عمران : 31 ، وقال تعالى : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} الأحزاب : 21 ، وقد ذكر الله طاعة الرسول وإتباعه في نحو من أربعين موضعًا في القرآن . مجموع فتاوى ابن تيمية 1 / 4 .
ولا سعادة للعباد .. ولا نجاة في المعاد إلا بإتباع رسوله : {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( * )وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} سورة النساء : 13 – 14 .
وجَعلَ الرسول صلى الله عليه وسلم حُبَّه من أسباب الحصول على حلاوة الإيمان ، فقال عليه الصلاة والسلام : "ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان :أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ….." متفق عليه .
وقال عليه الصلاة والسلام : "فو الذي نفسي بيده ؛ لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده" رواه مسلم .
وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم سيرة عطرة زكية ، منها نتعلم وعلى هديها نسير .
إلى حيث بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ورؤية دقائق حياته ، وأسلوب معاملته أمر مُشوِّق للغاية ، كيف إذا احتسبنا فيه الأجر والمثوبة ، إنها عظة وعبرة ، وسيرة وقدوة ، وإتباع وإقتداء ، وهذه الرحلة … رحلة بين الكتب ورواية على ألسنة الصحابة ، وإلا فلا يجوز شدُّ الرحال إلى قبر ولا بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ولا إلى غيره ، سوى لثلاثة مساجد ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد :المسجد الرحال ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى" متفق عليه .
ويجب أن نمتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فلا نشدٌّ الرحال إلا لهذه المساجد الثلاثة ، والله عز وجل يقول : {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الحشر : 7 ، ونحن لا نتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم ، قال ابن وضاح رحمه الله : "أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة ، التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون ، فيصلون تحتها ، فخاف عليهم الفتنة" ، القصة في الصحيحين .
وقال ابن تيمية رحمه الله عن غار حراء :وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة يتحنث فيه ، وفيه نزل عليه الوحي أولاً ، لكن من حين نزل عليه الوحي ما صعد إليه بعد ذلك ، ولا قربه ، لا هو ولا أصحابه ، وقد أقام بمكة بعد النبوة بضع عشرة سنة لم يزره ولم يصعد إليه ، وكذلك المؤمنين معه بمكة ، وبعد الهجرة أتى مكة مرارًا في عمرة الحديبية ، وعام الفتح ، وأقام بها قريبًا من عشرين يومًا ، وفي عمرة الجُعرانة ، ولم يأت غار حراء ، ولا زاره .. "مجموع الفتاوى : 27 / 251 .
ها نحن نطل على المدينة النبوية وهذا أكبر معالمها البارزة بدأ يظهر أمامنا ، إنه جبل أحد الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم : "هذا جبل يُحِبُنا ونـُحبه" متفق عليه .
وقبل أن نلج بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ونرى بناءه وهيكله ، لا نتعجب إن رأينا المسكن الصغير والفرش المتواضعة ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا وكان متقللاً منها ، لا ينظر إلى زخارفها وأموالها : "بل جُعلت قرة عينه في الصلاة" رواه النسائي .
وقد قال صلى الله عليه وسلم عن الدنيا : "مالي وللدنيا ؛ ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف ، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ، ثم راح وتركها" رواه الترمذي .
وقد أقبلنا على بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن ، نستحث الخُطى سائرون في طرق المدينة ، ها هي قد بدت حُجر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مبنية من جريد عليه طين ، بعضها من حجارة مرضومة وسقوفها كلها من جريد .وكان الحسن رضي الله عنه يقول : كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان فأتناول سٌقفـَها بيدي .مرضومة : أي بعضها فوق بعض .الطبقات الكبرى لابن سعد : 1 / 499 ، 501 ، و السيرة النبوية لابن كثير 2 / 274 .
إنه بيت متواضع وحُجَرٌ صغيرة ، لكنها عامرة بالإيمان والطاعة ، وبالوحي والرسالة !
ونحن نقترب من بيت النبوة ونطرق بابه استئذانًا ، لندع الخيال يسير مع من رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، يصفه لنا كأننا نراه ، لكي نتعرف على طلعته الشريفة ومحياه الباسم !
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهًا ، وأحسنهم خلقًا ، ليس بالطويل البائن ، ولا بالقصير" رواه البخاري ، وعنه رضي الله عنه قال : "كان النبي صلى الله عليه وسلم ، مَربُوعًا بَعيد ما بين المنكبين ، له شـَعـَرٌ يَبلغ شَحمة أذنيه ، رأيته في حلة حمراء لم أرَ شيئًا قطُ أحسن منه" رواه البخاري .
وعن أبي إسحاق السبيعي قال : "سأل رجل البراء بن عازب : أكان وجهُ النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف ؟ . قال : ، بل مثل القمر" رواه البخاري .
وعن أنس رضي الله عنه قال : "ما مسست بيدي ديباجًا ولا حريرًا ، ولا شيئًا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شممت رائحة أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم" متفق عليه .
ومن صفاته عليه الصلاة والسلام الحياء ؛ حتى قال عنه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : "كان – صلى الله عليه وسلم – أشد حياء من العذراء في خدرها ، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه" رواه البخاري .
إنها صفات موجزة في وصف خِلقة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وخُلقه وقد أكمل له الله عز وجل الخَلق والخُلق ، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم .
أما وقد رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض صفاته ، لنرى حديثه وكلامه ، وما هي صفته وكيف هي طريقته ! .
لنستمع قبل أن يتحدث عليه الصلاة والسلام ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَسرُدُ سَردَكُم هذا ، ولكنه كان ، يتكلم بكلامٍ بيِّن ، فصلٍ ، يحفظـُهُ من جَلـَسَ إليه" رواه أبو داود .
وكان هينًا لينًا يحب أن يُفـهَم كلامه ، ومن حرصه على أمته ، كان يراعي الفوارق بين الناس ، دراجات فهمهم واستيعابهم ، وهذا يستوجب أن يكون حليمًا صبورًا ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : "كان كلام رسول الله ، صلى الله عليه وسلم كلامًا فـَصلاً يفهمه كُلُّ من يسمعُه" رواه أبو داود .
وتأمل رفق الرسول وسعة صدره ورحابته وهو يعيد كلامه ليُفهم ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعيدُ الكلمة ثلاثًا لتُعقـَلَ عنه" رواه البخاري .
وكان صلى الله عليه وسلم يلاطف الناس ويُهدئ من روعهم ، فالبعض تأخذه المهابة والخوف !!، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فكلمه فجعل يرعد فرائصه ؛ فقال له صلى الله عليه وسلم : "هون عليك فإني لست بمَلِكٍ ، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد" رواه ابن ماجه .
أُذن لنا واستقر بنا المقام في وسط بيت نبي هذه الأمة عليه الصلاة والسلام لنُجيل النظر وينقل لنا الصحابة رضي الله عنهم ، واقع هذا البيت من فرش وأثاث وأدوات وغيرها !
ونحن نعلم أن لا ينبغي إطلاق النظر في الحُجر والدور ، ولكن للتأسي والقدوة نرى بعضًا مما في هذا البيت الشريف !
إنه بيت أساسه التواضع ورأس ماله الإيمان ، ألا ترى أن جدرانه تخلو من صور ذوات الأرواح التي يعلقها كثير من الناس اليوم !! فقد قال عليه الصلاة والسلام :"لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا تصاوير" رواه البخاري .
ثم أطلق بصرك لترى بعضًا مما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعمله في حياته اليومية ، عن ثابت رضي الله عنه قال : أخرج إلينا أنس بن مالك رضي الله عنه قدح خشب غليظًا مضببًا بحديد ، فقال : يا ثابت هذا قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه الترمذي . مضببًا : مشدودًا .
وكان صلى الله عليه وسلم يشرب فيه الماء ؛ والنبيذ – ينقع التمر في الماء ، ليعذب الماء – والعسل واللبن . رواه الترمذي .
وعن أنس رضي الله عنه : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الشراب ثلاثًا" . متفق عليه . يتنفس : خارج الإناء .ونهى عليه الصلاة والسلام : "أن يُتنفس في الإناء ، أو ينفخ فيه" رواه الترمذي .
أما ذلك الدرع الذي كان يلبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في جهاده وفي معاركه الحربية وأيام البأس والشدة فلربما أنه غير موجود الآن في المنزل . . فقد رهنه الرسول صلى الله عليه وسلم عندي يهودي ، في ثلاثين صاعًا من شعير اقترضها منه كما قالت عائشة . متفق عليه . ومات الرسول صلى الله عليه وسلم والدرع عند اليهودي .
ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليفاجأ أهله بغتة يتخونهم ، ولكن كان يدخلُ على أهله على علم منهم بدخوله ، وكان يسلم عليهم . زاد المعاد : 2 / 381 .
وتأمل بعين فاحصة وقلب واع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم :"طوبى لمن هُدي إلى الإسلام ، وكان عيشه كفافًا وقنع" رواه الترمذي .
وألق بسمعك نحو الحديث الآخر العظيم :"من أصبح آمنًا في سربه ؛ معافى في جسده ، عنده قـُوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" رواه الترمذي . سربه : نفسه .
لنبي الأمة صلى الله عليه وسلم من الوفاء في صلة الرحم ما لا يفي عنه الحديث ، فهو أكمل البشر وأتمهم في ذلك .. حتى مدحه كفار قريش وأثنوا عليه ، ووصفوه بالصادق الأمين قبل بعثته عليه الصلاة والسلام ، ووصفته خديجة رضي الله عنها بقولها : إنك لتصل الرحم ؛ وتـَصدقُ الحديث .
وها هو عليه الصلاة والسلام يقوم بحق من أعظم الحقوق ، وبواجب من أعلى الواجبات ، إنه يزور أمه التي ماتت عنه وهو ابن سبع سنين ، قال أبو هريرة رضي الله عنه : زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى ؛ وأبكى من حوله فقال : "استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي ، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور ، فإنها تذكر الموت" رواه مسلم .
وتأمل محبته عليه الصلاة والسلام لقرابته وحرصه ، على دعوتهم وهدايتهم وإنقاذهم من النار ، وتحمل المشاق والمصاعب في سبيل ذلك ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : "يا بني عبد شمس ، يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني مره بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار ، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا ، غير أن لكم رحمًا سأُبلها ببلالها" رواه مسلم . سأُبلها : أي أصلكم .
وها هو الحبيب صلى الله عليه وسلم لم يمل ولم يكل من دعوة عمه أبي طالب ؛ فعاود دعوته المرة بعد الأخرى ؛ حتى إنه أتى إليه وهو في سياق الموت : "لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أميه ؛ فقال : "أي عم ! قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله عز وجل" ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أميه : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ قال : فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به ، على ملة عبد المطلب" . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" ، فنزلت : {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} التوبة : 113 ، قال : ونزلت : {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} القصص : 56 . لقد دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته مرات ومرات ، وفي اللحظات الأخيرة عند موته ، ثم أتبعه الاستغفار له برًا به ورحمة ، حتى نزلت الآية ، فسمع وأطاع عليه الصلاة والسلام وتوقف عن الدعاء للمشركين من قرابته .
وهذه صور عظيمة من صور الرحمة للأمة ، ثم هي في النهاية صورة من صور الولاء لهذا الدين ، والبراء من الكفار والمشركين حتى وإن كانوا قرابة وذو رحم :
نـَـبـيٌ أتــانـا بـعـد يـــــــأس وفــتــــــــــــرةٍ ……..
…….. مِـن الـرُسـل ، والأوثـان فـي الأرض تـُعـبـدُ
فـأمـســــى سِــــراجــًا مُـسـتـنـيـرًا وهـاديــًا ……..
…….. يَـلـُوح كَـمَـا لاح الـصـقـيــــل الـمــهـــنــــــدُ
وأنـــذرنا نـَــــارًا ، ويُـبــشــــــــر جـنـــــــةً ……..
…….. وعَـلـَمَـنــــا الإســـــــــلام فـَلله نـحـــــــمـــدُ
بيت الإنسان هو محكه الحقيقي الذي يبين حُسن خلقه ، وكمال أدبه ، وطيب معشره ، وصفاء معدنه ، فهو خلف الغرف والجدران لا يراه أحدٌ من البشر ، وهو مع مملوكه أو خادمه أو زوجته يتصرف على السجية ، وفي تواضع جم دون تصنع ولا مجاملات مع أنه السيد الآمر ، الناهي في هذا البيت .. وكل من تحت يده ضعفاء .
لنتأمل في حال رسول هذه الأمة وقائدها ومعلمها صلى الله عليه وسلم ؛ كيف هو في بيته مع هذه المنزلة العظيمة والدرجة الرفيعة !، "قيل لعائشة : ماذا كان يعمل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في بيته ؟ ، قالت : " كان بشرًا من البشر : يفلي ثوبهُ ، ويحلبُ شاتهُ ، ويخدم نفسه" رواه أحمد والترمذي .إنه نموج للتواضع وعدم الكبر وتكليف الغير ، إنه شريف المشاركة ونبيل الإعانة .وصفوة ولد آدم يقوم بكل ذلك ؟
وهو في هذا البيت المبارك الذي شع منه نور هذا الدين ، لا يجد ما يملأ بطنه عليه الصلاة والسلام ، قال : النعمان بن بشير رضي الله عنه وهو يذكر حال النبي عليه أتم الصلاة وأزكى التسليم : "لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم ، ما يجدُ من الدقل ما يملأ بطنه" رواه مسلم . الدقل : رديء التمر .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : "إن كنا آل محمدٍ نمكث شهرًا ، ما نستوقدُ بنارٍ إن هو إلا التمرُ والماء" رواه البخاري .
ولم يكن هناك ما يشغل النبي صلى الله عليه وسلم عن العبادة والطاعة ، فإذا سمع حي على الصلاة .. حي على الفلاح ، لبى النداء مسرعًا وترك الدنيا خلفه !، عن الأسود بن يزيد قال : سألت عائشة رضي الله عنها ، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في البيت ؟ . قالت : "كان يكون في مهن أهله ، فإذا سمع بالأذان خرج" رواه مسلم .
ولم يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى الفريضة في منزله ألبته ، إلا عندما مرض واشتدت عليه وطأة الحمى وصَعُبَ عليه الخروج ، وذلك في مرض موته صلى الله عليه وسلم .
ومع رحمته لأمته وشفقته عليهم إلا أنه أغلظ على من ترك الصلاة مع الجماعة ، فقال صلى الله عليه وسلم : "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتـُقام ، ثم آمر رجلاً أن يصلي بالناس ، ثم أنطلق معي برجال معهم حُزَمٌ من حطبٍ ، إلى قومٍ لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم" متفق عليه .
وما ذاك إلا من أهمية الصلاة في الجماعة وعظم أمرها ، قال صلى الله عليه وسلم : "من سمع النداء فلم يُجب فلا صلاة له ، إلا من عذرٍ" . رواه ابن ماجه وابن حبان . العذر : خوف أو مرض .
فأين المصلون اليوم بجوار زوجاتهم وقد تركوا المساجد !!.. أين عذر المرض والخوف !!