التجاره الرابحه مع الله سبحانه وتعالى..
الحمدُ لله الذي أنعم علينا بطاعتِه، وزيَّن عقولنا بمعرفته، وطمأن قلوبَنا ببردِ يقينه، وجعل جزاءَ الحسنة عشر أمثالها بفضله، وجزاء سيئة مثلها بعدله، ولم يحرِمْنا رجاءَ مغفرتها على تخوُّف منَّا رهبة مِن قُدرته، ورغبة في رحمته، ويسَّر لنا سُبل الخير الكثيرة، وجعَل أمر المسلم كله له خيرًا، فنسأله أن يوفِّقنا إلى كلِّ خير، وأن يحول بيننا وبين كل شرّ، سبحانه ما خسِر معه ولا ربِح دونه متاجِر، وهل التجارة إلا معه؟! وهل الخَلق إلا به؟! وهل العيش إلا له؟! يقول – سبحانه وتعالى -: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، فما كنَّا إلا لأنَّه أراد، أفلا نكون له كما أراد؟! ما مِن نِعمة نتنعم فيها عرفْناها أو غفلنا عنها إلا منه، يقول – جلَّ وعلا -: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53]، العقل نِعمة، والسمع نعمة، والبصر نعمة، وكل جارحة نعمة، وكل حِس وفِكر نِعمة، واليقين نِعمة، والطاعة نعمة، والانصراف عنِ المعاصي نعمة، والتوبة نعمة، والمغفرة نعمة، والدعاء نعمة، وإجابته نِعمة، بل وتوفيقه إيَّانا لحمده وشُكره على نِعَمِهِ نِعمة، وإن نحن حمدناه على توفيقه إيَّانا لنِعمة حمدِه فتلك نعمة، فسبحانه ذو الفضل والإنعام، صدَق إذ قال: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34]، كريم على كلِّ الخلائق يُنعِم علينا – مسلمنا وكافرنا، برِّنا وفاجرنا – مِن نعم الدنيا ابتلاءً؛ لينظر – وهو الأعلمُ بنا منا – أنشكُر أم نكفر، ويمنع ما يشاء عنَّا؛ لينظر أنرضى أم نسخط، وهو الملك القيُّوم الذي لا تنفعه طاعةُ الطائعين، ولا تضره معصيةُ العاصين، ينعم على التائبين بالغفران، ويتفضَّل على الصادقين النادمين بعفْوِه ومغفرته، بل ويُبدلُ سيِّئاتهم حسنات، ويَفرح بتوبة عبدِه وهو عنه غني، أفلاَ نستحي منه وهو على غِناه عنَّا وفقرنا إليه يُنعم علينا ونُعرض عنه! بل ونعصيه بنِعمه، فأي كفران بعدَ هذا؟!
فصل في بيان جزاء المتاجَرة مع الله – تبارك وتعالى:
ولو جاءنا خبرُ رجلٍ أعارَ رجُلاً ألف ألفٍ مِن المال على أن يُتاجر بها، ثم يردها إليهِ بعدَ خمسين سَنَة وله ما ربح منها، فأيُّ كرمٍ بعدَ هذا، وأي عطاءٍ وسخاءٍ ونقاءٍ بعدَ هذا؟! فما بالك وقد استعان المُعارُ على المعير بما أعارَه فحاربه به وجَحَده حقَّه، أو ظلمه ماله، فأيُّ خِسَّة ودناءة وزيغ بعدَ هذا؟! ولله المثل الأعلى؛ فقدْ وهبَنا الله وأنعم علينا بكلِّ شيء وسخَّر لنا كلَّ شيء، واستخلفنا في الأرض؛ لينظر كيف نعمل، فإذا نحن نعصيه وننازعه ملكَه وأمره ونهيه، فمِن كافرٍ به وفاسقٍ عنه وعاصٍ له، وهو يمهلنا ويتودَّد إلينا بنِعمه؛ لعلَّنا نتذكر أو نخشى، ولعلنا نرجع إلى الحقِّ ونستعمل ما أنعم به علينا في مرْضاته؛ لتكونَ النِّعمة العظمى والمِنَّة الكُبرى التي بها سعادةُ الدارين الدنيا والآخِرة، يقول تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 29 – 30]، فسبحانه وتعالى وهبَنا ما نتاجر به معه، ثم وفقنا إلى التجارة معه، وتفضَّل علينا بها، ثم هو يُعطينا أجر تلك التجارة كأحسن ما يكون الأجر والجزاء، فهو خيرُ أجر في خير تِجارة، ثم هو يَزيدنا مِن فضله فوق أجورنا، ويضاعف لمَن يشاء، فلو تأمَّلنا عظيم مِنَّته وكرمه، وجزيل عطائه وفضله؛ لعلمنا كم نحن مقصِّرون وكم هو كامِل، ولعلمنا أنَّه لما كنَّا نتاجر معه بما وهبَنا، وأنه ليس لنا مِن أنفسنا شيء، وأن ما استحققناه مِن تجارتنا معه ليس حقًّا لنا ابتداءً، وإنما كان بفضله لعلمنا أنه ينبغي علينا ألاَّ نكون إلاَّ في طاعته وعبادته على الدوام، غير أنَّه رؤوف رحيم، لَمَّا عَلِمَ عجزنا عن مُوافاته حقَّه، وعجزَنا عن شكر ولو نعمة واحدة مِن نِعمهِ التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، وضعْف همتنا إلى الخير ومسارعتنا في الشر، جعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعف ويزيد، وادَّخر لنا في الجنة ما لا عينٌ رأت، ولا أُذن سمعتْ ولا خطَر على قلب بشَر، وهذا معنى قوله: "شَكُور"؛ أي: يقبل القليل، ويُجازي به الكثير، وجعَل السيئة بسيئةٍ واحدةٍ، وتودَّد إلينا بقَبول التوبة، ومغفرة الذنوب، وهذا معنى قوله: "غَفُور"، فسبحانه عَدلٌ كريم، ويقول سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الصف: 10 – 13]، فانظر – وفَّقنا الله وإيَّاك – إلى هذه التجارة العظيمة، وإلى عِظم الجزاء مِن مغفرة وجنَّات تجري مِن تحتها الأنهار ومساكن طيِّبة، فإنَّه لجزاء كبير، وفوز عظيم، يتحصَّل عليه المؤمنُ المجاهِد بنفْسه وماله، هذا في الآخرة، أمَّا في الدنيا فيبشر الله هؤلاء المخلصين بالنصر القريب منه، وإنما قال: ﴿ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا ﴾؛ لأنَّها غير داخلة في الفوز العظيم، وإنَّما هي مِن فوز الدنيا الذي يمتنُّ الله به على عبادِه الباحثين عن فوزِ الآخرة؛ يقول – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن كانتِ الآخرة همَّه جعَل الله غناه في قلْبه، وجمَع له شمْلَه، وأتتْه الدنيا وهي راغمة))[1]، ويقول – عزَّ مِن قائل -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111]، وهذا مِن أعظم الفضل، فقدِ اشترى الله مِن المؤمنين أنفسهم التي وهبَها لهم، ولا فضل لهم فيها ووعَدهم – وهو الأوفى – أن يكون أجرُ هذا البيع وجزاؤه الجنة، فما أهونَ النفسَ وأرخصَها إذا كان الثمنُ الجنة! وما أربحَ هذا البيعَ الذي نشتري فيه الباقي بالفاني! وهو على هذا جزاء للمجاهد، سواء قُتِل في سبيل الله، أو مات على فِراشه، فما أعظم منه؟!
فصل في أنواع المتاجرة مع الله:
وأنواع المتاجَرة مع الله كثيرة، وأوَّلها وآكَدها وأساسها الذي لا تَصلُح إلا به: الإيمان بالله – تبارك وتعالى – والإيمان بنبيِّه محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول الله تعالى في الآياتِ التي ذكرْناها مِن سورة الصف: ﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾، فالإيمان هو أصلُ الدِّين، ولا يقبل الله بدونه عملاً، يقول سبحانه: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلاَمُ ﴾ [آل عمران: 19]، ويقول: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، ويقول: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 5]، فجعَل سبحانه الإيمان أولى الأعمال بالوجوب، وجعله شرطًا في قَبول ما سواه مِن الأعمال، وشرطًا للمتاجرة معه، بل أول الشروط، ويلي الإيمان في المتاجَرة الدفاع عنه، والمجاهدة في سبيلِ الله بالنفس والمال، وهذا مِن لوازم الإيمان، ومِن لوازم الاعتقاد بأيِّ شيءٍ الدِّفاع عنه، والدَّعوة إليه، وكل عمَل ممَّا أمر به أو ندَب إليه الله ورسوله، ففعله مِن المتاجرة معه، وكل عمَل ممَّا نهى عنه أو كرهه الله ورسوله، فتركه مِن المتاجرة معه، وكل ما هو وسيلة وسبيل إلى تحقيقِ الإيمان الكامِل ممَّا ذكر في الكتاب والسُّنة، فهو مِن المتاجرة معه – تبارك وتعالى – غير أنَّ الذي عُيِّنَ في الآية هي الأُسس التي انبنَى عليها الدِّين عندَ نزول القرآن، والتي اقتضتها الحاجةُ أكثرَ من غيرها، وهي بلا شكٍّ أفضلها، يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ [فاطر: 29]، فذكر الصلاة والزكاة، وكذا كل عمَل في الإسلام داخلٌ في مسمَّى التجارة، ويقول – سبحانه وتعالى – في صِفة هؤلاء المتاجرين معه الرابحين بفضله: ﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 112]، فهذه كلها مِن أنواع المتاجرة مع الله، والله تعالى أعْلَى وأعلم.
~~~~~~~