داء الترف ودواء سيد المرسلين للمترفين !!
هو الداءُ العضال، والمرض القتال، والمقتُ والوبال؛ الذي يقتل النخوة، ويقضي على البطولة، ويخمد الغيرة، ويفرز الوهن، ويكبت المروءة، ويضعف الهمة، ويفرز غثاءً كغثاء السيل، فإن استشرى في أمّة ذهب بعزها وأرثها كسلًا وخمولًا، وركونًا إلى الدنيا ومحبةً لها وحرصًا عليها فلا يرتجى منها نفعٌ ولا ينتظر منها دفاعٌ عن الحق، حتى إذا استغاث المستضعفون والمحرومون في الأرض، لم يجدوا لنصرتهم ذا مروءه.
من أخطر الأدواء التي تودي بحياة أمة من الأمم لا سيما الثرية منها "هو الترف " كما أنه سبب رئيس لسقوط كثير من الدول والشعوب ..
وقد أخذ الترف بألباب وعقول كثير من المسلمين اليوم حتى صاروا عبيدًا له، وأصبحوا يرون أن تعاليم الإسلام وأحكامه تشكل عبئًا ثقيلا عليهم وحاجزًا منيعًا بينهم وبين التمتع بمباهج الدنيا وشهواتها!!
(سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هاهو يعالج الترف والمترفين )
بأقواله وأفعاله ليخرج بالأمة إلى بر النجاة في الدنيا والآخرة، فهو لا غيره القائد والمعلم والقدوة، والتأسي ببعض سننه في العيش والحياة فيه الخير والبركة.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَعَامٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ»رواه البخاري
وقال النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ: «لَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم وَمَا يَجِدُ مِنْ الدَّقَلِ-رديء التمر- مَا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ»رواه مسلم
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ ابْنَ أُخْتِها: «إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثُمَّ الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ فَقُلْتُ يَا خَالَةُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ قَالَتْ الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ»رواه الترمذي
هذه كانت حياته صلى الله عليه وسلم يشبع يومًا ويجوع أيامًا !!
وقد تخرج الصحابة في مدرسته صلى الله عليه وسلم وعلى منهاجه وتحت لوائه، فهم حسنة من حسناته صلى الله عليه وسلم ..
فهذا العبقري الألمعي عمر بن الخطاب وقد انفتحت له زهرة الدنيا يقول: «لو شئت كنت أطيبكم طعامًا وألينكم لباسًا ولكني سمعت الله جل ثناؤه عيَّر قومًا بأمر فعلوه فقال: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها»
« وكان حفص بن أبي العاص يحضر طعام عمر فكان لا يأكل، فقال له عمر: ما يمنعك من طعامنا؟ قال: إن طعامك جشب غليظ وإني راجع إلى طعام لين قد صُنع لي فأصيب منه، قال: أتراني أعجز أن آمر بشاة فيلقى عنها شعرها وآمر بدقيق فينخل في خرقة ثم آمر به فيخبز خبزًا رقاقًا وآمر بصاع من زبيب فيقذف في سعن ثم يصب عليه الماء فيصبح كأنه دم غزال. فقال حفص: إني لأراك عالمًا بطيب العيش، فقال: أجل! والذي نفسي بيده لولا أن تنتقض حسناتي لشاركتكم في لين عيشكم»
« وقالت حفصة بنت عمر لأبيها: يا أمير المؤمنين إنه قد أوسع الله الرزق وفتح عليك الأرض وأكثر من الخير فلو طعمت طعامًا ألين من طعامك ولبست لباسًا ألين من لباسك، فقال: سأخاصمك إلى نفسك، أما تذكرين ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى من شدة العيش؟ قال فما زال يُذَّكِرَهَا حتى أبكاها»
ولقد كان سلفنا الصالح أبعد الناس عن هذا الترف وحياة المترفين
فقد وطنوا أنفسهم على عدم تحقيق كل ما تشتهيه مع قدرتهم على تحقيق مطلوبها، فقد قال رجل لابن عمر: « ألا أجيئك بجوارش، قال: وأي شيء هو؟! قال: شيء يهضم الطعام إذا أكلته، قال: ما شبعت منذ أربعة أشهر، وليس ذاك أني لا أقدر عليه، ولكن أدركت أقوامًا يجوعون أكثر مما يشبعون»
وقد قال عثمان بن عفان في آخر خطبة له: «إن الله إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى، لا تبطركم الفانية، ولا تشغلكم عن الباقية، آثروا ما يبقى على ما يفنى فإن الدنيا منقطعة وإن المصير إلى الله عز وجل»
وقال الحسن: «إن من علامة المؤمن: أن لا يقصر به بيته، ولا يبخل ولا يبذر، ولا يسرف ولا يقتر»
وقال سليمان الداراني: «لا يصبر عن شهوات الدنيا إلا من كان في قلبه ما يشغله عن الآخرة»
وقال مالك بن دينار: «بقدر ما تخزن للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبك»
وقال طاووس: «حلو الدنيا مر الآخرة، ومر الدنيا حلو الآخرة»
وكان الأسود يقول: «من كانت الدنيا أكبر همه، طال غدًا في القيامة غمه»
ولله در سفيان الثوري حين قال: «إذا أردت أن تعرف قدر الدنيا فانظر عند من هي»
وكان خالد بن صفوان يقول: «بت أفكر فكسبت البحر الأخضر بالذهب الأحمر، ثم نظرت فإذا الذي يكفيني من ذلك رغيفان وطمران»
شُــــؤم التـّــــرف؟
إن الأمم والأفراد الذين ينغمسون فيه يكفرون نعم الله عز وجل وتكون عاقبتهم خسران الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل112]
وقال عن قوم سبأ:{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ. ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ 15-17].
وهذا قارون المترف !!
حينما وجه له أهل الإيمان النصح بقولهم: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ. وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص76- 77]. فبادر قائلًا: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}. فكانت النتيجة {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ}.
وفي تاريخ الأمة من المترفين من عاقبهم الله عز وجل
وأنزلهم من البروج المشيدة إلى غياهب الفقر والحاجه !!
فهذه أم الوزير جعفر البرمكي دخلت على أناسٍ في عيد الأضحى وعليها ثياب رثّة تطلبُ جلد شاة فكان مما قالت (لقد مَرَّ عليَّ العيد فيما مضى وعلى رأسي أربعمائة جارية وأنا أزعم أن ابني عاقٌ فيَّ وقد أتيتكم يقنعني جلدُ شاتين؛ أجعل واحدًا منهما فراشًا لي وألتحف بالأخرى)
وهذا المعتمد بن عباد أحد حكام الأندلس وصاحب الأعطيات هاجمه البربر ونهبوا قصره وأسروه فذهبوا به إلى طنجة بعد أن أفقروه ثم سجن بأغمات عامين وزيادة في قلّة وذلة فدخل عليه بناته يزرنه يوم عيد وكن يغزلن بالأجرة فرآهنَّ في أطمارٍ بالية بعد أن كان يخلط لهن المسك بالكافور ليتزلجن عليه ويعبثن به فقال:
فِيمَا مَضَى كُنْتَ بِالأَعْيَادِ مَسْرُوْرا .. فَسَاءَكَ العِيْدُ فِي أَغْمَاتَ مَأْسُوْرَا
تَرَى بَنَاتِكَ فِي الأَطْمَارِ جَائِعَةً .. يَغْزِلْنَ لِلنَّاسِ مَا يَمْلُكْنَ قِطْمِيْرَا
بَرَزْنَ نَحْوَكَ لِلتَّسْلِيمِ خَاشِعَةً .. أَبْصَارُهُنَّ حَسِيْرَاتٍ مَكَاسِيْرَا
يَطَأْنَ فِي الطِّيْنِ وَالأَقْدَامُ حَافِيَةٌ .. كَأَنَّهَا لَمْ تَطَأْ مِسْكاً وَكَافُوْرَا
وإذا كان الإسلام يرفض الترف ويعده من الصفات المذمومة، فإن بعض الناس يفهم من هذا أن يتخلى عن جميع متع الدنيا ونعيمها، وأن يبقى فقيرًا، وليس هذا هو المقصود؟!
بل المقصود هو الإقتصاد في الإنفاق وعدم تعلق القلب بهذه الملذات والركون إليها، فالإستمتاع بالمباح لا شيء فيه بشرط ألا يشغل عن الآخرة، وفي هذه الحال يكون متاع بلاغ وليس متاع غرور، والتنعم في حدوده مقبول بل مطلوب، والترف في غير مبالغة دواء لمتاعب الحياة.
وقد سئل الإمام أحمد: أيكون الإنسان ذا مال وهو زاهد؟ قال: نعم إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصانه، فأخرجوا الدنيا من قلوبكم وضعوها في أيديكم.
وقد كان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس وعنده تسع نسوة، وكان علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام من الزهاد ومن المعدودين من كبار التجار، وكان الحسن بن علي من الزهاد مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء ونكاحًا لهن، وكان عبد الله بن المبارك من الزاهدين بالرغم من المال الكثير عنده.
( نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يقينا شر أنفسنا )
" صيد الفوائد بتصرف "
اسعدنى مرورك
تسسلم يمينك،،