قال فيها أحد الشعراء :
بنت الخليفة والخليفة جدها *** أخت الخلائف والخليفة زوجها
أبوها عبد الملك بن مروان وجدّها مروان بن الحكم وإخوتها الخلفاء الثلاثة :
الوليد ثم سليمان ثم بعد عمر نُصِّبَ يزيد بن عبد الملك، وزوجها عمر بن عبد العزيز ….
هذه المرأة مدرسة وحدها …. والحديث عنها قد يطول ولذلك سنأخذ من حياتها وشخصيتها
جوانب مضيئة نبيّن فيها كيف كانت فاطمة الزوجة الصالحة , والأم المربية , والوزيرة الوفية لزوجها ,
وإذا ما أردنا أن نوفي حقها في البحث , فإن علينا أن نعلم كيف كانت تعيش قبل خلافة زوجها
وكيف عاشت بعدها , لنعلم أي نوع من الزوجات هي ….
كلنا يسمع بما كان عليه عمر بن عبد العزيز قبل الخلافة من النعيم الذي كان يرفل فيه ,
والجاه الذي يعيش في كنفه , فقد كان عمر رغم صلاحه مشهوراً بحبه للمسك والثياب والعيشة الناعمة الفاخرة ,
كان يلبس الثوب مرة وإن تواضع فمرتين , وكان يمشي مشية متبخترة ,
حتى إن الطاووس ليكاد يحسده عليها وكانت حصيلة مخصصاته كأمير أموي أربعين ألف دينار في السنة ,
لقد ترك هذا كله حينما نُصِّبَ خليفة للمسلمين ….
ترك الطعام الهنيء والأثاث الوثير , والعيشة الناعمة , والمدّخرات والأموال والأملاك ,
تركها لأنه رأى أن ما عليه من غنى لم يبلغه بعرق الجبين , بل هو في الواقع ملك للمسلمين
حرموا منه حين أباح بنو أمية لأنفسهم أن يقتطعوا من بيت مال المسلمين الأموال الكثيرة …
لذلك كله اكتفى بثروة زهيدة هي خادم وجارية اشتراهما وبغلة شهباء
وأرض صغيرة كان قد اشتراها من ماله الخاص , تدرّ عليه في العام مئتي دينار
يتعيّش منها هو وأسرته الكثيرة العدد , بعد أن رفض أيضاً أن يأخذ أي دخل له من بيت المال
مقابل عمله كخليفة ….
والآن يحلو لنا أن نتساءل ما هو موقف فاطمة سليلة الأمراء ورضيعة النعيم والعز والجاه من كل هذا ,
هل تبعت زوجها راضية قريرة العين , أم تبعته مكرهة مجبرة ,
أم فارقته وقالت لكم دينكم ولي دين , سأعود إلى بيت أهلي بيت العز والجاه …
لا … إننا لنجد فاطمة تمثل لنا خير تمثيل حديث النبي صلى الله عليه وسلم :
"الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة ."
وحديثه القائل : "ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عز وجل خيراً له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته ,
وإن نظر إليها سرته وإن أقسم عليها أبرته , وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله …"
وإذا ما قيل قديماً وراء كل رجل عظيم امرأة ,
فإن من هاتيك العظيمات اللواتي يقفن وراء أحد العظماء هي فاطمة بنت عبد الملك …..
فاطمة لم تتبع زوجها فقط راضية بهذه العيشة الزهيدة … أثاث رث قديم , وثياب مرقعة ,
وطعام قليل , وهي التي لم تذق طعم هذه الحياة من قبل زواجها ولا من بعده قبل الخلافة ….
أجل لم تتبع فاطمة زوجها راضية فقط , بل كانت العنصر القوي والركن المتين والسند الأمين
الذي كان يستند إليه عمر بن عبد العزيز زوجها أثناء خلافته التي لم تدم أكثر من سنتين وخمسة شهور ..
كان عمره حين اعتلاها سبعاً وثلاثين وعمره حين مات وخلّفها وراءه تسعاً وثلاثين …
فكم كان عمرها هي يا ترى .. من المؤكد أنها كانت أصغر منه، أي شابة في ريعان شبابها،
ولا يخفى ما للشباب من شهوات ونزوات تركته فاطمة كله من أجل زوجها الحبيب أولاً ,
ومن أجل أنها آمنت أيضاً واقتنعت بما يفعله هذا الزواج الرائع .
ففاطمة منذ تسلم زوجها أعباء الخلافة لم تذق هناء اللقاء الزوجي الليلي قط ,
بل كانت تكتفي منه بنظرات الحب والوفاء والود فقط …. لماذا ؟؟
ينظر إليها مرة زوجها عمر بن عبد العزيز وقد تزيّنت بحليّها , فقال لها بلطف:
– تعلمين يا فاطمة من أين أتى أبوك بهذه الجواهر( يقصد من بيت مال المسلمين)،
فهل لك أن أجعلها في تابوت، ثم أطبع عليه، وأجعله في أقصى بيت مال المسلمين،
وأنفق ما دونه، فإن خلصت إليه أنفقته، وإن متّ قبل ذلك، فلعمري ليردّنه الخليفة الجديد إليك…؟؟
فتجيبه الزوجة الوفية المخلصة:
– افعل ما شئت يا أمير المؤمنين…
وتذكر كتب التاريخ أيضاً أنّ خليفة المسلمين عمر كان يقسم تفاح الفيء،
والفيء هو الذي غنمه المسلمون دون قتال, فيتقدم إليه أحد أبنائه صبي صغير يحبو على يديه وقدميه ,
ويأخذ من الفيء , وقد أغراه منظرها , ثم يضعها في فمه .
وينتبه أبوه الخليفة لذلك فيتجه إليه وقد اصفرّ لونه , وكأن الدماء في عروقه قد توقفت عن الجريان ,
فولده يوشك أن يأكل مالاً حراماً , صحيح أنها ليست أكثر من تفاحة ,
ولكن صحيح أيضاً أنها تفاحة من أملاك بيت المسلمين .
ويمسك عمر بالتفاحة برفق وحنان , و يجذبها من فم ولده فيعود الابن إلى أمه باكياً ,
ويده تشير إلى التفاحة الشهية…
هنا ماذا كان موقف الأم التي هي فاطمة بنت عبد الملك …
لم تتذمر ولم تقل له: اي كُلّها تفاحة واحدة … بل على العكس كانت دائماً متفهمة لورع عمر وخشيته لله ,
وكانت تماشيه وتجاريه أيضاً في ذلك .
وعلى الفور أرسلت الزوجة الصالحة المؤمنة إلى السوق من يشتري لولدها تفاحاً بدل هذه التفاحة …
وما إن ينتهي أمير المؤمنين عمر من عمله ويدخل إلى منزله يرى التفاحة في يد ابنه ,
فيتوجه إلى فاطمة زوجته ويسألها محتداً :
– يا فاطمة هل أخذ ابننا شيئاً من تفاح الفيء فتجيبه فاطمة باسمة , بأنها قد أرسلت من يشتري له تفاحاً .
فيجيبها عمر بصوت متهدج :
– أتدرين يا فاطمة والله لقد انتزعتها منه كأنما انتزعتها من قلبي
ولكني كرهت أن أضيع نصيبي من الله عز وجل بتفاحة من فيء المسلمين .
وبعد هذه الجوانب الرائعة من شخصية فاطمة الزوجة ,
نتساءل هنا هل فعلت فاطمة ما فعلت من حسن تبعل لزوجها ,
وروعة موافقتها لتصرفاته وأفعاله , لأنها كانت ذات حسب ونسب وجاه …؟؟
هل فعلت ما فعلت لأنها كانت ذات جمال؟؟ ,
أم فعلت ما فعلت لأنها كانت ذات دين وورع وتقوى؟؟،
بالتأكيد ستوافقونني بأن السبب الثالث هو الدافع لها في كل ما كانت تفعل….
ولله درّ الشاعر حين قال :
إن التزوج بالنساء لأربع ** حسب ومال أو جمال رائعُ
هذي الثلاثة ليس تكفي وحدها ** إن لم يزينها العظيم الرابعُ
دين يهذب كل ما في نفسها **لولا التدين كل شيء ضائعُ
إن الجمال بدون دين فتنة ** وغوايةٌ تغري وسهم صارع
والمال قربى من شرار جهنم ** والجاه للظلم المؤكد دافعُ
إلا إذا ضبط التدين خطوها ** فإذاً فقد صنعت ونعم الصانع