بسم الله
تأملات في سورة الفلق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فمن سور القرآن العظيم التي تتكرر على أسماعنا، وتحتاج منا إلى وقفة تأمل وتدبر، سورة الفلق: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 1 – 5].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة – رضي الله عنها -: "أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بـ(المعوذات) وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح بيده رجاء بركتها"[1].
وروى البخاري في صحيحه من حديث عائشة – رضي الله عنها -: "كان إذا أوى إلى فِراشه كلَّ ليلةٍ جمَعَ كفَّيهِ، ثم نفَثَ فيهما، فقرأ فيهما ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسهِ ووجههِ، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات"[2].
وروى مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "ألم تر آيات أنزلت الليلة، لم ير مثلهن قط؟ ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾، و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾"[3]. قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1].
أي: ألجأ وألوذ وأعتصم برب الفلق، أي الإصباح، ويجوز أن يكون أعم من ذلك؛ لأن الفلق كل ما يفلقه الله تعالى من الإصباح والنور والحب، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ﴾ [الأنعام: 95].
وقال تعالى: ﴿ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ ﴾ [الأنعام: 96].
قوله تعالى: ﴿ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴾ [الفلق: 2].
أي: من شر جميع المخلوقات، حتى من شر النفس؛ لأن النفس أمارة بالسوء وفي الحديث: ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن شر ما خلق يشمل شياطين الإنس والجن، والهوام، وغير ذلك.
قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ﴾ [الفلق: 3].
الغاسق، قيل إنه الليل، وقيل إنه القمر، والصحيح أنه عام لهذا وهذا، أما كونه الليل فلأن الله تعالى قال: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ﴾ [الإسراء: 78].
والليل تكثر فيه الهوام والوحوش؛ فلذلك استعاذ من شر الغاسق؛ أي: الليل، وأما القمر فقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي في سننه من حديث عائشة: َ أنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – نظر إلى القمر فقال: "استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق"[4].
لأن سلطانه يكون في الليل، وإذا وقب: أي إذا دخل، فالليل إذا دخل بظلامه غاسق، وكذلك القمر إذا أضاء بنوره فإنه غاسق، ولا يكون ذلك إلا بالليل.
.
هن الساحرات، يعقدن الحبال وغيرها، وتنفث بقراءة مطلسمة فيها أسماء الشياطين على كل عقدة تعقد، ثم تنفث، ثم تعقد ثم تنفث، وهي بنفسها الخبيثة تريد شخصًا معينًا، فيؤثر هذا السحر بالنسبة للمسحور، وذكر الله النفاثات دون النفاثين لأن الغالب أن الذي يستعمل هذا النوع من السحر هن النساء، فلهذا قال: ﴿ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ﴾ ويحتمل أن يقال: إن النفاثات يعني الأنفس النفاثات، فيشمل الرجال والنساء، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: "سحر النبي – صلى الله عليه وسلم – يهودي من يهود بني زريق يقال له (لبيد بن الأعصم) قالت: حتى كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، حتى إذا كان ذات يوم دعا ثم دعا ثم قال: يا عائشة أشعرت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟ جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب قال: من طبه؟[5] قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة[6] قال: وجف طلعة ذكر[7] قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان قالت: فأتاها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في أناس من أصحابه ثم جاء فقال: والله يا عائشة لكأن ماءها نقاعة الحناء ولكأن نخلها رؤوس الشياطين، فقلت: يا رسول الله أفلا أحرقته؟ قال: لا أما أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شرًا فأمرت بها فدفنت"[8].
وقوله تعالى: ﴿ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 5].
الحاسد هو الذي يكره نعمة الله على غيره، فتجده يضيق ذرعًا إذا أنعم الله على هذا الإنسان بمال أو جاه أو علم أو غير ذلك، فيحسده.
والحساد نوعان:
نوع يحسده ويكره في قلبه نعمة الله على غيره، لكن لا يتعرض للمحسود بشيء، تجده مهمو ً ما مغمو ً ما من نعم الله على غيره، والشر والبلاء إنما هو بالحاسد إذا حسد، ولهذا قال: ﴿ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 5]، ومن حسد الحاسد العين التي تصيب المعان؛ لأنها لا تصدر غالبًا إلا من حاسد شرير الطبع، خبيث النفس، والعين كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "العين حق ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين"[9].
وروى ابن عدي في الكامل من حديث جابر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "إن العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر"[10].
قال المناوي: أي تقتله فيدفن في القبر، وتدخل الجمل القدر، أي إذا أصابته، أو أشرف على الموت ذبحه مالكه، وطبخه في القدر، وهذا يعني أن العين داء، والداء يقتل، فينبغي للعائن أن يبادر إلى معالجته بالبركة، فتكون رقية منه[11].
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري: أن جبريل أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا محمد، اشتكيت؟ فقال: نعم، قال: باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك[12].
وذكر الله – عز وجل – الغاسق إذا وقب، والنفاثات في العقد، والحاسد إذا حسد؛ لأن البلاء كله في هذه الأحوال الثلاثة يكون خفيًا، وعلى المؤمن أن يعلق قلبه بربه، ويفوض أمره إليه، ويحقق التوكل عليه، ويستعمل الأوراد الشرعية التي بها يحصن نفسه ويحفظها من شر هؤلاء السحرة والحساد، وغيرهم[13].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
جزاكـ الله خيرآ عزيزتي
وباركـ الله تعالى لكـ ..