في أصيل ذلك اليوم عندما كانت الفتاة سهام في ربيعها السابع عشر تسير بخطى قد أثقلها السير جيئة وذهابا بين ثانويتها ومنزل أهلها الذي يبعدها بميل ونصف الميل، فكانت تصل منهكة القوى لطول المسافة التي تقطعها سيرا على الأقدام، وكانت السماء ملبدة بغيوم الشتاء وسهام شارد ذهنها سارح بالها تضرب كفا بكف وفكرة بأخرى تحسب للمستقبل ألف حساب وتتساءل مع نفسها أي مآل ستؤول إليه، هل ستحقق حلمها الذي طال ما راودها منذ نعومة أظافرها وهي أن تصبح ممرضة في قرية أهلها تضع سماعة الطبيب في أذنها وتلبس قميصا أبيضا فوق ملحفتها مثل ما تفعل الطبيبة النموذجية أفات ذات الشخصية القوية والطبع الحاد والتي تعتبر مصدر اهتمام ساكنة قريتهم المتواضعة؟ أم أنها ستكون معلمة المدرسة الابتدائية ذات البناية المتهاوية والأبواب والنوافذ البالية ذلك حلم والدها؟ هكذا تتساءل بين الفينة والأخرى هل ستكون معلمة تسوى صفوف الأطفال كل صباح يرددون بحناجرهم البريئة النشيد الوطني؟ أم ممرضة القرية تضمد جراح المراهقين الذين كثيرا ما ينشأ بينهما صراع عند المناسبات فينتج عنه كسورا وجراحا دامية أو تواسي العجزة اصحاب الأمراض الكثيرة خاصة فصل الشتاء عندما تهب العواصف وتتكاثر شكاوى سكان القرية من أمراض البرد الكثيرة وخاصة المسنين.
وبعد حين تنتبه سهام من غمرة أحلام طموح المستقبل منتبهة نشوى من سورة خمرة مداعبة الأمل اللذيذ، وصلت سهام إلى منزل أهلها مساء الشتاء البارد بعد أن اختفت شمس ذلك اليوم بأشعتها الخجولة خلف غيوم يوم شاتي بعد ما جالت في دقائق على دروب رصيد ما تبقى من عمرها الافتراضي، هكذا كانت سهام دائما عندما قاربت دخول معترك مسابقة البكلوريا في حوار شبه سفسطائي مع ذاتها التي تختزن طموحا مقتصرا داخل قريتها وبين أهلها لكي تحظى على الأقل بنيل اهتمامهم وتقديرهم تعويضا لما فاتها من قيمة وهي البنت السادسة لأسرة فقيرة وأخواتها عوانس قد تجاوزن مرحلة نضارة الشباب ولم يتقدم لهن أحد الخطاب، أما هي الصغرى والتي تتميز عنهن بجمال نسبي فقد كان أبوها حريصا على إدخالها المدرسة لكي تكون موظفة لها دخل ومردود مادي ممثلا بذلك خطوة نشازا على نمط تفكير سكان قريتهم محاكاة لما شاهده من استفادة بنات أقربائه في العاصمة من التوظيف عندما يقوم بزيارة لها لبعض حوائجه.
هكذا كانت سهام تختزن ذلك الطموح وتصر عليه حتى تحقق حلمها الذي طال ما راودها، وفي نهاية السنة الدراسية وكانت سهام قد أرهقها رتين المراجعة وأجهدها تراكم الدروس وبينما لم يبق أمام الامتحان النهائي سوا بضعة أسابيع قدم على القرية المختار أحد أبناء عمومة سهام يكبرها بخمسة عشر سنة صاحب ثورة حيوانية يمتلك آلاف الرؤوس من الماشية وبدون مقدمات تقدم لطلب يد سهام من والدها الذي وافق على الفور وبدون شروط بعد وفاة زوجته بشهور إثر ولادة مستعصية .
عندما كانت سهام قادمة من مكان تراجع فيه مع زملائها وزميلاتها إذ لاحظت جمعا من الناس وحركة غير طبيعية عند منزل أهلها الذي تعودته هادئا شبه مقبرة وقبل أن تصل إلى المنزل عرفت أنها هي المستهدفة وفي منتصف تلك الليلة صارت سهام زوجة للمختار الذي اشترط فصلها من المدرسة كشرط أولي وكانت ردة فعلها مجرد انحدار عبرات من الدموع على خديها مستسلمة لقدر طال ما تمناه لها المقربون منها لكي تنفصل عن الدراسة وتكون فتاة عادية متزوجة قريرة البال، وبعد انتهاء مراسيم الزواج حمل المختار زوجته متوجها بها إلى ماشيته ورعانه وعالمه الخاص بعيدا عن الطموح والتمدرس… وفي طريقها كانت سهام حزينة ليست مرتاحة لدخول عالم ثاني لا يسمع فيه إلا أحاديث الرعاة ورغاء الأبل عند السحر، وهكذا عرفت سهام أن تلك الأحلام التي راودتها منذ نعومة أظافرها مجرد أضغاث أحلام الشتاء.