تخطى إلى المحتوى

الهمم العالية – الشريعة الاسلامية 2024.

الهمم العالية

الهمم العالية

يختلف الناس في امرين، يختلف الناس في مطالبهم، في اهدافهم، في غاياتهم، هم كذلك يختلفون في امر آخر، يختلفون في الهمم التي توصلهم الى تلك الاهداف وتلك المقاصد وتلك المطالب، فهم يختلفون في المطالب والمقاصد، ويختلفون في الهمم التي توصلهم الى اهدافهم، فمن الناس من يتكلم عن اهداف عالية، ومقاصد سامية ولكن الافعال لا تصدق الاقوال، قال اهل العلم هذا متمنٍي مغرور، فما نيل المطالب بالتمني.
وآخرون لا يتكلمون ولكن افعالهم تدل على انها اصحاب همم عالية، اذا ناداهم مناد الله لبوا النداء واجابوا وما ترددوا ولا تكاسلوا ولا تهاونوا، ومن يخطب الحوراء لم يغنه المهر، فالناس تتفاوت في غاياتها واهدافها، وتتفاوت في هممها التي توصلها الى تلك الاهداف.
لاحظ الفرق بين همة هذا وهمة ذاك، اعرابي يعترض النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه يقول:’ يا محمد اعطني من مال الله الذي اعطاك الله فانه ليس بمالك ولا بمال ابيك’، وتخيل بين همة ربيعة بن كعب وهو يأتي الى النبي صلى الله عليه وسلم بوضوئه ليلة، ثم يقول له النبي صلى الله عليه وسلم:’سلني’، فقال له:’ اتمنى رفقتك في الجنة يا رسول الله’، فشتان بين من يطلب الجنة وبين من يطلب توافه الامور.
جاءت غنائم الى النبي صلى الله عليه وسلم فاخذ يوزعها بين اهل الصفة وبين المحتاجين، وابو هريرة يرقب المنظر وهو من اهل الصفة لا يجد مكانا يأويه ولا لباسا يواريه ولا طعاما يملأ بطنه والنبي صلى الله عليه وسلم يوزع الغنائم على هذا وذاك وابو هريرة يرقب المنظر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وهو اعلم بحاجته:’ يا ابا هريرة اما تسألني من هذه الغنائم التي يسألني اياها الناس ؟’، فقال:’يا رسول الله أنا أسألك سؤالا واحدا’، فقال له صلى الله عليه وسلم:’ وما هو ؟’، فقال:’ان تعلمني مما علمك الله’، اهل الدنيا واهل الهمم الدنية يطلبون ما يواري جلودهم وما يملؤون بطونهم، اما اهل الهمم العالية لا يرضون بدون الله تبارك الله تعالى، فقال صلى الله عليه وسلم:’ أوَ غير ذلك؟’، قال:’ هو ذاك’، يعلم ان الله يرفع اهل العلم درجات، يعلم انه ما تقرب متقرب الى الله بأفضل من طلب العلم الذي يوصله الى اعالي الدرجات، بالعلم يعبد الله ويوحد، وبالعلم يقدس الله ويمجد ‘ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ‘،طريق الجنة طريق العلم ‘من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله له به طريقا الى الجنة’، قال ابو هريرة رضي الله عنه:’ فأخذ نمرة كانت على ظهري فوضعها بيني وبينه حتى اني ارى دبيب النمل عليها ثم اخذ يحدثني ويحدثني ويحدثني حتى قال صرها اليك فصررتها فاصبحت لا اسقط حرفا واحدا من كلامه’، راوي الحديث الاول من ؟ ابو هريرة رضي الله عنه وارضاه ناقل السنة الصحيحة.
اهل الدنيا يطلبون الدنيا، واهل الهمم العالية يطلبون ما عند الله تبارك في علاه، ابو هريرة –رضي الله عنه- في آخر حياته يبكي ويقول:’اه من قلة الزاد وطول السفر’ هذا وقد روى اكثر ستة الاف حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يشكو قلة الزاد وطول السفر، يقول ابن القيم رحمه الله:’ ووالله ما اعظم الهمم وما اشد تفاوتها’.
جاءت مجموعة من الشباب الى النبي صلى الله عليه وسلم، كل منهم يطلب حاجته، هذا يريد شفاعة وهذا يطلب مالا، وهذا يريد قضاء حاجة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقضي حوائجهم، الا واحدا منهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم:’ انا اريدك في امر بيني وبينك’، فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من قضاء حوائج هؤلاء الشباب التفت الى صاحب الهمة العالية وقال:’وما شأنك انت؟’ قال:’ انا لا اريد مالا ولا اريد حاجة من حوائج الدنيا، انا اريد امرا واحدا’، فقال صلى الله عليه وسلم:’ وما هو ؟’ قال:’ اريد مرافقتك بالجنة’ فدلّه على الطريق فقال صلى الله عليه وسلم:’ اعني على نفسك بكثرة السجود فانك ما سجدت لله سجدة الا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة’.
انها الهمم هي التي تحرك الرجال، لاحظ الفرق بين فلان وبين فلان، لماذا يستطيع هذا ان يترك فراشه في البرد القارس والبرد الشديد وينطلق ملبيا لنداء الله ؟ ما الذي دفعه ؟ وترك شهوته وفراشه مجيبا نداء ربه تبارك وتعالى، في حين لم يستطع فلان ان يتحرك من مكانه وهو يسمع منادي الله ينادي ‘الصلاة خير من النوم’، بل وهو يعلم ان تخلفه عن الصلاة يجعله في عداد المنافقين، ما الذي يجعل فلان من الناس لا يقبل على الدرهم الحرام ؟ ويجعل فلان الاخر لا يبالي أمن الحلال ام الحرام يأكل ؟ ما الذي ردع فلان ؟ وما الذي اوقع ذاك ؟ انها الهمم العالية التي لا ترضى بدون الجنة ثمنا لذلك قال ابن الجوزي رحمه الله:’ ان العمر غالي فلا تقبل للعمر ثمنا الا الجنة’.
الناس على نوعين لا ثالثهما: منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الاخرة، يعرف هؤلاء كما يعرف اولئك، فالافعال ابلغ من الاقوال الافعال ابلغ من الاقوال، قال احد المربيين لاحد ابناءه:’ اياك ثم اياك ان يكون همك الماكل والمشرب والمسكن والمنكح هذا هم النفس، فاين هم القلب، ان همك ما اهمك فليكن همك الله والدار الاخرة’.
سئلوا عن ابن عبد العزيز عمر الذي بلغ بهمته العالية مبلغ الرجال حتى عد خامس الخلفاء الراشدين في خلافة قصيرة لم تتجاوز السنتين والخمسة اشهر واياما معدودة، ولكنه حقق فيها من الانجازات ما الله به عليم، كيف استطاع ؟ استطاع بهمته العالية وبنيته الصادقة، سئلوا وتساءلوا فيما بينهم البين كيف استطاع ابن عبد العزيز عمر ان يحقق ما حقق ؟ فقالوا:’ والله ما خطى خطوة الا ونيته لله’، جعل الحياة وقفا لله تبارك وتعالى، فحقق في فترة قصيرة ما لم يحققه اقوام في قرون وسنوات طوال، قبل ان يتولى الامارة وقبل ان يتولى الخلافة، وقبل ان يتولى امر المسلمين، كان يقول لزوجه فاطمة:’يا فاطمة ان لي نفسا تشتاق لامارة’، فتولاها فلما تولاها ارتفعت الهمم، فقال لها:’يا فاطمة ان لي نفسا تواقة تشتاق للخلافة’، فتولاها واصبح اميرا على بلاد المسلمين، اميرا على اكثر من اربعين بلدا من بلاد الاسلام والمسلمين، بانت له مشارق الارض ومغاربها تحت امارته، فلما بلغ الخلافة ارتفعت الهمة فقال لها:’والله يا فاطمة ان لي نفسا تواقة تشتاق الى الجنة’، فسعى من اجل الجنة وعمل من اجلها حتى سمعوا في ساعات احتضاره في نهار العيد امر الناس بالخروج فخرجوا من عنده فسمعو قارئا يقرأ ‘ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ’، لله دره جعل الهم هما واحدا، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم:’ من جعل الهموم هما واحدا (يعني هم الاخرة) كفاه الله هم الدنيا وهم الآخرة’ قل لي واسألني: كيف ترتفع الهمم ؟
اولا: لا بد ان نجعل للحياة هدف، ان نجعل لها قيمة، ان نجعل لحياتنا قيمة، كثير من الناس حياتهم كالعدم، بل فقدهم احسن من وجودهم، ماذا قدموا لانفسهم ؟ وماذا قدموا لدينهم ؟ وماذا قدموا لامتهم ؟ يأكلون ويشربون ويتمتعون كما تأكل الانعام، هذا همهم وهذه حياتهم، اما اصحاب الهمم العالية فلهم هدف ولهم مقصد، هدفهم ان تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، يحيون ويعيشون ويموتون من اجل هذا، فاذا تحدد الهدف وضح الطريق.
واعلم يا صاحبة الهمة العالية ان في الطريق عقبات وزلات يتجاوزها صاحب الهمة العالية، اذا عرف معنى ‘ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ’.
يقول ابن القيم:’ ان العبد المؤمن اذا وقف امام الجبل وقال ازيحه يزيحه باذن الله’، اذا وقف صاحب الهمة العالية والايمان الراسخ في القلب امام جبل وقال ازيله ازاله باذن الله، اذا عرف معنى ‘ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ’.
واعلم وانت تسير في الطريق ان كلمة مستحيل لا توجد الا في قاموس العاجزين.
واعلم ان اسهل شيء يمكن تحقيقه هو الفشل، اما اصحاب الهمم العالية اذا حددوا المسار وحدووا الطريق لا بد ان تعرف ان للطريق عقبات تتجاوزها اذا عرفت معنى ‘ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ‘، ولكن حدد وانت تسير في الطريق انت تعمل من اجل ؟ هل العمل لله ام لغير الله ؟ هل المقصد الاخرة ام المقصد الدنيا ؟ هل الهدف جنة الرحمن ام الدنيا وما فيها ؟ فحدد الطريق وحدد لمن تعمل !
ثم اعلم ان الطريق يحتاج الى زاد، ثم الرفقة الصالحة – هكذا ترتفع الهمة- فغن المرء على دين خليله، واذا صحبت قوم فاصحب اخيارهم ولا تصحب ارداهم فتردى مع الردي. ترتفع الهمم ايضا بالاقبال على كتاب الله، القرآن هو الذي صنع الجيل الاول، ونحن اليوم في بعد عن القرآن لا يعلمه الا الله، الهون بالاغاني، الهون بالافلام، الهون بالمسلسلات والشاشات والقنوات، هدفهم ابعادنا عن مصدر عزنا، ومصدر قوتنا الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم:’ تركت فيكم ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا كتاب الله وسنتي’.
وصلى الله على نبينا محمد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.