،‘،‘ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ‘،‘،‘
تهادت الفتاة في ثقة، لتقتحم القاعة رافعة الرأس.
التفتت إليها العيون في حسد وانبهار، فأدارت عينيها في الجمع بنظرة قوية وقد اتسعت ابتسامتها في غرور. ثم اختارت مكاناً عالياً لتجلس فيه واضعة ساقاً فوق أخرى…
فهل كانت جميلة؟
سؤال محير حقاً؛ فملامحها عادية وقد تبدو للمتأمِّل قبيحة؛ لكنها كانت ترتدي ثوباً رائعاً من الحرير المرصع بالجواهر التي تلألأت تحت الأضواء، وقد تحلَّت بالذهب والماس وتضوعت بالعطر الثمين.
فهل أثَّر المظهر في الجوهر؟
ترددت في مشيتها عندما وقعت عيناها على تلك الفخامة التي غرقت فيها القاعة الفسيحة.
كانت تود لو تنشق الأرض فتحتويها وتخفيها عن تلك العيون التي تطلعت إليها في عدم اكتراث ثم مرت من فوقها كأنها لا شيء.
كانت بارعة الجمال بكل المقاييس؛ ولكن تلك البراعة اختفت لشدة سطوع الأضواء المبهرة التي راحت تعبث هنا وهناك لتتألق فقط على أسطح اللآلئ الثمينة.
رداؤها الرخيص والحليُّ المتآكل بفعل الصدأ ساهما في جعل جمالها شحوباً ورشاقتها ترهلاً. فخفضت بصرها لتدس النقود في يد العامل وتتناول ما اشترته في سرعة لتغادر المكان غير معقبة.
فهل أثر المظهر في الجوهر؟
إنهما (مظهر وجوهر)، وكلاهما يؤثر في الآخر تأثيراً واضحاً يراه كل من ألقى البصر وهو شهيد؛ فالشعور بالثقة أو الغرور أو الدونية أو المرح أو الحزن… إلخ لا ينشأ منفصلاً عن مظهرنا الخارجي، كما أن مظهرنا الخارجي لا ينفصل عن تلك المشاعر الداخلية؛ فمن شعر بشيء من الضيق أو الحزن فقام واغتسل وتعطر وارتدى ملابس فضفاضة يشعر بأن تلك المشاعر خفتت قليلاً، بل قد تذهب تماماً بهـذه الأفعـال البسيطة، كمـا أن مـن يرتدي ملابـس جديدة وأنيقة لا ريب أنه سيشعر ولو بشيء من السعادة والمرح.
وقـد أباح الإسـلام حُسْــن المظهـر؛ بل حـث عليـه بلا إسـراف ولا تَعَدٍّ. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً. قال صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق وغمط الناس»[رواه مسلم]. وقال صلى الله عليه وسلم: «البسوا ثياب البياض؛ فإنها أطهر وأطيب»[صحيح ابن ماجة].
وقال صلى الله عليه وسلم: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء. قال زكرياء: قال مصعب: ونسيت العاشرة. إلا أن تكون المضمضة»[رواه مسلم]. ولا يخفى أن كل هذه التوجيهات متعلقة بنظافة المظهر.
هناك كثير من التشريعات الإسلامية المتعلقة بالمظهر مثل الأمر باللحية للرجال.
ومن التشريعات التي تظهر فيها علاقة الظاهر بالباطن: حجاب المرأة المسلمة؛ فقد أمر الله – تعالى – النساء بالحجاب ونهاهُنَّ عن إبداء الزينـة، وذلكما الأمـر والنهي متعلقان بالمظهـر. وبيَّن الله – تعالى – أن علة هذا الأمر طهارة القلب للرجال والنساء وهو من شؤون الباطن، فقال – عز وجل -: {وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: ٣٥].
ومما يؤسَف له في الواقع شعور بعض الناس بالحرج والضيق من الحجاب، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على خللٍ في القلب؛ لأن هذا الترابط القوي بين المظهر والجوهر يستلزم لمن شعر بالمحبة والرضا والقبول بما أمر الله – تعالى – به، أن يشعر بالفرح والسرور والفخر عند تطبيقه الأمر فيسارع للطاعة محبة لله وشوقاً لما عنده – سبحانه – مثلما فعلت نساء الأنصار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن أم سلمة – رضي الله عنها – قالت: «لما نزلت {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ}، خرج نساء الأنصار كأنَّ على رؤوسهن الغربان من الأكسية»[صحيح أبي داود].
فيقول المؤمن بلسان حاله ومظهره:
وممـا زادنـي فخـراً وتيـــــهاً .. .. وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك: يا عبادي .. .. وأن صـيرت أحمدَ لي نبيا
وقد اهتم الإسلام بتمييز الشخصية المسلمة في مظهرها عن غيرها؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالِفُوهم»[متفق عليه]، وقال صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس»[رواه مسلم].
فنجد أن مبدأ مخالفة الكفار في الأعمال الظاهرة أصبح من شعائر الإسلام؛ فمثلاً حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله! إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا كان العام المقبل – إن شاء الله – صمنا اليوم التاسع». قال ابن عباس راوي الحديث: فلم يأتِ العام المقبل، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم [رواه مسلم].
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون»[صحيح أبي داود].
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن تسوية القبور من السُّنة، وقد رفعت اليهود والنصارى فلا تشبهوا بهما»[صححه الألباني].
وقـال صلى الله عليه وسلم: «خالفـوا اليهـود؛ فإنهـم لا يصلـون في نعالهـم ولا خفافهم»[صحيح الجامع].
وأهل السُّنة المتبِعون للعقيدة الإسلامية الصافية التي اغترفوها من ينابيعها الأصلية عن سادات الصحابة والتابعين ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين من العلماء الربانيين، يعتقدون أن الإيمان عِلْم القلب وعمله، وقول اللسان، وعمل الجوارح، ويستدلون بالظاهر على الباطن ويجعلون الظاهر أمارة على ما في الباطن: إن كان خيراً في باطنه فلا بد من خير في ظاهره، وإن كان غير ذلك فلا بد أن ينضح على الظاهر ويُرى أثره. [الإيمان لابن تيمية].
ومما يدل على تأثير الباطن في الظاهر والعكس، ما كان فيه المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كانوا يشهدون الصلاة خلفه صلى الله عليه وسلم تقيَّة ونفاقاً، فما تزيدهم صلاتهم إلا كفراً وإعراضاً، وكان سماعهم للقرآن غضاً طرياً من فم النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيدهم إلا عمىً. قال – تعالى -: {وَإذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ . وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: ٤٢١ – ٥٢١]، وقال – تعالى -:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}. [فصلت: ٤٤].
فكان لا بد أن ينفلت منهم بعضُ ما يخفون. قال – تعالى -: {وَإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: ٤١] كما لم يكن سمتهم فيما يأتون من الخيرات مشابهاً ولا حتى مقارباً لسمت المؤمنين. قال – تعالى – فيهم: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: ٤٥]، وكانت لهم صفات يُعرفُون بها، منها ما جاء في قوله – تعالى -: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: ٤]، وقال – تعالى -:{وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإنَّ جَهَنَّمَ لَـمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: ٩٤]، وقال – تعالى -: {الْـمُنَافِقُونَ وَالْـمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْـمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إنَّ الْـمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: ٧٦]، وقال – تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْـخِصَامِ صلى الله عليه وسلم٤٠٢صلى الله عليه وسلم) وَإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْـحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: ٤٠٢ – ٥٠٢]، فحتى في نفاقهم ما استطاعوا أن يُحْكِموا التظاهر؛ لأن الباطن ينفلت مما شُدَّ عليه. بخلاف من امتلأ قلبه محبة لله ورسوله؛ فإنه لا بد أن يظهر ذلك في سمته وهديه الظاهر ولا تصح دعوى المحبة بغير ذلك. قال – تعالى -: {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: ١٣]؛ لأنه من المحال أن يمتلئ قلـبٌ محبـة وقبـولاً وخضوعاً؛ ولا يترجم كل ذلك إلى أفعال بلا عذر؛ فكما يقال: الصب تفضحه عيونه.
فمن اتبع السنن النبوية الظاهرة رغبة فيما عند الله وجد لذلك حلاوة الإيمان في القلب وازداد إيمانه فيزيد في عمله واتِّباعِهِ فيزداد إيمانه وهكذا؛ فإن زلَّ في ما نهى الله عنه بقلبه أو جوارحه تأثَّر إيمانه فيجد فتوراً في العمل.
فإذا ظهر خلل في السـلوك فذاك صـادر عن خلل في الباطن بلا ريب؛ لأن القلب ينضح بما امتلأ به؛ كما يفوح وكاء المسك عطراً ويفوح غيره بما يفوح؛ فاللسان والجوارح مغرفة القلب، وكذلك إن شعر المرء بالوحشة وفقد حلاوة المناجاة وإخبات القلب لله فإن ذلك لم يحدث إلا لافتقاد القلب لما يتغذى به من القربات الظاهرة، وكلنا مقصِّرون في الطاعات وكلنا ذوو أخطاء؛ وخير الخطائين التوابون؛ لكن إذا أردت أن تعرف: هل يزيد إيمانك أم ينقص؟ انظر إلى قلبك وعملك وقولك؛ فإن وجدت خيراً فأنت في ازدياد، وإن وجدت خللاً فاعلم أنه لم ينشأ من عدم.
فإذا أراد المرء الفلاح في الدارين فَلْيتعاهد ظاهره وباطنه بالتقوى وَلْيكن مع مراد الله الشرعي منه كما قال ابن القيم: (فأشرف الأحوال ألا تختار لنفسك حالة سوى ما يختاره لك ويقيمك فيه فكن مع مراده منك ولا تكن مع مرادك منه). قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ))
للإمأنــــــة منقول ..