ما السبب الذى جعل سيدنا موسى عليه السلام يتجه إلى بئر مدين بمجرد دخوله إلى هذه الأرض الجديدة؟ كان للقدماء عادة وهى أن الغريب إذا دخل أرضًا جديدة عليه، وأراد أن يُضَيَفَهُ أحد ليأكل ويشرب فعليه أن يذهب إلى مكان السقاء؛ لأنه مكان اجتماع القوم مما يجعله مكانًا مناسبًا لإيجاد شخص يضيف الغريب، هذا بالإضافة إلى أنه أراد أن يشرب بعد رحلة الثمانية أيام في الصحراء. ما هو هدفك الآن يا سيدنا موسى؟ أن يستضيفنى أحد؟
اقرأ القرآن وتعايش معه: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (القصص:23) والأُمة من الناس هى الجماعات الكثيرة من البشر، كلٌ له مأربهُ الخاص إما سقاية ماشيته أو سقاية أهله أو أن يشرب هو نفسه. ولنا أن نتخيل موقف سيدنا موسى عليه السلام الآن، فهو لابد فرح بوصوله إلى هذا المكان الذي يكثر فيه االناس، ولابد أن أحدهم سيلاحظ عليه مشقة السفر وجوعه فسيستضيفه عنده، ولكنه في هذه الأثناء لاحظ شيئًا غريبًا، وهو وقوف فتاتين على جانب هذه الساحة الكبيرة ومعهما أغنامهما، ولكنهما لا يقتربان من الماء. أريدك أن تلاحظ معي شيئًا لطيفًا في الآية الكريمة السابق ذكرها، وهو أن كلمة "وَجَدَ" قد تكررت مرتين، فمرة وجد أمة من الناس، ومرة أخرى وجد فتاتين تمنعان أغنامهما من أن يدخلوا إلى الماء متزاحمين مع أغنام الآخرين، لقد تعلم سيدنا موسى عليه السلام من التجربة، فأول مرة وجد شخصًا يضرب آخر، فوكزه فورًا فقضى عليه، بينما في المرة الثانية (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَّبْطِشَ …) (القصص:19) أي أنه فكر قليلًا قبل أن يهم بأمر ما، أما الآن فهو يرقب المكان ويتفكر في الأمر من حوله ويعقله، فتكررت كلمة "وجد" لتعبر عن هذا التفكر في الأمر قبل إحداث فعل ما. هل لاحظت كم هو جميلٌ هذا التدريب الرباني المستمر؟! تدريب الله عز وجل لموسى عليه السلام اليوم هو: "شاهد وارقب حتى ولو كنت تفعل خيرًا"، هذه هى القاعدة عند عمل الخير، فما بالك لو كان لعمل شر، إياك أن يجرك صاحبك إلى شر، إياك أن تسلم عقلك وقلبك إلى شيطان أو إلى صاحب سوء، بل يجب عليك أن تشاهد وترقب
شهامة ونصرة رغم التعب والجوع والعطش:
وما الذي شاهده وراقبه سيدنا موسى عليه السلام في ساحة ماء مدين؟ وجد الفتاتين تقفان على جانب الساحة، بينما يقف الناس في طابور على الماء الأقوى فالأقوى، أي أن الأقوى يصل إلى الماء أولًا، يسقى نفسه ثم أهله ثم ماشيته وينصرف، ليأتي الذي يليه في القوة، وهكذا من يأتي البئر مبكرًا يأخذ الماء الصافي، ومع الوقت يبدأ الطين والكدر الموجودان في قاع البئر يعكران الماء، فيأتي الضعيف ويأخذ الماء المكدر بالطين، وبالتالى فإن القوى هو من يحصل على الماء الصافي، بينما الضعيف يحصل على الماء الكدر، وأضعف الضعفاء هو من سيسقى في آخر الوقت بعد انصراف جميع السقاة، وبالطبع أضعف الضعفاء هما الفتاتان لأن والدهما رجل عجوز لا يستطيع أن يسقي بنفسه. استطاع سيدنا موسى عليه السلام بعد أن شاهد وراقب ساحة ماء مدين أن يتعرف على ماهية منطق الحكم عند أهل هذه المدينة، وهو منطق القوة وليس منطق الرحمة، كم من مواقف يحكمها منطق القوة في بلادنا! ومع أى منطق أنت؟ منطق القوة أم منطق الرحمة؟ منطق الأقوياء أم منطق موسى نصير الضعفاء؟ لم تُذكر هذه القصة فى القرآن هباءً بل لتتعلم وتعِىَ الأمور من حولك، وأنت عليك أن تحدد وتختار منطقك، أتريد أن تكون مثل الأقوياء الذين سقوا على البئر بالقوة على حساب الضعفاء؟ ولكنهم لم يُذكروا في التاريخ، أم تريد أن تكون مثل موسى عليه السلام كليم الله وحبيبه؟ لنرى ماذا سيفعل نبي الله موسى عليه السلام مع الفتاتين علمًا أنه ما ورد ماء مدين إلا ليجد من يستضيفه، وهو الغريب الجائع، ومن المؤكد أن الفتاتين لن يستضيفا رجلا، ولو أنه ساعدهما فهذا يعني أنه سيقدمهما بقوته على كثير من الرجال، وتقل فرص استضافته من أحد هؤلاء الرجال أو حتى تنعدم، فمع أي المنطقين سيكون سيدنا موسى عليه السلام؟ يا سيدنا موسى، ماذا أنت فاعل وأنت من سرت على رمال مصر إلى أن وصلت إلى حجر مدين، سائرًا على قدمين عاريتين بعد مسيرة ثمانية أيام؟ أنت الذي أُلصقت بطنك بظهرك من الجوع، وأنت المهدد بالقتل من قِبل فرعون، وأنت من لا تعرف هل نجوت أم لا، هل تفكر يا سيدنا موسى، في مساعدة الفتاتين وبك كل هذه الأحوال؟!
نعم، إن شهامته ستتغلب على تعبه وجوعه وعطشه، وسيساعد الفتاتين! ألم أقل لكم أن سيدنا موسى صلى الله عليه وسلم سيقدم سيرته الذاتية الخاصة به ليصبح نبيًا؟ ويا الله، إنها نفس السيرة الذاتية لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي كليهما نصرة الضعيف هى سابقة الأعمال، ألم يستوقفك كلام السيدة خديجة رضى الله عنها للرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه الوحى لِيُعلمه أنه أصبح نبيا؟ ألم تقل له: "كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتكرم الضيف، وتعين على نوائب الدهر، وتعين الضعيف وتقف مع المكروب"، إذن تلك هى المواصفات التي جعلت الأنبياء أنبياء، وأنت إن أردت أن تكون حبيب للأنبياء وعلى قدم الأنبياء، فعليك بنصرة الضعفاء التي جعلت سيدنا موسى عليه السلام كليم الله وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيد خاتم الأنبياء. هل لى أن أسالك ماذا كنت ستفعل لو كنت مكان سيدنا موسى عليه السلام في هذا الموقف؟ دعني أقل لك ماذا كنت ستفعل، كنت ستهرول إلى البئر مزيحًا كل من يقف أمامك بالقوة لترتمي في الماء، وتروي نفسك منها، أليس هذا بصحيح؟ أم كنت ستجلس على الأرض تداوي قدميك التي أدمت دمًا، أم كنت ستنام، وتنام لكي تستطيع أن تفيق، أم كنت ستذهب إلى أحد الأقوياء، وتطلب منه الاستضافة، وعلى كلٍ فإنك من المؤكد كنت ستتجاهل الفتاتين، لأنه ليس هذا الوقت المناسب لتفكر في أمرهما، ناهيك عن مساعدتهما. لم يفعل سيدنا موسى عليه السلام أيًا مما كنت أنت ستفعله؛ لأنه لا يتوقف عن نصرة الضعيف، ولا تتوقف شهامته، فماذا فعل سيدنا موسى عليه السلام؟
ذهب سيدنا موسى عليه السلام إلى الفتاتين يسألهما عن أمرهما، ويسرد القرآن الكريم الخطاب بينهما كالتالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (القصص:23) (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص:24) ولاحظ أدب الفتاتين، فهما اعتذرا عن وجودهما في وسط هذا الحشد الكبير من الرجال بأن أباهما رجل عجوز، لا يستطيع أن يسقي بنفسه، ولذلك هما هنا من أجل هذه المهمة بدلًا منه، وهنا في هذه اللحظة ينصر سيدنا موسى عليه السلام الفتاتين الضعيفتين، فيسقي عنهما، وإن كان المنطق الذي يعرفه السقاة هو منطق القوة فسيدنا موسى صلى الله عليه وسلم هو لها، وبالفعل تزاحم مع الرجال، وسقى لهما، ونسى جوعه وعطشه حتى أنه لم يسق نفسه كما قال سيدنا ابن العباس: "لم يُدرِك أن يشرب".
هل عرفت الآن لم استحق سيدنا موسى عليه السلام أن يكون كليم الله عز وجل؟ ماذا عنك أنت؟ ما هو مقامك الذي تريد الله عز وجل أن يضعك فيه؟ أتريد أن تدخل الجنة؟ ولكن بأي عمل تريد أن تدخل الجنة، بأى ضعيف وقفت بجواره، بأى يتيم نصرته، بأى أرملة ساعدتها، بأي أطفال شوارع وقفت بجانبهم، بأي قرية فقيرة ذهبت إليها وساعدت فقراءها؟ قل لي بأي عمل؟
حب النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا موسى:
هناك رواية تقول أن الرعاة لما علموا أن سيدنا موسى عليه السلام ينتوي مساعدة الفتاتين أرادوا منعه، ولكنهم علموا بعدم مقدرتهم على هذا لِما ظهر منه من قوة البدن في زحامهم إياهم على الماء، فقرروا وضع صخرة عظيمة لا يستطيع حملها إلا عشرة رجال مجتمعين في طريقه ليعترضوه، فما كان منه إلا أنه رفعها بمفرده. ومن الجدير بالذكر أن النبى صلى الله عليه وسلم وصف سيدنا موسى عليه السلام، وكان قد رآه صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج، وكان يحبه حبًا جمًا، وكان من أقرب الناس لقلبه صلى الله عليه وسلم بعد سيدنا إبراهيم عليه السلام؛ وذلك لأن ثلث القرآن الكريم أُنزل في سيدنا موسى عليه السلام، وبحب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم كان حبه لسيدنا موسى عليه السلام، كما أنه كان أيضًا أكثر من عانى مثله مثل الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أجل ذلك كان يقول النبى صلى الله عليه وسلم عندما يؤذى أو يؤذى أحد من أتباعه: "رحم الله أخي موسى". إياكم أن تكونوا غير محبين لسيدنا موسى عليه السلام، أحبوه مثل الرسول صلى الله عليه وسلم كما علمنا القرآن الكريم (… لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) (البقرة:285) يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا موسى عليه السلام، فيقول: "رأيت موسى، فقال مرحبًا بالنبى الصالح والأخ الصالح"، يا الله على الحب بين كلا النبيين، يا ليت بني إسرائيل يتعلمون، يا ليتهم يعلمون مقام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عند نبينا موسى صلى الله عليه وسلم، ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا موسى عليه السلام، بقوله: "فرأيته طوالًا أجعد الشعر" وطوالًا هذه تشير إلى شدة الطول مع عضل مفتول، فقد كان سلام الله عليه قوة بدنية هائلة؛ ولذلك استطاع أن يحمل بمفرده صخرة لا يحملها إلا عشرة رجال مجتمعين، ومن أجل ذلك قالت الفتاة لأبيها فيما بعد: (… يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ) (القصص:26)0 أريد هنا أن أوجه كلامي إلى الشباب الذى يداوم على الرياضة: إياكم أن تكون عضلاتكم هذه للشر أو للبنات أو للإعجاب، إياك أن تضع في جيبك سلاحًا أبيض، وإياك أن تستقوي على أحد بعضلاتك، تَعَلَم أن تكون عضلاتك وقوتك للضعفاء، تعلم من هذا الدين، أ طعام وشراب أم رجولة وشهامة؟ اختار سيدنا موسى عليه السلام الوقوف بجانب الضعفاء فأصبح كليم الله عز وجل
قد تتساءل في نفسك أن ما فعله سيدنا موسى عليه السلام مع الفتاتين هو عمل خير، ولكنه فى النهاية عمل بسيط وصغير، يجب أن تعلم أن نصرة الضعيف ليس بعمل صغير، وأن من يعمل العمل الصغير يُهيؤه الله عز وجل للعمل الكبير، لأن الله عز وجل يُجرب عباده مرة تلو الأخرى، وإذا نجحوا يتفضل عليهم بالمنزلة الكبيرة، وهكذا أصبح سيدنا موسى عليه السلام هو السبب الذي يجعلنا نهتم بمدين وبماء مدين، فهو رمز نصرة الضعفاء، فهو الذي سيخوض أعظم تجربة لمواجهة الظلم في تاريخ البشرية.
وبعد أن سقى سيدنا موسى عليه السلام للفتاتين خسر كل من كان يقف على ماء مدين من الرجال الذين قد يُضيفونه، فرجع سيدنا موسى إلى الخلف وجلس في ظل شجرة ليس معه أحد إلا الله عز وجل
الواجب العملى:
· وإليكم الواجب العملي بعد معرفة هذه القصة العظيمة، وهو أن تبحث عن فقير أو ضعيف وانصره كما نصره سيدنا موسى عليه السلام، فهذا هو الطريق إلى الجنة، وهذا هو طريق الأنبياء، وعليك أن تعلم أنك قد تجد ضالتك في بيتك، كأن يكون هذا الضعيف هو أمك أو زوجتك أو ابنتك وأنت من تستضعفها، وضع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم نصب عينيك، والذي يقول فيه: "لئن يمشي أحدكم في حاجة أخيه خير له من أن يعتكف في مسجدي هذا"، فيامن يعتكف في المسجد النبوي في العشر الأواخر من رمضان، اذهب إلى قريتك، وابحث عن أسرة فقيرة، ومُد لهم يَد العون، كأن تساعدهم على إقامة مشروع صغيرتُحيِيهُم به، ويا من يعاني من المشاكل، بالله عليك، اقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلم منه: "من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة". "وكان الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، "ومن يسر عن معسر يسر الله عنه في الدنيا والآخرة". ابحث عن أرملة، صديق، أو جار ضعيف، وقف بجانبه، واعلم أن أحد الصحابة كان إذا لم يمر ببابه ضعيف أو فقير يطلب مساعدته يقول: "هذه مصيبة بذنب أذنبته"، وعليه إذا لم تستطع أن تجد فقيرًا أو ضعيفًا تساعده، فاعلم أنك محروم بذنوبك الكثيرة