وقد ذكروا أهم الشروط، وهما شرطان: الإخلاص والمتابعة، وقد استدل على أهميتهما بقول الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا لم يقل: أيكم أكثر عملا، أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وكذلك قول الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ولم يقل أيهم أكثر.
روي عن الفضيل بن عياض -رحمه الله- أنه قرأ هذه الآية: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فقال: أخلصه وأصوبه، فقيل: ما أخلصه وأصوبه يا أبا علي ؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. ونظم ذلك الصنعاني في بائيته بقوله:
فللعمل الإخلاص شرط إذا أتى
وقد وافقتـه ســنة وكتــاب
فهذان الشرطان هما الشرطان الأساسيان لقبول العمل، وهما الإخلاص والمتابعة.
الإخلاص: هو أن يكون العمل خالصا لله تعالى، والمتابعة: أن يكون صوابا على سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فنتكلم حول الإخلاص بذكر أدلته، وبذكر أمثلة من العمل الخالص وغير الخالص، ثم نتكلم أيضا على المتابعة وما يدور حولها.
فأما الإخلاص فهو: أن يكون العمل خالصا لله تعالى، ولقد أمر الله بالإخلاص فقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ فبعدما أمر بالعبادة قيدها بأن يكونوا مخلصين له الدين، وكذلك قال الله تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وكذلك قال تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ .
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقيد الشهادة بالإخلاص فيقول: من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة قيدها بالإخلاص.
الإخلاص: مشتق من الخلوص الذي هو التميز والصفاء والتوحد، الدين الخالص: هو الذي يسلم من أن يشوبه رياء، أو يشوبه سمعة، أو يشوبه ما يفسده, أو يختلط بما يكدره؛ بذلك يكون مقبولا إذا كان خالصا لله تعالى بأن يقصد بكل عمل يعمله وجه الله تعالى والدار الآخرة.
فمن أضداد ذلك الرياء فإنه يجعل العمل مشوبا ومخلوطا وليس بخالص؛ ولأجل ذلك فُسرت به الآية الكريمة في سورة الكهف، قول الله تعالى لما ذكر الله تعالى العمل الصالح بقوله: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا فمن كان يريد النجاة ويريد السلامة ويريد الثواب فليعمل عملا صالحا، أي عملا خالصا سالما مما يخالطه ومما يفسده, وليخلص عمله لله ولا يشرك بعبادة ربه أحدا رياء أو سمعة أو تزلفا أو تزينا، أو ما أشبه ذلك.
وقد كثرت الأدلة في الأمر بإخلاص العمل، وبيان العمل الذي ليس بخالص وليس بصاف، وهو ما يخالطه رياء وسمعة، فثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. فسألوه عن الشرك الأصغر، فقال: الرياء، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه .
وكذلك قال -صلى الله عليه وسلم- من سمَّع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به وثبت أيضا أنه -صلى الله عليه وسلم- حكى أن الله تعالى يقول للذين يراءون بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون، فانظروا هل تجدون عندهم من ثواب أعمالكم شيئا؟ ؛ يعني أنه يبطل أعمال المرائين، وأنه يحيلهم على الذين راءوهم في الدنيا، هل يثيبونكم أولئك الذين تزينتم عندهم وراءيتموهم في الدنيا؟ هل تجدون عندهم ثوابا؟ هل تجدون عندهم جزاء على أعمالكم؟
وكذلك ورد في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه .
هذه أدلة على أن الرياء ينافي الإخلاص، وأن العبد المخلص هو الذي لا يريد بعمله إلا وجه الله، وسواء مدحه الناس أو ذموه، فهذا هو الذي عمله عمل صالح، عمله عمل خالص.
وقد ورد أيضا ما يدل على أن الرياء قد يكون شركا أكبر، وقد يحبط العمل الذي قارنه، وقد يسبب العذاب، ففي الحديث الصحيح المشهور: أول من تسعر بهم النار ثلاثة: رجل قرأ القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل غني يكثر النفقات، ولكنهم مراءون بأعمالهم فيؤتى بالقارئ والعالم يؤتى به إلى الله تعالى فيذكره الله بنعمه، ويذكره بخيره وبفضله عليه، فيقول: ماذا عملت فيها؟ فيقول: قرأت فيك القرآن، وتعلمت فيك العلم. فيقول الله: كذبت. وتقول الملائكة: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت ليقال قارئ, فقد قيل. ثم يؤمر به فيسحب على وجهه إلى النار. ويؤتى بالمنفق فيعرفه الله تعالى نعمه فيعرفها، فيقول: ماذا عملت فيها؟ فيقول: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيه. فيقول الله: كذبت. وتقول الملائكة: كذبت. ويقول الله: إنك أنفقت ليقال جواد فقد قيل. ويؤتى بالمجاهد فيذكره الله نعمه، فيقول: ماذا عملت فيها؟ فيقول: قاتلت في سبيلك حتى قتلت. فيقول الله: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال جريء فقد قيل .
هؤلاء أعمالهم للناس أعمال صالحة. إذا رأى الناس هذا الذي يقرأ القرآن ويرتله ويتعلم العلم, ويظهر العمل به أحبوه، وقالوا: هذا هو العالم، وهذا هو المعلم، وهذا هو المربي, وهذا هو الفاضل. فمدحوه، ولكن الله تعالى مطلع على نيته, علم الله أنه ما تعلم العلم لنفع نفسه, ولا لنفع المسلمين ولكن تعلم حتى ينتشر له ذكر، وحتى يتناقل الناس أخباره؛ فيقولون: هذا هو العالم، هذا هو المعلم، هذا هو المربي، هذا هو الحافظ؛ فيمدحونه في الدنيا, ويكثر له المدح ويكثر له الثناء؛ فليس له في الآخرة قصد إنما قصده أن يمدح فيما بين الناس وأن يكثر الثناء عليه؛ فلذلك بطل عمله، حيث إنه ما أراد إلا مدح الناس وثناءهم.
كذلك أيضا الآخر المنفق الذي أعطاه الله تعالى أموالا فبذلها، فصار يتصدق ويضيف ويتكرم ويطعم الناس ويكرمهم ويكثر من الصدقات، ويكثر من النفقات؛ فيمدحونه ويقولون: هذا هو الكريم، هذا هو المنفق هذا الذي ما ادخر ماله، هذا غير بخيل، هذا الذي نفع الناس ونفع المجاهدين، ولكن الله تعالى يعلم نيته أنه ما قصد الثواب الأخروي، وإنما قصد الذكر الدنيوي، قصد المدحة بين الناس أن يقولوا: هذا… وهذا… فليس له إلا ما نواه، ليس له إلا الثواب الذي حصل له في الدنيا، وهو السمعة الحسنة، والذكر فيما بين الناس.
وأما الثالث: فهو الذي أظهر الشجاعة، وأظهر الجراءة، وأظهر القوة والبسالة, ودخل حومة الوغى, وقاتل حتى بذل نفسه وبذل روحه؛ فقُتل والناس ينظرون، ما هو الذي حمله؟ ما حمله الأمر الأخروي، ما حمله الجزاء الأوفى؛ إنما غرضه أن يكثر ذكره، وأن يثنى عليه، وأن يكثر الذين يمدحونه، والذين يرفعون من شأنه ويقولون: هو… وهو… فكان جزاؤه أن حبط عمله، لم يثب على هذا أدنى ثواب.
وهكذا يقال في كل الأعمال، فيقال مثلا: في المصلي الذي يصلي أمام الناس, يصلي إذا كان أمام الناس خشع وخضع وتواضع وأحضر قلبه, وأطال في صلاته, وواظب عليها، فإذا كان في غيبة وفي خلوة ليس عنده أحد لم يبال بالصلاة؛ فإما أنه لا يصلي، وإما أنه يصليها نقرا، لا طمأنينة، ولا حضور قلب، ولا أداء واجبات بل ينقرها نقرا، لا شك أن هذا قد أحبط عمله؛ وذلك لأنه ما صلى إلا للناس، كأنه إنما يصلي حتى يراه الناس.
وهذا أيضا وصْف المنافقين، ووصف لأهل الويل، قال الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ هكذا توعدهم بالويل مع أنهم يصلون، ولكن ليسوا مهتمين بصلاتهم، إنما يصلون إذا كان الناس عندهم يراءونهم بأعمالهم، وهذا أيضا وصف المنافقين، قال الله تعالى: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُ
مشكورة أختي على الموضوع
ورزقك الله الاخلاص فى القول والعمل
في ميزان حسناتك
وجزاك الله الف خير
ورزقك الله العمل الصالح