أنه إذا ظهرت الفتن , أو تغيرت الأحوال ؛ فعليك بالرفق والتأنِّي والحلم , ولا تعجل.
هذه قاعدة مهمة : علك الرفق , وعليك التأنِّي , وعليك بالحلم.
ثلاثة أمور:
* أما الأمر الأول – وهو الرفق – ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما ثبت عنه في الصحيح : « ما كان الرفق في شئ؛ إلا زانه, ولا نزع من شئ إلا شانه».
قال أهل العلم : قوله : « ما كان في شئ إلا زانه» : هذه الكلمة:« شئ» : نكرة أتت في سياق النفي , والأصول تقضي بأنها تعم جميع الأشياء ؛ يعني : أن الرفق محمود في الأمر كله .
وهذا قد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم :« إن الله يحب الرفق في الأمر كله »؛ قاله عليه الصلاة والسلام لعائشة الصديقة بنت الصديق , وبوّب عليه البخاري في الصحيح ؛ قال ؛« باب الرفق في الأمر كله ».
في كل أمر عليك بالرفق , وعليك بالتؤدة , ولا تكن غضوباً ولا تكن غير مترِّفق ؛ فإن الرفق لن تندم بعده أبداً , ولم يكن الرفق في شئ إلا زانه ؛ في الأفكار … وفي المواقف…. فيما يجد … وفيما تريد أن تحكم عليه … وفيما تريد أن تتخذه …
عليك بالرفق , ولا تعجل , ولا تكن مع المتعجَّلين إذا تعجَّلوا , ولا مع المتسرعين إذا تسرعوا , وإنما عليك بالرفق ؛ امتثالا لقول نبيك المصطفى صلى الله عليه وسلم : «إن الرفق ما كان في شئ إلا زانه ».
فخذ بالزين , وخذ بالأمر المزين , وخذ بالأمر الحسن , وإياك ثم إياك من الأمر المشين , وهو أن ينزع من قولك أو فعلك الترفق في الأمر كله .
* أما الأمر الثاني ؛ فعليك بالتأني ؛ يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة ».
والتأنّي خصلة محمودة , ولهذا قال جلّ وعلا : (ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا..) .
قال أهل العلم : هذا فيه ذمُّ للإنسان , حيث كان عجولاً ؛ لأن هذه الخصلة ؛ من كانت فيه ؛ كان مذموماً بها , ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم غير متعجل.
* وأما الأمر الثالث ؛ فهو الحلم , والحلم في الفتن وعند تقلب الأحوال محمود أيما حمد , ومثنىً عليه أيما ثناء ؛ لأنه بالحلم يمكن رؤية الأشياء على حقيقتها , ويمكن بالحلم أن نبصر الأمور على ماهي عليه .
ثبت في « صحيح مسلم » من حديث الليث بن سعد عن موسى بن عُلًيّ عن أبيه : أن المستورد القرشي – وكان عنده عمرو بن العاص رضي الله عنه – ؛ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « تقوم الساعة والروم أكثر الناس » . قال عمرو بن العاص له – للمستورد القرشي – : أبصر ما تقول ! قال: وما لي أن لا أقول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : إن كان كذلك ؛ فلأن في الروم خصالاً أربعاً: الأولى : أنهم أحلم الناس عند الفتنة . الثانية : أنهم أسرع الناس إفاقةً بعد مصيبة … وعد الخصال الأربع وزاد عليها خامسة .
قال أهل العلم : هذا الكلام من عمرو بن العاص لا يريد به أن يثني به على الروم والنصارى الكفرة ؛ لا ! ولكن ليبين للمسلمين أن بقاء الروم وكونهم أكثر الناس إلى أن تقوم الساعة لأنهم عند حدوث الفتن هم أحلم الناس ؛ ففيهم من الحلم ما يجعلهم ينظرون إلى الأمور ويعالجونها ؛ لأجل أن لا تذهب أنفسهم , ويذهب أصحابهم .
هذا ما حصل ما قاله السنوسي والأبي في شرحهما على «صحيح مسلم » .
وهذا التنبيه لطيف ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أنه لا تقوم الساعة حتى يكون الروم أكثر الناس ؛ لماذا ؟!
قال عمرو بن العاص : « لأن فيهم خصالاً أربعاً : الأولى ( وهي التي تهمنا من تلك الخصال ) : أنهم أحلم الناس عند فتنة » ؛ يعني : إذا ظهرت تغير الحال , وظهرت الفتن ؛ فإنهم يحلمون , ولا يعجلون , ولا يغضبون ؛ ليقوا أصحابهم النصارى القتل ويقوهم الفتن ؛ لأنهم يعلمون أن الفتنة إذا ظهرت ؛ فإنها ستأتي عليهم ؛ فلأ جل تلك الخصلة فيهم بقوا أكثر الناس إلى قيام الساعة.
ولهذا ؛ فإننا نعجب أن لا نأخذ بهذه الخصلة التي حمد بها عمرو بن العاص الروم , وكانت فيهم تلك الخصلة الحميدة ونحن أولى بكل خير عند من هم سوانا .
الحلم المحمود في الأمر كله …..؛ فإنه يبصر عقل العقل في الفتنة بحلم وأناته ورفقه , فيدل على تعقله وعلى بصره .
أنه إذا برزت الفتن وتغيرت الأحوال , فلا تحكم على شئ من تلك الفتن أو من تغير الحال إلا بعد تصوُّره ؛ رعاية للقاعدة: « الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره».
وهذه القاعدة رعاها العقلاء جميعاً قبل الإسلام وبعد الإسلام , ودليلها الشرعي عندنا في كتاب الله جل وعلا : قال الله جل وعلا : (ولا تقف ما ليس لك به علم .) ؛ يعني : أن الأمر الذي لا تعلمه ولا تتصوره ولا تكون على بينه منه؛ فإياك أن تتكلم فيه , وأبلغ منه أن تكون فيه قائداً , أو أن تكون فيه متبعاً , أو تكون فيه حكماً .
« الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره »
وهذه القاعدة أنتم تستعملونها في أموركم العادية , وفي أحوالكم المختلفة , العقل لا بدَّ له من رعاية تلك القاعدة , ولا يصلح تصرفٌ ما ؛ إلا بأن يرعى تلك القاعدة ؛ لأنه إن لم يرع تلك القاعدة ؛ فإنه سيخطئ ولاشك , والشرع قرَّرها أيما تقرير , وبين تلك القاعدة أيما بيان .
والى الامام