السبيل إلى تطهير النفس ومحو الذنوب
نجد في القرآن الكريم آيات عديدة تجمع بين التوبة مع الاستغفار، مثل قول الله تعالى في (سورة المائدة الآية 74): (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وقوله تعالى في (الآية 3 من سورة هود): (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا…)، وقوله تعالى في (الآية 52 من السورة ذاتها): (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا…). فالاستغفار والتوبة لا يكونان إلا بالندم والإقبال على الله تعالى والعزم على ترك الذنوب، أملاً في نيل مغفرته عزّ وجلّ وطلباً لرضوانه. وفي بيان جانب من معاني التوبة والاستغفار التي وردت في آيات القرآن الكريم، تتحدث مديرة مشروع حملة أهل القرآن العالمية/ دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في إدارة
التوجيه والإرشاد، إيمان إسماعيل عبدالله.
وتستهل حديثها بالإشارة إلى قول الله سبحانه وتعالى في (سورة النساء الآية 110): (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)، فإنّ الاستغفار هو السبيل إلى تطهير النفس ومحو الذنوب، وهو نعمة من الله سبحانه وتعالى على عباده لأنّه يعلم بأنّ العبد يذنب ويخطئ ويقصّر، فإذا لجأ إلى الله تعالى وتاب وأناب واستغفر، سيجد رحمة واسعة ومغفرة منه عزّ وجلّ.
وقد عظّم الله سبحانه وتعالى شأن التوبة بأن أشار إليها في مَواطن عديدة في القرآن الكريم، حيث نجد في باب التوبة 80 آية من آيات القرآن الكريم تحث على التوبة والاستغفار، وتتحدث عن الكيفية التي يكفّر بها العبد عن ذنوبه ويتوب إلى الله عزّ وجلّ، إلى جانب آيات عديدة سلطت الضوء على أهمية الاستغفار وكيفية إدراك مغفرة الله عزّ وجلّ، ومنها قول الله تعالى في (الآيات 133-136 من سورة آل عمران): (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ). وقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمة كيفية المسارعة إلى إدراك المغفرة، فأشار الله عزّ وجلّ إلى (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ)، و(الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)، و(الْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)، و(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ).
– عمل السوء وظُلم النفس:
يقول الله سبحانه وتعالى في (سورة النساء الآية 110): (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)، فمن يعمل سوءاً، أي من تجرأ على المعاصي وارتكب الآثام، ثمّ استغفر الله استغفاراً تاماً، يستلزم الإقرار بالذنب والندم عليه والإقلاع عنه والعزم على ألا يعود، بهذا قد وعده من لا يُخلف وعده بالمغفرة والرحمة، فيغفر له ما صدر عنه من الذنب، ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب، ويعيد إليه ما تقدم من الأعمال الصالحة، ويوفقه في ما يستقبله من عمره، ولا يجعل ذنبه حائلاً عن توفيقه لأنّه قد غفره، وإذا غفره غفر ما يترتب عليه.
وليعلم المسلم أن عمل السوء على الإطلاق يشمل سائر المعاصي الصغيرة والكبيرة، وسُمي "السوء" لكونه يسوء عامله بعقوبته ولكونه في نفسه سيئاً غير حسن. وكذلك ظُلم النفس عند الإطلاق يشمل ظلمها بالشرك فما دونه، ولكن عند اقتران أحدهما بالآخر قد يفسر كل واحد منهما بما يناسبه، فيفسر عمل السوء هنا بالظلم الذي يسوء الناس، وهو ظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم. ويفسر ظلم النفس بالظلم والمعاصي التي بين الله تعالى وعبده.
ونجد في كتب التفسير أن ظلم النفس سُمي (ظُلماً) لأن نفس العبد ليست ملكاً له يتصرف فيها بما يشاء، وإنما هي ملك لله تعالى قد جعلها أمانة عند العبد وأمره أن يقيما على طريق العدل، بإلزامها الصراط المستقيم علماً وعملاً، فيسعى في تعليمها ما أمر الله تعالى به، ويسعى في العمل بما يجب. فسعيه في غير هذا الطريق ظلم لنفسه وخيانة، وعدول بها عن العدل الذي ضده الجور والظلم.
– إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً:
يقول الله سبحانه وتعالى في (سورة الزمر الآية 53): (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). وفي هذه الآية الكريمة يخبر الله تعالى عباده المسرفين، أي المكثرين من الذنوب، بسعة كرمه ويحثهم على الإنابة قبل أن لا يمكنهم ذلك فقال "قُلْ…" يا أيها الرسول ومن قام مقامه عن الدعوة إلى دين الله مُخبر العباد عن ربهم، (.. يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ…) باتّباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب وارتكاب المعاصي التي تثير سخط علاّم الغيوب، (.. لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ…) أي لا تيأسوا منها فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة وتقولوا، قد كثرت ذنوبنا وتراكمت عيوبنا فليس لها طريق يزيلها ولا سبيل يصرفها، فتبقوا بسبب ذلك مصرين على العصيان متزودين منه بما يغضب عليكم الرحمن. ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجوده، واعلموا (.. إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا…) من الشرك والقتل والزنا والربا والظلم وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار، (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي وصفه المغفرة والرحمة وصفان لازمان ذاتيان لا تنفك ذاته عنهما، ولم تزل آثارهما سارية في الوجود مالئة الموجود تفيض يداه بالخيرات آناء الليل وأطراف النهار، ويوالي النِّعم والمنن على العباد في السر والجهر. وإنّه تعالى العطاء أحب إليه من المنع، والرحمة سبقت الغضب وغلبته. لكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب، إن لم يأت بها العبد فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة، أعظمها وأجلها، بل لا سبب لها غير الإنابة إلى الله تعالى بالتوبة النصوح والدعاء والتضرع والتعبد، فهلم أيها العبد المنيب إلى هذا السبب الأجل والطريق الأعظم، ولهذا أمر الله تعالى بالإنابة إليه.
– العمل الصالح والعمل السيِّئ:
يقول سبحانه وتعالى في (سورة التوبة الآية 102): (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وقد نزلت هذه الآية الكريمة في أبي لبابة ونفر معه، فعن ابن عباس أنّه قال: في قوله تعالى (آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا…) قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله (ص) في غزوة تبوك، فلما حضر رسول الله (ص) أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، وكان يمرُّ النبي (ص) إذا رجع في المسجد عليهم، فلما رآهم قال: "من هؤلاء الموثقون أنفسهم بالسواري؟" قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله أوثقوا أنفسهم حتى يُطلقهم النبي (ص) ويعذرهم. قال: "وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين" فلما بلغهم ذلك قالوا ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا. فأنزل الله عزّ وجلّ (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ…)، وعسى من الله واجب.. (وَأنَّ الله هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ…) في (الآية 104 سورة التوبة، فلما نزلت أرسل إليهم النبي (ص) فأطلقهم وعذرهم، فجاءوا بأموالهم فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا. قال ما أمرت أن آخذ أموالكم فأنزل الله (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة/ 103)، فأخذ منهم الصدقة واستغفر لهم.
ويقول بعض المفسرين في تفسير الآية: جماعة آخرون من أهل المدينة تخلفوا عن الجهاد لغير عذر، وأقروا بمعاصيهم واعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملاً صالحاً، وهو التزام شرائع الإسلام، بعمل سيِّئ وهو التخلف عن غزوة تبوك، ثمّ تابعوا من هذا الفعل لعل الله أن يقبل توبتهم، فهم تحت عفو الله، إنّ الله غفور لمن تاب، رحيم بمن أحسن وأناب.
م /ن
موضوع مميز
أختيارك موفق
بنتضار المزيد
وكل جديد تميزك
دمتي ^دوم مبدعه
تحياتي ^
نعومه