جعل الله تعالى الحياة الدنيا مسرحا لأحداث الناس وأفعالهم وأقوالهم على مرّ العصور وكرّ الدهور منذ ولادتهم أو، بلغة أهل العلم، تكلفيهم، حتى يتوفّاهم ربهم سبحانه لينتقلوا إلى حياة أخرى تبدأ بالبرزخ وتنتهي إما إلى جنة وإما إلى نار.
يجد الناس يوم القيامة ما فعلوه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ويكون إما شاهدا لهم أو عليهم، ”ونُخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا” الآية. فالحياة المعدودة بالأيام والليالي هي محل الابتلاء والاختبار ”الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا” الآية. وهي فرصة واحدة لن تتكرر، كما أن الكهل لن يعود شابا وإن حاول عبثا، لذلك أمرنا باغتنامها وعدم تضييعها. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ”اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وحياتك قبل موتك، وصحتك قبل مرضك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك”. والعبرة في حياة الإنسان ليست بطول العمر أو قصره بقدر ما هي في إيجابية وفعالية دالة على وجوده من عمل يقدمه أو آثار وذكريات يتركها، قال تعالى:”إنّا نحن نكتب ما قدّ موا وآثارهم”.
وإذا لم يكن للإنسان في هذه الدنيا عمل صالح مقدم ولا أثر طيب متروك (السلبية)، فحياته شبيهة بحياة الأنعام ”والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام”.
وللأستاذ سعيد جودت رسالة لطيفة اقتبس عنوانها من آية قرآنية من آية قرآنية تصور لنا إيجابية المسلم أو سلبيته، وهي جديرة بالقراءة والتأمل إذ يقول سبحانه: ”وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كَلّ على مولاه أينما يوجهه لا يأتي بخير، هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم”. فعبّر سبحانه عن السلبية بالكَلّ، وهو الشخص الذي لا نفع فيه ولا خير بل هو عبء على من حوله، كما يعبر عنه بالشخصية المستهلكة. وعبّر سبحانه عن الإيجابية بالآمر بالعدل وهو الشخص الإيجابي المنتج، وما يقال عن الأشخاص يقال أيضا عن الدول والشعوب.
إن هناك أناسا ما عمروا كثيرا في حياتهم ولكنهم تركوا بصماتهم دالة عليهم ناطقة باسمهم وكأنهم بين الأحياء يمشون (الإيجابية)، فمن كان من هؤلاء كافرا بالآخرة وشعاره ”أرض تبلع، وأرحام تدفع” فإن جزاء إحسانه واختراعاته قد أخذه في الدنيا بقدر عمله وإحسانه من توسعة وسعادة، إذ لا حظّ له في الآخرة ما لم يسلم، فإن أسلم كان من السابقين، وهذا مصداق قوله تعالى: ”ويوم يُعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهُون..”.
أما المحسنون من أهل الإيمان والتوحيد فإن الله أعدّ لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. قال تعالى: ”ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون”، ولا يطوى سجل حسناتهم بانتقالهم إلى الحياة الأخرى بل هو سجل باق ما بقي لهم أثر وذكر يذكرون به.
إن الواحد منا وهو يتجوّل في أرض الجزائر يستنشق هواءها، ويتنعّم بنعيمها، ويقف على تربتها المختلطة بدماء وأشلاء رجال ونساء جاهدوا في سبيل الله لنحيا نحن سعداء أحرار، فلا نملك حينها إلا أن نقف وقفة إجلال وإكبار لهم سائلين الله تعالى أن يعدّهم عنده من الشهداء.
إن الواحد منا وهو يعبر أرض بسكرة، مثلا، يتنسم عبق المسك من سمائها وأرضها، يكتشف أن منبع ذلك هو قبر الفاتح العظيم ”عقبة بن نافع” فلا يملك إلا أن يقول: اللهم جازه عنا وعن المسلمين خيرا.
إنك وأنت تأخذ طريقك إلى منطقة القبائل فترى تلك الأنوار الربانية المنطلقة من المآذن وتسمع لآي القرآن صوتا كدويّ النحل المنبعث من الزوايا، تقف إجلالا لأهل الفضل والإحسان. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ”من بنى لله بيتا بنى الله له بيتا في الجنة”، وهكذا كلما توجهت شرقا أو غربا.
إن من الآثار والحسنات الباقية للإنسان بعد موته، ذرية قام برعايتها وتربيتها وإعدادها إعدادا سليما يعود بالنفع عليهم وعلى أمتهم. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ”إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”. وكما يبقى سجل الحسنات كذلك يبقى سجل السيئات مفتوحا بأصحابه، فمن شجع الفساد وكان سببا في نشر الأفكار الهدامة والانحلال الخلقي فعليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة. قال تعالى: ”ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم”.
إذا ظفرت يداك فلا تقصر
فإن الدهر عادته يخون