الخَفِي
إلياس كانيتي
( ألمانيا )
عند الغروب ، ذهبت إلى الساحة الكبيرة . هناك في قلب المدينة . وما كنت أبحث عنه فيها لم يكن لا روعتها ، ولا حركتها اللتين أعرفهما جيدا . كنت أبحث عن كومة رمادية فوق الأرض . لم يكن لها صوت ، لكنها كانت تطلق صوتا واحدا هو نوع من التمتمة العميقة اللامتناهية ( آ . آ . آ . )
لم تكن هذه التمتمة تنخفض أو تعلو ، غير أنها لم تكن تتوقف إطلاقا . وراء آلاف النداءات والأصوات في الساحة يمكن أن نسمعها . إنه صوت ساحة " جامع الفناء " الذي لا يتغير . يبقى كما هو طول المساء . ومن مساء لمن مساء ، أصغي من بعيد . كآبة تدفعني . كآبة لا أستطيع تفسيرها . من الأكيد أنني سأذهب إلى الساحة حيث تجذبني كثير من الأشياء ، وأعتقد أنني سأجدها بكل مميزاتها . هذا الصوت هو الذي يجعلني أشعر بشيء من الكآبة . إنه عند تخوم الحياة . والحياة التي تنظمه ليس سوى هذا الصوت . أصيخ بلهفة وقلق ، ودائما أدرك نقطة في طريقي ، وفي نفس المكان حيث أسمع فجأة صوتا شبيها بصوت حشرة ( آ . آ . آ . )
أشعر بنوع من الهدوء الغامض ينتشر في جسدي ، وحين تكون خطوتي مترددة ، وغير ثابتة ثباتا جيدا ، أسير فجأة باتجاه الصوت . أنا أعلم من أين يولد . أعرف الكومة الرمادية الصغيرة فوق الأرض التي لم أر منها شيئا غير قطعة من القماش الغليظ الداكن .
أبدا لم أر الفم الذي منه ينطلق الـ ( آ . آ . آ . ) لا الخد ولا أي جزء من الوجه . لم أكن أستطيع قول إن هذا الوجه هو وجه أعمى أو عراف . القماش الداكن القذر كان يغطي الرأس مثل سَلْهام ويخفي كل شيء . والكائن –أكيد أن ثمة كائن ما – كان مقرفصا فوق الأرض ، وتحت القماش كان ظهره مقوسا . كائن صغير جدا إذ أنه يبدو خفيفا وهزيلا . لم أكن أستطيع معرفة قامته لأني لم أره واقفا أبدا . ما كان فوق الأرض كان صغيرا جدا إلى درجة أن الإنسان يمكن أن يصطدم به سهوا إذا ما توقف الصوت . أبدا لم أره يروح أو يجيء . وأنا لا أدري إن كانوا يأتون به ، أو كانوا يأخذونه ، أو كان ينطلق بوسائله الخاصة .
المكان الذي اختاره هذا الكائن لم يكن مُغطى . لقد كان المكان المفتوح أكثر من غيره في الساحة كلها . وحول الكومة الرمادية كان الناس يروحون ويجيئون دون انقطاع . في المساءات الشديدة الحركة كان يختفي تحت أرجل المارة . وبالرغم من أنني كنت أعرف مكانه ، وأسمع صوته ، فإنه كان من الصعب علي أن أجده ، ثم يذهب الناس بعد ذلك ويبقى هو في مكانه ، فيما تكون ساحة " جامع الفنا " قد أفقرت تماما . بعد ذلك يظل مكوما في مكانه وسط العتمة ، كما لو أنه قطعة ثوب قذرة ، تخلص منها أحد ما خِفية وهو بين الجموع حتى لا يلاحظها أحد . تفرق الآن كل الناس وظلت الكتلة وحدها هناك . لم أنتظر أبدا أن يقف أو يأتي أحد ليأخذه . كنت أتسلل في الظلمة ، وأبتعد وقد استبد بي شعور ضاغط بالعجز ، وبالفخر أيضا .
هامش
إلياس كانيتي من أعظم كتاب اللغة الألمانية ، فاز بجائزة نوبل عام 1981 . والنص ورد في كتابه ( أصوات مراكش ) كتبه بعد زيارة إلى المغرب عام 1953 . وبالرغم من أن نصوص الكتاب تبدو كما لو كانت مذكرات رحلة ، غير أن الاكتشافات التي تأتي عبر ومضات خاطفة وواقعية تجعل الكتاب فيما أظن أكبر من مجرد مذكرات ، إذ تتحول نصوص الكتاب إلى ارتعاشة وجودية ، إلى فلسفة . إلى وعي عميق بالسرد الأمر الذي يعني لي أنها كتابة على التخوم بين أنواع أدبية عدة وقد آثرت أن أنظر إليه على أنه قصص مكتوبة بوعي غير نمطي وغير متعارف عليه في السياقات السردية .
تلميح هذا الهامش خاص بشخص عزيز وغالي
عندي لذلك وجب التنبيه ولسيدات المنتدى الحبيب اهدي هذه القصه لانها عجبتني .
قصه رااااااااااائعة غاليتي
اشكرك
الله يعطيكِ العااافيه
منوره القسم
حماااكِ الرحمن ورعاااكِ