الماء النازل من السماء وتأثيره على الجبال
الماء النازل من السماء نعمة عظيمة على أهل الأرض جميعاً، وقد ذكر الماء بهذا المعنى في القرآن الكريم أربعاً وستين مرة.. ووردت بمعنى الماء النازل من السماء في تسع وعشرين مرة[1].. وقد تناولت هذه المواضع موضوعات عديدة كإخراج أنواع الثمرات وتعدد أصناف الخلق، وإحياء الأرض بعد موتها، والتمكين في الأرض كون الماء أحد أسباب التمكين فيها، والزوجية في الخلق فقد خلق الله تعالى من كل زوجين اثنين، فضلا عما ورد في التذكير باستخدامات الماء البشرية والاستخدامات الترفيهية . وسنتناول في هذا الفصل عرضا تحليلياً لبعض تلك الآيات :
1 _ إخراج الثمرات مختلفة الألوان :
الحديث عن الألوان في القرآن يعلو مقامه، ويعظم شأنه من خلال آية جامعة شاملة تناولت مستويات عديدة من علم وفن وطبيعة ومخلوقات وغيرها، تناولتها جميعا ضمن تناسق عجيب وعبر بناء فذ ولغة سامية لا يرقى لأسلوبها بشر قطعا، فما أجدر ان نطلق عليها آية الألوان، إذ يقول فيها الباري تبارك وتعالى : (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور)[2] وفي الآية الكريمة من حقائق العلوم ما يعجز العلماء عن كشف أسراها وبيان أبعادها، وتحديد مقاصدها وأغراضها .. حتى أن الآية الكريمة شغلت البلاغيين والنحاة على مر الأزمان والعصور، وباتت موضعا للاستدلال والاستشهاد فقال تعالى : (إنما يخشى الله من عباده العلماء ) وفي ذلك دلالة صريحة إلى حجم الإشارات العلمية التي تضمنتها الآية الكريمة .. وهذه الإشارات جميعها تعبر في الحصيلة النهائية عن عظمة الخالق تبارك وتعالى وقدرته في الخلق وفق قوانين وقواعد ثابتة لا تقبل الخطأ ولا تسمح بالتغيير، قال تعالى : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) فسار الكون وفق قانون واحد خاضع لإرادة واحدة هي إرادة الله تعالى .. فالله أنزل من السماء ماء .. وأخرج به ثمرات مختلفا ألوانها .. وجعل من الجبال جدد مختلف ألوانها .. وجعل الألوان وجعل الأسود .. وجعل الناس مختلفة ألوانها .. وجعل الدواب والأنعام مختلفة ألوانها .. وفوق هذا وذاك أنه جعل كل أولئك من الأحياء يعيشون على هذه الأرض وفق قانون واحد .. فاستخدمت الآية أداة التشبيه ( كذلك ) فالجميع يتلونون ويختلفون وفق نظام واحد .
قال تعالى : (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها)
إذ تطالعنا تفاسير الكتاب الحكيم أن الغرض من ذكر إنزال المطر وإخراج الزروع والثمرات المختلفة الألوان على الرغم من كونها تسقى بماء واحد، يعد دليلاً من أدلة القدرة الباهرة والصنعة البديعة للخالق العظيم ( لما قرر الله تعالى وحدانيته بأدلة قربها وأمثال ضربها أتبعها بأدلة سماوية وأرضية فقال : ألم تر .. وهذا الاستفهام تقريري، ولا يكون إلا في الشيء الظاهر جداً والخطاب للسامع وترى في رؤية القلب لأن إسناد إنزاله تعالى لا يستدل عليه إلا بالعقل الموافق للنقل وان كان إنزال المطر مشاهداً بالعين لكن رؤية العين قد تكون مسندة لرؤية البصر ولغيرها )[3].. وكما قيل فان القرآن الكريم كتاب الله المسطور، والكون كتاب الله المنظور .. فالتفت الخطاب القرآني من المسطور إلى المنظور للتنبيه إلى عظيم قدرة الله في مخلوقاته .. ( وذكر إنزال الماء من السماء إدماج في الغرض للاعتبار مع ما فيه من اتحاد أصل نشأة الأصناف والأنواع )[4] كقوله تعالى : (تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل )[5] إذ قد يكون المقصود مجازاً جميع أنواع الثمرات فكنى عنها بقوله : ( مختلفاً ألوانها ) فقد جمع الخطاب القرآني كل أصناف الثمرات منبها إلى قانون الري الأول، ( أنها جميعا تسقى بماء واحد )، وهذا من عظيم صنع الله وقدرته في خلقه. أو قد يراد بها الألوان الحقيقية، فالثمرات ذات ألوان مختلفة فمنها الأحمر والأصفر والأخضر وغيرها، بل إن الثمرة الواحدة تتلون على اختلاف مراحل نموها مع اختلاف مقدار حاجتها للماء على اختلاف تلك المراحل .
ويؤكد صاحب التحرير والتنوير أن اللون هنا مقصود حقيقة إذ يقول : ( والألوان جمع لون وهو عرض، أي كيفية تعرض لسطوح الأجسام يكيفه النور كيفيات مختلفة على اختلاف ما يحصل منها عند انعكاسها على عدسات الأعين … والمقصود من الاعتبار هو اختلاف ألوان الأصناف من النوع الواحد كاختلاف ألوان التفاح مع ألوان السفرجل .. واختلاف ألوان الأفراد من الصنف الواحد تارات كاختلاف ألوان التمور والزيتون ولأعناب والتفاح والرمان ) [6].
وفي قوله تعالى : ( فأخرجنا ) التفات من الغيبة إلى التكلم .. وقد ( التفت من الغيبة إلى التكلم لإظهار كمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبيء عن كمال القدرة والحكمة )[7] ولما في ذلك من الفخامة إذ هو مسند للمعظم المتكلم، ولأن نعمة الإخراج أتم من نعمة الإنزال لفائدة الإخراج فأسند الأتم إلى ذاته بضمير المتكلم وما دونه بضمير الغائب [8]وفائدة أخرى مفادها اقتراب المتفكر بتلك العظمة الإلهية فصار كالحاضر فكان الخطاب (فأخرجنا) [9] .. والالتفات كائن لأن ( الاسم الظاهر أنسب بمقام الاستدلال على القدرة لأنه الاسم الجامع لمعاني الصفات، وضمير التكلم أنسب بما فيه امتنان )[10] .
ولقد منح القرآن الكريم في هذه الآية العظيمة الزمن دوره وأهميته كشرط رئيس في إتمام عمليات التغير والتبدل (وجيء بالجملتين الفعليتين في ( أنزل ) و ( أخرجنا ) لأن إنزال الماء وإخراج الثمرات متجدد آنا بعد آن ) [11] .
( وجرد ( مختلفا ) من علامة التأنيث مع أن فاعله جمع وشأن النعت السببي أن يوافق مرفوعه في التذكير وضده والإفراد وضده، ولا يوافق في ذلك منعوته، لأنه لما كان الفاعل جمعا لما لا يعقل وهو الألوان كان حذف التاء في مثله جائزا في الاستعمال، وآثره القرآن إيثارا للإيجاز )[12].. فيكون فيه إيجاز حذف حرف .
وقوله تعالى : ( مختلفا ) نعت لثمرات، وقوله تعالى : ( ألوانها ) فاعل به ولولا ذلك لأنث مختلفا ولكنه لما أسند إلى جمع تكسير غير عاقل جاز تذكيره[13].. فجمع التكسير يجوز فيه أن تلحق التاء وأن لا تلحق [14].
(وقرأ الجمهور : مختلفا ألوانها، على حد اختلف ألوانها، وقرأ زيد بن علي : مختلفة ألوانها، على حد اختلفت ألوانها )[15].
وقال تعالى : (ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك)
الواو في قوله تعالى : ( ومن الجبال ) تحتمل وجهين[16]:
أحدهما : أن تكون للاستئناف كأنه قال : وأخرجنا بالماء ثمرات مختلفة الألوان.
ثانيهما : أن تكون للعطف تقديرها وخلق من الجبال.
صورة لأحد الجبال الحمراء التي عبر عنا الله تعالى بالجدد الحمر قال تعالى : (ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك)
وقد نبهت الآية الكريمة إلى العلاقة بين الماء الواحد _ عديم اللون من أصل خلقه _ والثمرات _المختلف ألوانها _ وتسري العلاقة نفسها على ماء واحد _ عديم اللون _ وأرض هي الأخرى _ مختلف ألوانها _ إذ إن تقدير الكلام : أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها كاختلاف ألوان الثمرات، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك _ أي كاختلاف ألوان الثمرات وجدد الجبال _ فمن الناس الأبيض والأحمر وكذلك الأسود .. فيكون في الآية إيجاز حذف جملة (كاختلاف ألوان الثمرات ) .. وجملة أخرى كاختلاف ألوان الثمرات وجدد الجبال ) .. وقد تم التعويض عنها وإيجازها بكلمة ( كذلك ) . وأضاف الزمخشري في قوله تعالى : (ومن الجبال جدد ) فقال : ( أراد ذو جدد )[17]فيكون فيها حذف للمضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، والجدد، الخطط والطرائق [18]، وقد يكون المعنى المراد بالجدد، الأنواع [19]، فسياق الآية يتناول أنواع المخلوقات كالجبال والنبات والإنسان.
ولقد جيء في جملة ( ومن الجبال جدد ) و( من الناس والدواب والأنعام ) بالاسمية دون الفعلية على عكس ( فأخرجنا به ثمرات ) وذلك لأن ألوان الناس والدواب والأنعام وكذلك جدد الجبال يكون تغير ألوانها غير ظاهر لذلك ابتدأ بالجملة الاسمية، لأنها تفيد الثبات .. أما تغير ألوان الثمرات فهو ظاهر ومحسوس لذلك جاء وصفها بالجملة الفعلية لإفادتها التغير والتجدد فهي مقرونة بالزمان .
وقد حصل في الآية تدبيج وهو أن يذكر المتكلم ألوانا، يقصد الكناية بها ويريد من ذكرها التورية عن أمور من وصف أو مدح أو هجاء أو غير ذلك من الفنون[20] .. وقد سلكت الآية الكريمة بذلك سبيل الكناية عن التشبيه من الطرائق فالجادة البيضاء هي الطريق التي كثر السير عليها، وهي أوضح الطرائق وأبينها، فلا يخاف اجتيازها الموغل في الأسفار، ولهذا قيل : ركب بهم المحجة البيضاء، ودونها الحمراء، ودون الحمراء السوداء[21].
قوله تعالى: (وغرابيب سود)
وفيما يتعلق بالغرابيب السود، فقد ميزتها الآية الكريمة عن الألوان المذكورة، (الأبيض والأحمر)، بل أخرجتها عن زمرة الألوان لمنع توهم البشر من كونها تتمتع بلون يميزها عن سائر الألوان، فقال تعالى: (جدد بيض وحمر مختلف ألوانها .. وغرابيب سود)، ويعود سبب ذلك –والله أعلم- إلى ما اكتشفه العلم الحديث من أن (الأجسام السود) هي في الحقيقة أجسام معتمة لا لون لها. فـ (الجسم الأسود) كما عرفه علماء الفيزياء هو ذلك الجسم الذي يمتص الأشعة الساقطة عليه، بمعنى آخر فإنه يمتص كل ألوان الطيف الشمسي، ولا يعكس أي لون منها، فيظهر معتما.
وهكذا فقد فصلت الآية الكريمة بين الألوان المختلفة في قوله : (جدد بيض) من جهة، و(غرابيب سود) من جهة أخرى، باعتبارها أجساما معتمة لا لون لها. فضلا عن ذلك وزيادة في التأكيد فقد جاء (الأسود) مقرونا (بالغرابيب)، والغرابيب، جمع غربيب، وهو اسم للشيء الأسود الحالك سواده[22]، بل تدل على ما هو أشد من الأسود فهو مثالي في سواده، فكان مقتضى …..
الظاهر أن يكون (غرابيب) متأخرا على (سود)، لأن الغالب أنهم يقولون: أسود غربيب، كما يقولون: أبيض يقق .. وأصفر فاقع .. وأحمر قان، ولا يقولون: غربيب أسود[23].
إن الكلام على التقديم والتأخير، الغرض منه التوكيد، وهو حاصل على كل حال[24]، وهذا يعني أن تقديم (غرابيب) على (سود) فيه توكيد على أنه حالك السواد مما يؤكد أن هذه الأجسام تعد أجساما معتمة تماما، فهي مثالية في سوادها وعتمتها، لذلك فهي مثالية أيضا في امتصاصها للضوء، فلا تعكس أي لون ساقط عليها، فهي أجسام معتمة تماماً ولا لون لها. إذ إن (لون الجسم دالة لأطوال أمواج الضوء التي لا يمتصها الجسم، فلو أضيء جسم بلون أبيض ولم يمتص أي لون من ألوان الطيف، فستراه أبيض اللون، وإن أضيء بلون أبيض وظهر بلون أزرق فهذا يعني أن الجسم امتص جميع مكونات اللون الأبيض وعكس اللون الأزرق فقط فظهر أزرقا . أما إذا أضيء جسم بلون أبيض وظهر أسودا فذلك يعني أنه قد امتص جميع ألوان الطيف ولم يعكس أيا منها فهو جسم معتم لا لون له)[25]. فتكون عبارة (غرابيب سود) وفقا لما ذكرناه كناية علمية عن الأجسام المعتمة عديمة اللون.
——————————————————————————–
([1]) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، 684 .
([2]) سورة فاطر : 27-28
([3]) البحر المحيط، 7، 311
([4]) التحرير والتنوير، 22، 301 .
([5]) سورة الرعد، 4 .
([6]) التحرير والتنوير، 23، 300-301
([7]) الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه، 11، 270
([8]) البحر المحيط 7، 311، التفسير الكبير 26، 20
([9]) التفسير الكبير، 26، 20
([10]) التحرير والتنوير، 23، 301
([11]) المصدر نفسه .
([12]) المصدر نفسه .
([13]) السراج المنير، 3، 324
([14]) البحر المحيط، 7، 311
([15]) المصدر نفسه .
([16]) التفسير الكبير، 26، 20
([17]) الكشاف،
([18]) الكشاف،
([19]) ينظر : الإعجاز البياني في القرآن، 467 .
([20]) ينظر : إعراب القرآن وصرفه وبيانه،
([21]) ينظر : تفسير الكشاف،
([22]) ينظر :
([23]) ينظر : التحرير والتنوير، 23، 303 .
([24]) ينظر : التحرير والتنوير، 23، 303 .
([25]) فيزياء الألوان في القرآن، أحمد عامر الدليمي، مجلة البراق، 6 .