مع التقدم العلمي اصبحت زراعة الاعضاء في جسم غريب من العمليات الاقل تعقيدًا من السابق وهذا ينطبق ايضًا على زراعة الكلي، من اجل اراحة المريض من عملية غسل الدم، حيث يزرع سنويًا في المستشفيات الالمانية اكثر من 5300 كلية، وساعد ذلك قانون بالسماح لكل انسان اهداء أعضاء جسمه لمن يحتاج إليها منها الكلية او وضعها تحت التصرف، كما وأن هناك حملات تشجيع على كتابة وصية لمنح اعضاء الجسم في حال الوفاة المفاجئة. لكن العقبة الوحيدة التي تقلق الجراحين ان العملية الجراحية لا تؤدي دورًا حاسمًا في النجاح في زرع العضو او فشله بخاصة زراعة الكلية بل في مدى تقبل جسم المريض لهذا العضو الغريب على نظام المناعة لديه. وهذا امر لا يسير بالشكل المرغوب فيه في معظم الاحيان، فبحسب أرقام دائرة الصحة الالمانية يتعطل عمل 30 في المئة من الكلى المتبرع بها في السنوات الخمس الاولى بعد زرعها.
وهذا ما دفع باطباء وجراحين المان الى بذل الجهد بالتعاون مع زملاء لهم في انحاء العالم من اجل التغلب على اصعب مرحلة، وهي ما بعد الزراعة وتحسين وضع الكلية الجديدة في الجسم الغريب عنها، وتمكنوا بالفعل من تحقيق نجاح كبير، حيث اكتشفوا تغيرًا في نظام المناعة يعتقدون انه السبب الرئيسي في تدمير الكلية المزروعة، يعمل بعض هؤلاء في مستشفى لوبيك شرق المانيا.
في هذا المستشفى، برزت في السنوات الاخيرة في مجال زراعة الكلى للبالغين وتزرع سنويًا اكثر من 90 كلية، حيث شارك فريق تابع لها في قسم مختبر البحث عن ظواهر رفض جهاز المناعة للاعضاء الغريبة واسباب ذلك، شارك في بحوث على مدى سنوات طويلة، وذلك بمشاركة الدكتور ميخائيل مولر شتينهارد الى ان عثر في نظام المناعة لدى المريض المستقبل للكلية على علاقة بين رفض نوع من الجينات في هذا النظام وطول مدة نجاح عمل الكلية المزروعة، مما سيوفر في المستقبل امكانيات كثيرة للكشف بشكل باكر من هو المريض المعرّض لمخاطر فقدان الكلية التي زرعت له وتحديد المخاطر والتغلب عليها بالعقاقير.
وفي حديث هاتفي اجرته ايلاف شرح الدكتور مولر شتينهارد بعض جوانب هذا الانجاز ويقول :"حلل الاطباء في جامعة لوبيك بطرق خاصة مجموعة عنصر ما يسمى ب zytokine فاتضح انها جينات تقوم بدور الموزع لدى نظام المناعة، وتتحكم ايضًا بمختلف التفاعلات الحاسمة في الخلايا كما وأنها تحفّز دفاعات الجسم ضد الكلية المزروعة.
وينتمي الى zytokine جنيات ال interleukine التي فيها جينة interleukine 6 حيث اكتشف فيها امر مهم. ففي مكان ما في داخلها، وله دور مهم في تحفيز " الموزع"، وُجدت علاقة وثيقة بين الانحراف الجيني والتعطيل المبكر لعمل العضو المزروع .
وبرأي الدكتور الالماني فان الخلل في هذه الجينات يكون وراثيًا عادة او منذ الولادة وليس تطورًا عبر السنوات ، وقد يكون متواجدًا لدى مريض دون غيره. وبالامكان تحديد ذلك من خلال فحص مخبري ، لكن ليس بالمستطاع وقف عملها بل تحديد مخاطرها عبر تغيير العلاج مما يساعد المريض والطبيب المعالج.
وبحسب قوله ايضا :"عن طريق التحاليل المخبرية قد نجد في المستقبل المزيد من الجينات تمكننا من اكمال لوحة الموزييك التي تؤدي الى العثور على علاج متكامل لكل حالة". وعلى الرغم من هذا الانجاز على المريض الخضوع دائما للفحوصات الطبية والمراقبة من اجل معرفة سير عمل نظام المناعة لديه وعلى اساس ذلك تحديد كمية تناوله لما يسمى " بالمركب القامع لدفاعيات نظام المناعة " فاما زيادتها اوالتقليل منها للحد من المخاطر التي تهدد الكلية.
ويعطى المريض المتلقي لكلية متبرع حتى الان مركب مؤلف من CICLOSPORIN .AوMYCOPHENOLAT MOFETIL وكورتيزون، وذلك بحسب تقدير الطبيب لحجم المخاطر التي قد تحدث للكلية المزروعة ومازالت غريبة عن جسم المريض.
ولقد وفر هذا المركب الطبي الذي يطلق عليه اسم IMMUNSUPRESSIVA أي" القامع للمناعة" في كل الاحوال نوعًا من" الانشغال" او الهاء لنظام المناعة كي لا تدمر هذه الجينات فيه الجسم الغريب عنه بحجة حمايتها للجسم منه. وبوساطة هذا المركب تمكن الاطباء ايضًا من حصر دفاعيات نظام المناعة للعضو المزروع في الزاوية وتعطيل جزء من عملها. لكن بحسب قول الطبيب شتينهارد يختلف مفعول الكمية ذاتها من هذا المركب من مريض الى اخر وهذا يفسر سبب رفض هذا الجسم الغريب بعد سنوات قليلة عند بعضهم وبعد اعوام طويلة عند بعضهم الاخر.
مع هذا يذكّر الطبيب بوجود عوامل عديدة ايضا تؤثر على نجاح زرع الكلية منها عمر المتبرع بها والمستقبل لها. فكلية متبرع شاب في العشرين مثلا تعمل افضل بكثير من متبرع تعدى الخمسين. كما وان مستقبل الكلية في سن الثلاثين لديه شروط عضوية جيدة لكي يتقبل جسمه العضو الغريب افضل من مريض تخطى الستين. وتلعب علاقة الدم بين المتبرع والمستقبل اهمية كبيرة لذا يفضل دائمًا ان يكون المتبرع من العائلة او الاقارب. واهم الشروط التي يجب ان تتوفر هي تجانس انواع عدة من انسجة الكلى لدى المستقبل والمانح منها نسيج HLA. فكلما كانت متطابقة ومتجانسة كانت فرص تقبل الجسم المستقبل للكلية افضل وسنوات عملها اطول. ويضيف " اصبح خطر رفض جسم المريض للعضو المزروع بشكل مفاجئ ومن دون حسبان محدود ويعود الفضل في ذلك الى العقاقير الجديدة التي صنعت ومكنت من السيطرة على معظم التقلبات التي تحدث".
ويقول ايضًا: "لا نعرف اهمية ما اكتشفناه على مستقبل المريض الذي تزرع له الكلى، لكن الجانب الايجابي جدًا أنه بإمكاننا الان وقبل الزرع التأكد مما اذا كان لدى المريض انحراف جيني أم لا يعرض الكلية المزروعة لمخاطر مبكرة وذلك عن طريق تحليل خاص لدمه. وقبل هذا التحليل علينا ان نكتشف جوانب عديدة تتعلق بالدور الفاعل للانحراف الجيني وعلاقة ذلك بالمسببات التي تؤدي الى عمل الكلية المزروعة اطول مدة ممكنة.
وعلى ضوء نتائج المختبر يجرى اليوم فحص عينات من دم كل مريض قبل زرع الكلية له من اجل تحديد المزيد من صفات الجينات المنحرفة والمسببة للخطر كي يتمكن الاطباء من اعطائه وعلى المدى الطويل العلاج الخاص به بعد الزرع، فكل حالة يجب ان تعالج بشكل خاص. كذلك تحديد كمية المركبات المقاومة لدفاعيات الجسم ، لكن الهدف ايضًا التوصل الى اعطاء المريض الكمية التي يحتاجها من العقاقير لا اقل ولا أكثر كي لا يؤثر ذلك سلبًا على صحته العامة.
وما يقلق العلماء هو قصر حياة الكلية المزروعة لدى البعض . فنسبة المرضى الذين يفقدون الكلية المزروعة ما زالت مرتفعة، ولا يعود السبب في ذلك فقط الى ردة فعل الرفض الفجائي للجسم لها، بل الى تطور المناعة التي تبني في أغلب الاحيان مضادات ضده وكأنها تدافع عن المريض من "معتدي" فتسرّع شيخوخة العضو المزروع او تدمره.
لكن هل بالإمكان مستقبلاً الاستفادة من التطور التقني في عالم الالكترونيات وزرع قرص مضغوط في الجسم للتحكم بعمل نظام المناعة وكبح جماح الجينات المنحرفة كي لا تدمر العضو الغريب؟ يرد هنا الدكتور شتينهارد: "قد نحتاج الى مائة عام لتحقيق مثل هذا الانجاز والتأثير على نظام المناعة او قيادته لأنه نظام معقد جدًا وقوي الى درجة يصعب فيها ترويضه".