تخطى إلى المحتوى

رواية الجرائم الابجدية—— تأليف : اجاتا كريستي روايات 2024.

  • بواسطة
رواية الجرائم الابجدية—القاتل المخفي—– تأليف : اجاتا كريستي

خليجية

رواية الجرائم الأبجدية
(القاتل الخفي)

تأليف: أجاتا كريستي

أما ملخص الرواية فهو: وجود قاتل خفي يقتل ضحاياه تباعا للترتيب الأبجدي لأسمائهم تحديا في ذلك لقوة بوارو الخارقة إلا أن بوارو سرعان ما يكتشف أن هذا المهووس به يقتل لغرض آخر..

شخصيات الرواية:
المسيو بوارو: بطل روايات أجاثا كريستي.
الكابتن هاستنجز: صديق بوارو وزميله في الكشف عن الجرائم الغامضة.
المفتش كروم: أحد رجال سكوتلانديار.
المفتش جاب: أحد رجال سكوتلانديار.
الدكتور ثومبسون: طبيب في إدارة اسكوتلانديار.
المسز آسكر: سيدة عجوز تبيع الحلوى والسجائر.
المستر آسكر: زوج المسز آسكر.
ماري دراور: ابنة أخت المسز آسكر.
بيتي بارنارد: فتاة تعمل مضيفة في مقهى الجنجركات.
ميجان بيرنارد: أخت بيتي بارنارد.
دونالد فريزر: خطيب بيتي بارنارد.
السير سيرميكال كلارك: طبيب متقاعد موفور الثراء.
فرانكلين كلارك: شقيق السير سيرميكال كلارك.
تورا جراي: سكرتيرة السير سيرميكال كلارك.
الكسندر بونابرت سوست: بائع جوارب متجول.
المسز ماربري: صاحبة الغرفة المفروشة التي يقيم فيها أ.ب.سوست.

الفصل الأول
الرسالة

حدث هذا في شهر يونيو عام 1935 عندما عدت إلى انجلترا من مزرعتي في أميركا الجنوبية لأقضي في ربوع الوطن ستة أشهر..أنجز خلالها بعض المهام الضرورية بعد أن تركت زوجتي وحدها تدير شؤون المزرعة ولست بحاجة لأن أذكر أن أول شيء قمت به بعد عودتي إلى انجلترا هو مبادرتي بزيارة صديقي هركيول بوارو و قد وجدته يقيم في مسكن أنيق من أحدث المساكن بلندن ولا عجب في هذا إذ كان أحد المساكن التي تضمها عمارات نيوهافن في أحد الأحياء الراقية ودار الحديث طويلا بيننا عن أيامنا السابقة في التعاون على كشف الغموض في الجرائم المعقدة وعن الشيب الذي وخط شعر كل منا وعن أحسن أنواع صبغات الشعر التي تجعله يبدو طبيعيا لامعا وعن صلعة بوارو التي ستوفر عليه كمية كبيرة من الصبغة.
وفي أثناء ذلك الحديث عن الجريمة والجرائم قال لي بوارو فجأة:
– هل تعرف يا هاستنغز إنني اعتبرك تميمة حظ؟
– أحقا؟ وكيف ذلك؟
ولم يرد بوارو على سؤالي مباشرة وإنما استطرد يقول:
– بمجرد أن علمت انك في الطريق إلى هنا قلت لنفسي لابد وان شيئا سوف يحدث وإننا سنمضي معا كالأيام السابقة للإيقاع بالمجرم في يد العدالة.
وهز كتفيه وأردف قائلا:
– واذا صحت نبوءتي فلا ريب ان ما سوف يحدث سيكون شيئا ضخما مثيرا جديرا بمثل هذه النبوءة..
فهتفت قائلا:
– أقسم يا بوارو أن من يسمعك يحسبك تتحدث عن حفلة ضخمة تنوي إقامتها في فندق الريتز.
– آه يا صديقي.. أنني أؤمن بالحظ.. أؤمن بالقدر.. وأشعر أن الأقدار قد دفعت بك إلينا في هذه الأيام لتكون بجانبي ولتجنبني ارتكاب الأخطاء التي لا تغتفر.
– وما هي هذه الأخطاء التي لا تغتفر يا بوارو؟
– هي إهمال ملاحظة الأشياء الواضحة العادية.
– حسنا.. حسنا.. وهل هذا الحدث الضخم على وشك الوقوع؟
فهز بوارو كتفيه وقطب جبينه مفكرا ثم أومأ برأسه كأنما استقر على شيء ثم نهض وتناول من خزانة محفوظاته المرتبة والأنيقة خطابا مفتوحا وتقدم نحوي في تردد ثم قال وهو يسلمه لي:
– اقرأ هذا الخطاب يا عزيزي وأخبرني برأيك فيه.
فتناولت الرسالة من يده ووجدت انها مكتوبة على الآلة الكاتبة وعلى ورق سميك بعض الشيء وكانت كما يلي:
" المستر بوارو..
" انك تظن نفسك عبقريا في الكشف عن غموض الجرائم المعقدة التي يعجز عن كشفها رجال المباحث الإنجليز الأغبياء.. حسنا أيها العبقري بوارو دعنا نرى إلى أي مدى تبلغ مهارتك. ولعلك ستجد أن هذه الجريمة أعلى من مستواك انتظر ما سوف يحدث في بلدة اندوفر في الحادي والعشرين من هذا الشهر..
المخلص جدا: أ.ب.س"

ونظرت إلى المظروف الذي كان مكتوبا على الآلة الكاتبة أيضا فوجدت انه ارسل من مكتب بريد و.س.أ وبعد برهة صمت قال بوارو:
– ما رأيك؟
فهززت كتفي وأعدت الرسالة إليه قائلا:
– أعتقد أن كاتبها رجل مخبول.
– أهذا كل ما لديك من أقوال؟
– ألا ترى تماما انه مخبول؟
– إلى حد ما..
ونغمة ما في صوته جعلتني أنظر إليه وأقول في دهشة:
– هل تنظر إلى هذا الموضوع باهتمام كبير يا بوارو؟
– إن الرجل المجنون يا صديقي ليس بالشيء البسيط الذي لا يثير الاهتمام انه قد يكون شديد الخطر
فقلت مسرعا:
– نعم..نعم..ولكنني أردت ان أقول فقط ان مجنونا أرسل إليك هذه الرسالة لإثارة ضجة جوفاء أو لعل كاتبها رجل أسرف في شرب الخمر حتى فقد صوابه.
– كل هذا محتمل.. ولكنني غير مطمئن في الوقت نفسه.
فسألته قائلا:
– هل عرضت هذه الرسالة على رجال الشرطة؟
– أجل عرضتها على المفتش جاب فقال كما قلت أنت تماما أنها دعابة ثقيلة من رجل سكير أو مجنون وأكد لي أن إدارة سكوتلانديار تتلقى في اليوم الواحد عشرات من هذا النوع من الرسائل.
– إذن فلماذا تهتم بأمرها كل هذا الاهتمام؟
فأجاب بوارو ببطء قائلا:
– إن في هذه الرسالة يا هاستنغز شيئا يقلقني..
فقلت وانأ أراه يعيدها إلى مكانها:
– إذا كان الأمر كما تقول أفلا تستطيع أن تفعل شيئا؟
– آه انك دائما هكذا.. ولكن ماذا في وسعي أن افعل؟.. رجال المباحث لا يهتمون بالأمر وليس على الرسالة بصمات الأصابع. وليس هناك أي دليل يشير إلى كاتبها..
– ليس هناك في الواقع إلا شعورك الخاص.
– لا يا عزيزي هاستنغز..لا شأن لشعوري بهذا الموضوع إنما هي المعرفة.. التجربة الطويلة هي التي تقول لي إن في هذه الرسالة شيئا يثير القلق.
ثم لوح بيده في شبه يأس لأن الكلمات لم تسعفه ثم هز رأسه وقال:
– لعلي أقيم من الحبة قبة. وأيا كان الأمر فليس أمامنا إلا الانتظار.
– أجل. وان الحادي والعشرين من هذا الشهر يوافق يوم الجمعة فإذا وقع حادث سرقة بالقرب من اندوفر مثلا..
فقاطعني قائلا بسرعة:
– عندئذ أتنهد بارتياح.
– تتنهد بارتياح.
– نعم لأن الذي يخيفني أن يكون الأمر أخطر جدا من مجرد حادث سرقة.

***

نهض المستر الكسندر بونابرت سوست من مقعده وحملق بنظره القصير فيما حوله في غرفة نومه البالية وكان ظهره متصلبا بسبب جلسته غير المريحة ومن ثم راح يتمطى ويثب على قدمه بحيث لو رآه أحد في تلك اللحظة لحسبه رجلا طويلا جدا ومضى إلى معطفه القديم المعلق وراء الباب وتناول من جيبه علبة سجائر رخيصة وبعض أعواد الثقاب وأشعل لنفسه سيجارة ثم عاد إلى المائدة التي كان جالسا إليها وتناول دليلا للسكك الحديدية وراح يبحث فيه عن شيء معين ثم راح يتأمل بعدد كبير من الأسماء المكتوبة على الآلة الكاتبة ومد يده ببطء وعلم بالقلم على الاسم الأول..
وكان ذلك في يوم الخميس العشرين من شهر يونيو.

***

الفصل الثاني
الجريمة الأولى

رغم تأثري بهواجس بوارو صديقي إلا أنني في الأيام التالية كنت قد نسيت في خضم شواغلي أمر تلك الرسالة ولم أتذكرها في الواقع مرة اخرى الا في اليوم الثاني والعشرين من الشهر عندما أقبل المفتش جاب إلى مسكن صديقي بوارو ولما رآني صافحني بحرارة وشوق لأننا كنا صديقين قديمين وصاح مدهوشا:
– آه.. هذه مفاجأة يا كابتين هاستنغز متى جئت من تلك البراري التي ذهبت إليها؟ اني إذ أدكر تلك الأيام الطيبة التي كنت اراك فيها مع المسيو بوارو دائما آه اني اراك بخير وان كان شعرك قد بدأ يخف بتأثير الزمن.. حسنا.. حسنا.. هكذا الأمر معي أيضا.
وامتعضت قليلا من هذه الملاحظة ولكني تدكرت فجأة ان جاب لم يكن لبقا في أحاديثه مع أحد ومن ثم تظاهرت بالإبتسام بينما استطرد المفتش جاب في حديثه مع بوارو قائلا:
– وهكذا انت يا مسيو بوارو كلما فكرت في اعتزال هذا الركض الطويل وراء المجرمين وجدت نفسك في خضم أحداث جديدة. هل سمعت يا كابتن هاستنغز عن الرسالة الغامضة التي تلقاها بوارو؟
فقال بوارو:
– لقد أطلعت هاستنغز عليها منذ بضعة ايام.
فهتفت قائلا:
– أجل.. أجل.. لقد نسيت أمرها ماذا كان التاريخ المذكور فيها؟
فقال جاب:
– الحادي والعشرون. وهذا ما دفعني إلى المجىء فقد كان أمس الحادي والعشرون من الشهر وبدافع الفضول فقط اتصلت امس تلفونيا بمركز شرطة اندوفر فقيل لي انه لم يحدث اكثر من مشاجرة بين احد السكارى وزميل له واصابة طفلة بحجر قذفه طفل عليها في مثل سنها ومن ثم اعتقدت ان المسيو بوارو لم يكن موفقا في هواجسه هذه المرة.
فاعترف بوارو قائلا:
– انني قد استرحت الآن..حمدا لله.
– كنت شديد الجزع بسبب هذه الرسالة اليس كذلك؟ لك الله. اننا نتلقى عشرات امثالها كل يوم. ويبدو ان هناك طائفة من الناس تهوى كتابة هذا النوع من الرسائلا لأسباب كثير مختلفة.
– الواقع انني اوليته هذه الرسالة من الإهتمام أكثر مما تستحق.. خير. لقد حضرت لزيارتك اليوم لأطمئنك من جهة ولأني كنت اقوم بالتحقيق في حادث سرقة جواهر في الشارع المجاور. طاب يومكما.
وبعد انصرافه قلت لبوارو:
– انه لم يتغير كثيرا..
– أجل.. ولكن الشعر الأبيض تكاثر في فوديه بشكل ملفت للنظر.. حسنا يبدو اني كنت مخطئا حقا في هواجسي عن تلك الرسالة ويلوح ان الإنسان كلما كبر في السن ازداد ارتيابا في كل شيء كالكلب العجوز الأعنى الذي يحاول ان يثبت وجوده بالنباح الأجوف.
وهنا ضحكت وقلت:
– اسمع يا عزيزي بوارو اذا كنت تريد ان استأنف العمل معك في الإيقاع بالمجرمين فيجب ان تكون الجريمة من النوع المثير الذي يقيم الرأي العام ويقعده.
فضحك بوارو بدوره وقال:
– اذا قدر لك ان تختار جريمة كما تختار الطعام فكيف تريدها ان تكون؟ سرقة مثلا ام تزييف؟
– أريد ان تكون جريمة تهديد رئيس وزراء مثلا او خطر يحدق بمليونير امريكي يقيم في انجلترا او خطف رئيس تحرير صحيفة كبرى وان يراق على جوانب الجريمة الدم.
فتنهد بوارو وقال:
– ولابد ان يكون العنصر النسائي فيها… فتاة جميلة ذات شعر ذهبي.
– أجل لأن الجمال كثيرا ما يجني على صاحبه ويثير حسد الناس له.
وقلت فجأة:
– ويحسن ان تعقب الجريمة الأولى جريمة ثانية لأن هذا يزيد من اهتمام الناس بالأمر لأن الجريمة الواحدة لاسيما في قصة مطولة قد تبعث على ملل القارىء.
وعندئذ صلصل جرس التلفون فتناول بوارو المسماع وقال:
– أجل أنا بوارو هركيول بوارو.
وصمت برهة ينصت ثم أربد وجهه ويقول هذه العبارات على التوالي:
– نعم..نعم..
– طبعا..
– طبعا..طبعا سوف أحضر.
– أجل ربما كان الأمر كما تقول.
– سآتي بها معي.
وأعاد المسماع إلى الحمالة وقال لي:
– انه المفتش جاب يا هستنغز.
– ماذا يريد؟
– قال انه عقب وصوله إلى ادارة سكوتلانديار وجد في انتظاره رسالة من اندوفر.
فهتفت قائلا:
– اندوفر؟
– أجل اندوفر.. وجاء في الرسالة ان امرأة عجوز تدعى المسز آسكر وجدت مقتولة في دكانها الصغير الذي تبيع فيه التبغ والسجائر والحلوى واعترف ان انفعالاتي هبطت في تلك اللحظة.. لقد كنت اتوقع ان اسمع عن جريمة تهز الرأي العام اما مقتل امراة عجوز في بلدة نائية فهو حدث عادي يقع الكثير منه في كل يوم.
واستطرد بوارو يقول:
– ويعتقد رجال الشرطة في اندوفر ان في مقدورهم وضع أيديهم على الفاعل…
وازدادت انفعالاتي هبوطا بينما أردف بوارو يقول:
– ويبدو ان المرأة كانت على خلاف مع زوجها الذي أدمن الخمر وأصبح عاطلا منحط الأخلاق وقد سمعه الكثيرون وهو يهدد زوجته بالقتل…
وصمت بوارو برهة قبل ان يستأنف الحديث قائلا:
– ومع هذا كله فان رجال المباحث في ادارة اسكوتلانديار يريدون ان يعيدوا النظر في الرسالة الغامضة التي تلقيتها وقد وعدتهم بأننا سنحضر إلى اندوفر.
وأحسست بالإنفعال المثير مرة اخرى وخامرني ذلك الشعور القديم شعور كلب الصيد وهو يتأهب للإنطلاق وراء الثعلب المراوغ… وكان بوارو لايزال يتحدث ولكنني لم اسمع شيئا مما قال..

***

واستقبلنا في اندوفر المفتش جلين وكان رجلا طويلا أشقر البشرة لطيف الإبتسامة وقال:
– واعتقد ان واجبي اولا ان اسرد هنا الحقائق المجردة التي عرفت عن الجريمة والظروف المحيطة بها:
"اكتشف امر الجريمة الكونستابل دوفر في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل أي في اول ساعة من صباح اليوم الثاني والعشرين من الشهر وكان يقوم بدوريته الليلية التفتيشية عندما لاحظ ان باب دكان المسز آسكر غير مغلق فدخل.. فظن في اول الأمر انه لايوجد به احد. وفيما هو يسلط كشافه الكهربائي على ما وراء منصة البيع رأى جسم امرأة عجوزا مكوما ولما حضر طبيب الصحة قال ان المرأة العجوز ـ الذي ثبت انها المسز آسكر نفسها ـ ماتت بضربة عنيفة اصابت مؤخرة راسها. ومن المحتمل ان تكون الضربة هوت عليها اثناء استدارتها لإستحضار علبة سجائر من فوق احد الرفوف. وقد حدد الطبيب الوفاة من سبع إلى تسع ساعات قبل اكتشاف الحادث "
وقال المفتش في اثناء حديثه:
– ولكننا استطعنا ان نحدد الوقت بأقل من هذا لأننا عثرنا على رجل اعترف انه اشترى علبة تبغ من المسز آسكر في الساعة الخامسة والنصف من مساء الحادي والعشرين وقال آخر انه ذهب لشراء علبة سجائر فوجد الدكان خاليا كما ظن في الساعة السادسة وخمس دقائق. وانا لم اعثر بعد على اي شخص يشهد بانه راى زوجها المستر آسكر بالقرب من دكانها في ذلك الوقت المحدد ولكن قيل لنا انه كان في حانة "ثري كراونز" فاقد الوعي بالخمر في الساعة التاسعة من مساء امس وعندما يتم القبض عليه سوف نحجزه رهن التحقيق.
فقال بوارو:
– انه كما سمعت شخصية فاسدة.
– أجل..
– هل كان يعيش مع زوجته؟
– لا لقد انفصلا منذ بضعة أعوام وآسكر الماني الجنسية وكان في يوم ما يشتغل جرسونا واصبح تدريجيا غير صالح لأي عمل واشتغلت زوجته بالخدمة في البيوت حينا وكان آخر عمل لها اشتغلت طاهية ومدبرة في منزل عانس عجوز تدعى المس روز وكانت المسز آسكر تعطي بعض المال لزوجها من اجرها لتسكنه عنها. ولكنه كان يسكر ويذهب إليها ويثير معها المنازعات والفضائح… وهذا ما جعلها تقبل العمل مع المس روز في بلدة جرانج التي تبعد عن اندوفر بثلاثة اميال. وهكذا لم يكن يستطيع ان يتردد عليها بكثرة ولما ماتت المس روز تركت في وصيتها للمسز آسكر مبلغا من المال استطاعت به ان تنشىء متجرا لبيع التبغ والحلوى والصحف. وكان دخلها من هذا المتجر يتيح لها حياة الكفاف. ولكن زوجها ظل يثقل عليها بطلباته حتى اتفقت معه على اعطائه خمسة عشر شلنا كل اسبوع اتقاء لشره.
– هل لديها ابناء؟
– لا. ولكن للمجني عليها ابنة اخت تشتغل مدبرة بيت في بلدة اوفرتون وهي فتاة ناضجة كريمة الأخلاق.
– وذلك الرجل المدعو آسكر كان يهدد زوجته دائما؟
– أجل. وكان اذا سكر يصبح وحشا بذيء اللسان وكثيرا ما هددها بتحطيم راسها.
– وكم كان عمر المجني عليها؟
– في نحو الستين.. وكانت سيدة محترمة مكافحة.
– اذن فأنت تعتقد يا سيدي المفتش بأن زوجها هو القاتل؟
فتنحنح المفتش جلين قبل ان يقول:
– يجب اولا ان نعرف كيف امضى فترة المساء امس فاذا ثبت انه كان بعيدا عن مسرح الجريمة عند وقوعها فربما افرجنا عنه والا…
– ألم يسرق شيء… فان النقود ظلت كما هي في الدرج ولايبدو ان هناك شيئا مسروقا.
– اذا كنت تعتقد ان المدعو آسكر ذهب ـ وهو مخمور ـ إلى دكان زوجته ثم تشاجر معها وضربها بشيء ثقيل على أم راسها؟
– هذا ما يبدو لنا حتى الآن.. ولكننا نريد ان نلقي نظرة على الرسالة الغامضة التي جاءتك.
وبعد ان قرأ المفتش الرسالة قطب جبينه وقال:
– لايلوح ان آسكر هو كاتبها لأن يد الرجل اصبحت الآن ترتعد بشدة بسبب ادمانه الخمر وهذه الرسالة مكتوبة بيد ثابتة وبخط واضح.كما ان الورق والمداد من نوعين ممتازين بعيدين عن متناول رجل في مثل ظروف آسكر ولهذا ارى ان الأمر مجرد مصادفة.
– هذا محتمل..
– ولكنني لا اطمئن إلى هذا النوع من المصادفات.
وصمت برهة قبل ان يقطب جبينه مرة اخرى ويردف قائلا:
– أ.ب.س.. من يكون هذا الشيطان؟ لسوف نحاول ان نعرف راي ماري دراور ـ ابنة اختها ـ في هذا الموضوع ولولا هذه الرسالة لراهنت بكل قرش معي ان آسكر هو الجاني.
– ألديكم اية معلومات عن تاريخ المجني عليها؟
– انها امرأة من اقليم هامشاير ذهبت للخدمة في المنازل منذ كانت فتاة في مدينة لندن.. وهناك تقابلت مع آسكر وتزوجته وفي عام 1945 انفصلت عنه نهائيا بدون طلاق وعادت إلى هذه البلدة لتبقى في منأى عنه ولكنه تبعها إلى هنا وراح يبتز مالها..
وهنا حضر احد الكونستبلات فقال له المفتش:
– حسنا يا بريجرز؟
– لقد أحضرنا المدعو آسكر.
– أدخله فورا.. اين كان؟
– كان مختفيا في مركبة سكة حديد مهجورة.
– حسنا. أدخله فورا.
وكان فرانز آسكر الألماني الأصل والإنجليزي الجنسية نموذجا بائسا من الجنس البشري وكان يثرثر ويدمدم قائلا وهو يحملق في وجوهنا بنظرات ملؤها الخوف والإحتجاج:
– ماذا تريدون مني؟ انني لم افعل شيئا.. انكم تظلمونني.كل انسان في هذه الدنيا يظلمني. انني مسكين. دعوني وشأني.
وشرع آسكر في البكاء وهنا قال له المفتش:
– تمالك نفسك يا آسكر. اننا لم نوجه اليك بعد أي اتهام. ولم يجبرك احدا على ان تقول شيئا رغما عنك.
– ولكنني لم اقتلها.لم اقتلها.. دعوني وشأني.
– لقد هددتها كثيرا بالقتل يا آسكر.. اليس كذلك؟
– لا.. لا..كنت امزح معها فقط.
– نوع لطيف من المزاح.. اليس كذلك؟ حسنا.. اين كنت بعد غروب يوم امس يا آسكر؟
– انني لم اقترب من دكانها. لقد كنت امس بعد الظهر حتى ساعة متأخرة من الليل مع اصحاب محترمين ذهبنا اولا إلى حانة "سيفن ستارز" ثم إلى حانة "رد دوج" وكان معنا ديك ويلوز وكرودي العجوز وجورج وبلات وغيرهم. نعم انني لم اقترب منها امس.
ولما بدأ يصرخ ـ وهو في حالة انهيار عصبي ـ امر المفتش بنقله إلى غرفة الحجز على ذمة التحقيق ثم قال بوارو:
– ما رايك في هؤلاء الشهود؟
– انهم جميعا من مدمني الخمر. ويتوقف الأمر الآن على ان يكون هناك شهود آخرون قد راوه بالقرب من الدكان بعد ظهر امس.
وبعد برهة صمت قال بوارو:
– هل انت واثق بان شيئا ما لم يسرق من الدكان؟
فهز المفتش كتفيه وقال:
– من يدري؟ ربما سرقت علبة سجائر او اثنتان فان هذا الشيء لا يمكن التأكد منه.
وبعد برهة صمت أردف قائلا:
– لكن من غير المعقول ان يرتكب شخص ما جريمة قتل ليسرق بضع علب سجائر.
وقال بوارو:
– ألم يكن هناك في مكان الجريمة شيء؟ أعني شيئا غريبا في وضعه او شكله او مثيرا للإنتباه؟
ففكر المفتش برهة ثم قال:
– كان هناك دليل سكة حديد.
– دليل سكة حديد؟
– أجل وكان مفتوحا ومقلوبا على منضدة البيع وكأنما كان ثمة شخص يبحث فيه عن مواعيد القطارات المتحركة من محطة اندوفر.
– وهل كانت المسز آسكر تبيع هذا النوع من الكتب؟
فهز المفتش راسه وقال:
– كانت تبيع جداول سفر صغيرة لاتزيد ثمن الواحد منها على نصف قرش اما هذا الدليل فهو من الحجم الكبير الذي لا يباع الا في المكتبات الكبيرة.
وهنا ومضت عينا بوارو وقال بلهفة:
– أتقول دليل سكة الحديد.. أهو دليل برادشو او أ.ب.س؟
وهتف المفتش قائلا:
– بحق السماء. انه من هذه النوع الذي يقوم على الأحرف الهجائية.

***

الفصل الثالث
في مسرح الجريمة

أعتقد ان اهتمامي بهذا الحادث قد تضاعف عند ذكر دليل برادشو السياحي القائم على تسجيل اسماء المحطات بالترتيب الأبجدي وكان اهتمامي قبل ذلك لايعدو اهتمام اي شخص غريب بمقتل امرأة عجوز فقيرة في بلدة نائية. انها جريمة من النوع الذي تنشره الصحف في اصغر اركانها وباصغر حروف طباعتها وكنت اعتقد في قرارة نفسي ان المسز آسكر ذهبت ضحية زوجها السكير وانه لا شأن للرسالة الغامضة بهذه الجريمة وان الأمر كله لايعدو ان يكون محض صدفة. اما بعد ما سمعت بامر هذا الدليل الأبجدي للسكة الحديدية فقد احسست برعدة تسري في كياني وانا اؤمن بان هذا لا يمكن ان يكون مصادفة.
لقد اتخدت الجريمة في رايي وجهة اخرى خطيرة.
فمن هو ذلك الشخص الخفي الذي قتل المسز آسكر وترك وراءه الدليل الأبجدي لمحطات السكة الحديدية؟
وبعد ان غادرنا مرطز الشرطة في اندوفر ذهبنا إلى المشرحة حيث راينا المجني عليها جثة هامدة بشعرها الأشيب والإصابة القاتلة في راسها واسرعنا بالخروج إلى مكتب الجاويش الذي قال لنا مواسيا:
– انها لم تعرف من الذي قتلها فان الدكتور كار يقول ان الوفاة حدثت في الحال واني لمسرور لهذا لأن هذه السيدة كانت طيبة ومسكينة وأحمد الله انها لم تتعذب.
وقال بوارو:
– يبدو انها كانت جميلة في شبابها.
فنظرت اليه مدهوشا وقلت:
– هل لهذا علاقة بالحادث؟
– حسنا.. سوف نرى..
ثم التقينا بالدكتور كار الذي قال:
– ان رجال المباحث لم يعثروا على اداة القتل بعد ولكن الواضح انها اداة من نوع عادي هراوة ثقل من اي نوع عصا محشوة بالحديد او كيس رملي كل هذه قد يكون من الأدوات التي تستعمل لإرتكاب الجريمة.
– هل توجيه هذه الضربة كان يستلزم قوة خاصة.
فنظر الطبيب اليه في ارتياب وقال:
– أتعني هل يستطيع رجل مثل آسكر في السبعين من عمره مرتعش اليدين ان يوجه ضربة كهذه
– نعم. ان هذا ممكن.
– اذن فقد يكون القاتل امرأة!.
فنظر الطبيب اليه بدهشة وقال:
– امرأة؟ ان هذا الإحتمال لم يخطر ببالي ولكنه احتمال ممكن الوقوع اما من الناحية النفسية فيمكنني القول انها ليست جريمة نسائية.
فأومأ بوارو براسه موافقا وقال:
– بكل تأكيد. بكل تأكيد. ان هذا امر بعيد الإحتمال ولكن على الإنسان ان يشمل بنظراته جميع الأحتمالات وكيف كان وضع الجثة؟
فذكر الطبيب انه يرجح ان المجني عليها كانت قد استدارت بظهرها للقاتل لكي تأتي اليه بشيء فأهوى على مؤخرة راسها فتكومت على نفسها وراء منضدة البيع ومن ثم بدا الدكان لعابر السبيل وكانه خال تماما.
وقال لي بوارو بعد انصرافنا:
– أترى يا عزيزي هاستنغز هذه النقطة جديدة في جانب براءة آسكر فلو انه هو الذي ذهب إلى زوجته يسبها ويهددها لوقفت امامه تواجهه.. ولكنها كانت عند الوفاة مستديرة بظهرها إلى القاتل الذي جاء ولاشك في هيئة رجل يريد شراء شيء.
ثم أردف قائلا وهو ينظر في ساعة يده:
– أعتقد ان اوفرتون ليست بعيدة عن هنا.. ما رايك في ان نسرع إليها الآن ونقابل ابنة اخت المجني عليها؟
– الا يحسن ان نمضي اولا إلى مسرح الجريمة؟
– افضل ان افعل هذا فيما بعد لأسباب خاصة.
وبعد لحظات قليلة كنا نندفع بالسيارة في طريق لندن متجهين نحو بلدة اوفرتون.. وكان العنوان الذي اعطاه لنا المفتش ينطبق على بيت كبير الحجم يبعد نحو ميل على الجانب " اللندني" من القرية.
واستجابت لرنين جرسنا فتاة شابة في ملابس سوداء جميلة الوجه متورمة العينين من فرط البكاء.
قال بوارو لها برفق:
– آه أعتقد انك المس ماري دراور؟
– أجل يا سيدي انني ماري يا سيدي.
– هل استطيع ان اتحدث معك بضع دقائق بعد اذن سيدتك؟ ان الموضوع يتعلق بمقتل خالتك المسز آسكر.
– ان سيدتي في الخارج يا سيدي وهي لن تمانع في ان تتفضل بالدخول.
ثم فتحت بابا لغرفة استقبال صغيرة وبعد ان جلسنا بجوار النافذة رمق بوارو الفتاة بامعان ثم قال:
– لقد سمعت طبعا بما حدث لخالتك؟
فأومأت الفتاة براسها وقالت والدموع تنساب من عينيها:
– علمت هذا الصباح يا سيدي عندما جاء احد رجال الشرطة واخبرني بالحادث.آه.. ان الأمر فظيع يا خالتي المسكينة أتعيش بائسة طيلة حياتها ثم تكون هذه هي النهاية.
– ألم يعرض عليك رجل الشرطة الذهاب إلى اندوفر؟
– قال لي يجب ان احضر جلسة التحقيق التي ستعقد يوم الإثنين التالي اما الآن فكيف اذهب واين اقيم هناك؟ انني لن اطيق الإقامة في غرفة خالتي التي تقع وراء الدكان. وزميلتي في العمل هنا غائبة عند اهلها واعتقد انه لا يجوز ان اترك سيدتي بمفردها في مثل هذه الظروف.
فقال بوارو برفق:
– كنت تحبين خالتك؟
– جدا يا سيدي لقد كانت عطوفا علي دائما.. هكذا كانت دائما منذ وفاة امي. وقد بدأت أعمل بالخدمة في البيوت منذ كنت في السادسة عشرة من عمري ولكنني كنت حريصة على قضاء يوم عطلتي الأسبوعية لديها وكان ذلك الألماني اللعين سببا في شقاء حياتها. انه لم يتركها تنعم يوما بالراحة والهدوء.
وكانت الفتاة تتحدث بحماس. فقال بوارو:
– ألم تفكر خالتك يوما في طلب الطلاق منه؟
– لايا سيدي.. ان خالتي لم تكن من النوع الذي يبرر الطلاق لأي سبب.
– وهل سمعته يهددها يا ماري؟
– أوه..كثيرا.. وما افظع ما كان يقوله لها.كان يقول انه سيذبحها يوما وسيحرقها يوما وسيدق عنقها. كان لايكف عن السباب بالإنجليزية والألمانية ومع ذلك كانت خالتي تقول انه كان في شبابه رجلا لطيفا جميلا مهذبا.
– اذن فأنت لم تدهشي كثيرا حين سمعت بمصرع خالتك واتهام رجال الشرطة اياه بانه القاتل؟
– على العكس يا سيدي… لقد دهشت جدا لأنه لم يخطر ببالي قط ان مثل هذا الرجل العجوز السكير المهدم يستطيع ان يقتل نفسا بشرية.. بل اكثر من هذا كنت اراه يتراجع عنها كالكلب المذعور عندما تستدير اليه وتبدأ في معاملته بالمثل. أجل لقد كان يخشاها.
– ومع ذلك كانت تعطيه مالا؟
– طبعا يا سيدي.. ألم يكن زوجها.
– أجل..أجل..
ثم اردف بوارو بعد لحظة صمت:
– لنفرض انه ليس قاتلها…
فحملقت في وجهه بدهشة وتمتمت:
– ليس قاتلها؟
– أجل.. لنفرض ان الذي قتلها شخص آخر فهل لديك اية فكرة من يمكن ان يكون؟
– لا ياسيدي مطلقا ان هذا غير محتمل. فمن هذا الذي يسعى إلى قتل امرأة عجوز مسالمة مثل خالتي؟
– ألم تسمعيها تذكر اسم اي شخص غاضب منها او ساخط عليها:
– أبدا يا سيدي…
– ألم تستلم قط رسائل بتوقيعات أشخاص مجهولين؟
– لا اظن يا سيدي..
– اليس لخالتك اقارب غيرك؟
– لا اظن يا سيدي لقد كنت واحدة من عشر بنات وابناء ولكن لم يعش منهم سوى ثلاثة غيرها هي وخالي توم الذي قتل في الحرب وخالي هاري الذي رحل إلى امريكا الجنوبية ولم نعد نسمع عنه شيئا اما امي فقد ماتت وانا طفلة.. وهكذا لم يبق لها من الأقارب غيري.
– هل كانت خالتك تدخر مالا؟
– كانت تدخر في بنك التوفير مبلغا بسيطا يكفي لتغطية نفقات جنازتها اما فيما عدا ذلك فقد كانت تجاهد حتى تقيم اودها فضلا عن المبالغ التي كان ذلك الشيطان يبتزها منها.
فاومأ بوارو براسه ثم نهض وهو يقول:
– اذا احتجنا اليك في اي وقت يا ماري فهل نكتب اليك في هذا العنوان؟
– الواقع انني لن امكث هنا طويلا.. لقد آثرت العمل في البلدة لأكون قريبة من خالتي.
ثم طفرت الدموع من عينيها وهي تردف قائلة:
– اما وقد ماتت فاعتقد ان مكان العمل الملائم لفتاة مثلي هو المدينة "لندن".
– أرجو عندما ترحلين إلى لندن ان ترسلي لي بعنوانك الجديد وهذه هي بطاقتي.
فقالت بعد ان نظرت في البطاقة:
– اذن فانت لست من رجال الشرطة يا سيدي؟
– اني اعمل لحسابي الخاص.
فوقفت ونظرت اليه برهة ثم قالت بصوت خافت:
– هل ثمة شيء خاص في هذه الجريمة يا سيدي؟
– أجل يا ابنتي وسوف تعرفين كل شيء في حينه ونرجو ان تبذلي جهدك في مساعدتنا اذا احتجنا اليك.
– هذا ما ارجوه يا سيدي..
وبعد لحظات كنا في طريق العودة إلى اندوفر….
كان مسرح الجريمة في شارع جانبي يتفرع من الشارع العام بالبلدة وكان دكان المسز آسكر يقع في منتصف هذا الشارع الجانبي في الجهة اليمنى وفيما نحن ندخل هذا الشارع رايت بوارو ينظر في ساعته.. وعندئذ ادركت لماذا ارجأ زيارة مسرح الجريمة حتى هذا الوقت لقد أراد ان يصل اليه في نفس الفترة المماثلة التي وقع فيها الحادث اي في الساعة الخامسة والنصف مساءا وكان ثمة بعض الدكاكين المتناثرة بين بيوت الطبقة الدنيا في ذلك الشارع الجانبي وكان المعتاد في ذلك الوقت من اليوم ان يرى فيه بعض السكان وهم عائدون من اعمالهم إلى بيوتهم او بعض الأطفال وهم يلعبون اما عندما ذهبنا نحن فقد كان المنظر جد مختلف كان هناك جمع كبير من سكان البلدة الذين دفعهم الفضول إلى مسرح الجريمة راحوا من بعيد يقفون جماعات جماعات يتبادلون الأحاديث والتعليقات عن الحادث.
ولما وصلنا إلى الدكان وجدناه قديم المظهر مغلقا وقد وقف امامه احد رجال الشرطة ووقف بوارو ينظر إلى اللافتة المعلقة التي تحمل اسم " آسكر" ثم فجأة قال لي:
– هلم ندخل هذا الدكان يا هاستنغز.
وشققنا طريقنا بين المجتمعين وقدم بوارو بطاقته الخاصة لرجل الشرطة الذي اومأ براسه وفتح باب الدكان وسمح لنا بالدخول بين دهشة المتفرجين البالغة.
وكان الظلام في الداخل كثيفا فأدار الشرطي مفتاح النور.. وعلى هذا الضوء الكهربائي اخذت افحص ما حولي. كان دكانا صغيرا وضيقا ايضا من الداخل، على منضدة البيع بعض الصحف والمجلات الرخيصة التي يعلوها الغبار ووراء المنصة بضعة ارفف عليها علب السجائر والحلوى والتبغ وبعض الدمى الخزفية الرخيصة وعلى مشجب في نهاية الدكان كان ثمة معطف من الصوف القديم ومطرف وصديرية نسائية وكانت هذه كل بقايا ملابس المسكينة آليس آسكر.
وقال بوارو وهو يمسك بيدي:
– هلم إلى الخارج يا هاستنغز فلن نجد هنا ما يلقي اي ضوء على الحادث. ولما عدنا إلى الشارع وقف بوارو مترددا برهة ثم عبرنا الطريق إلى الجانب الآخر حيث كان ثمة دكان فاكهي وخضري في الجهة المقابلة تماما لدكان المسز آسكر وكان الفاكهي يعرض معظم سلعه على منصات خارج الدكان.
وكان بوارو قد طلب مني بصوت خافت ـ ونحن نعبر الطريق إلى ذلك الدكان ـ ان أشتري اية كمية من الفاكهة اثناء حديثنا مع البائعة، وراح يتحدث مع البائعة البدينة وهو يشتري منها كمية الخس بينما طلبت انا شراء رطل من الفراولة وكان هو يقول معلقا على الحادث:
– كان الحادث في مواجهتك تماما.. اليس كذلك؟ أعني مقتل المسز آسكر لاشك انه اثار ضجة كبيرة في بلدة صغيرة كهذه.
ويبدو ان البائعة البدينة كانت قد تعبت من كثرة الحديث عن هذا الموضوع إذ قالت في ضجر واضح:
– انني لا ادري لماذا يتجمع كل هؤلاء الناس.. ماذا يشاهدون وعلى اي شيء يتفرجون؟
– لا شك ان الشارع امس كان هادئا.. ولعلك لاحظت القاتل وهو يدخل انه رجل طويل اشقر روسي السمت.. او هكذا يقال.
– ماهذا؟ أهو روسي؟
– علمت ان رجال الشرطة قبضوا على رجل روسي بتهمة قتل المسز آسكر.
– آه حسنا جدا.. اذن فهو اجنبي غريب عن البلاد.
– كنت أظن انك لمحته وهو يدخل دكانها.
– الواقع إنني لا ألاحظ المارة كثيرا لأنني اكون في مثل هذا الوقت مشغولة بالبيع ولكن أؤكد انني لم ار رجلا طويلا اشقر البشرة يمر بالشارع امس.
وهنا تدخلت انا في الموضوع وقلت:
– معذرة ايها السيد لكنني سمعت شخصيا ان رجال الشرطة القوا القبض على رجل قصير خمري اللون له لحية صغيرة. واشترك في الحديث عندئذ صاحب الدكان ـ وكان زوج البائعة ـ وصبي في نحو العاشرة وقد قال الثلاثة انهم راو أربعة رجال قصار سمر الوجوه ولكن ليس بينهم واحد له لحية صغيرة.. وقال الصبي انه راى رجلا طويلا اشقر وله لحية. وبعد انصرافنا قلت لبوارو في ضيق:
– ماذا كنت تهدف من هذا اللغو الفارغ؟
– كنت اريد ان اعرف إلى اي حد يمكن ان يلاحظ هؤلاء الناس مرو رجل غريب عن البلدة بهذا الشارع.
– اما كان يمكنك ان تسألهم مباشرة؟
– لا.. ان السؤال المباشر يجعلهم يتحفظون اما هذه الطريقة البسيطة في تبادل الحديث فهي التي تخرجهم وتجعلهم يتجاوبون معك ويجيبون على اسئلتك دون ان يشعروا بالخوف او الحرج.
ثم اردف قائلا وهو ينظر إلى كيس الفاكهة في يدي:
– عندما تشتري نوعا من الفاكهة في مثل هذه الظروف يا هاستنغز يجب ان تختار نوعا من الفاكهة الجافة انظر الآن ان الفراولة قد اوشكت ان تبلل ملابسك.
ولاحظت في استياء ان تلك هي الحقيقة ومن ثم انتهزت اول الفرصة واعطيتها لغلام في الطريق واضاف بوارو إليها الخس الذي اشتراه ثم عدنا إلى الجانب الذي يقع فيه دكان المسز آسكر حيث راينا ان المنزل والدكان الواقعين على يمينه خاليين ومكتوب عليهما للإيجار اما على الجانب الآخر فكان ثمة منزل صغير تنسدل على نوافذه الأمامية ستائر غبراء من الموسلين. وطرق بوارو باب هذا المنزل الأخير فلم يلبث ان فتحه صبي صغير قذر السمت فسأله بوارو عن والدته.. فأسرع إليها وبعث بها الينا بينما هو في ركن من الردهة يتأملنا في شك وقلق.
واقبلت سيدة حادة الملامح متجهمة الوجه وقالت فورا:
– لا فائدة من اضاعة وقتكم في….
ولكن بوارو قاطعها وهو يرفع قبعته ويحييها باحترام:
– طاب مساؤك يا سيدتي انني محرر بصحيفة " الا يفننج فليشر" وارجو ان تقبلي هذه الجنيهات الخمسة مقابل اعطائنا بعض المعلومات الخاصة لكتابة مقال عن جارتك المسز آسكر.
فانبسطت اسارير المرأة امام الجنيهات الخمس وقالت:
– تفضلا بالدخول.. تفضلا..
ودخلنا غرفة صغيرة ضيقة مكتظة بالأثاث القديم واستطعنا ان نجلس على نحو ما أمام السيدة التي قالت معتذرة:
– انني آسفة على لهجتي الحادة التي تحدثت بها معكما في اول الأمر والواقع ان ربة المنزل منا لا تكاد تفرغ من فتح الباب بين الحين والآخر لهذا البائع المتجول او ذاك، باعة المكانس الكهربائية والمطهرات والصابون الكيميائي والجوارب والروائح وما إلى ذلك.. وكلهم يتحدثون برقة ولباقة يحاولون ان يكتبوا الإسم ويقولون " لكي تكوني عملية دائما يا مسز فارلو " وهكذا.
وانتهز بوارو فرصة التعرف باسمها فقال بلباقة:
– حسنا يا مسز فارلو..ارجو ان تحققي رجاءنا في كتابة المقال عن جارتك المسكينة.
فرمقت المرأة الجنيهات الخمسة في بوارو وقالت:
– انني ارجو هذا. ولكنني لا اعرف كيف تكتب المقالات.
فاسرع بوارو واكد لها انها لن تكتب بنفسها شيئا وانما يكفي ان تدلي اليه بما تعرفه عن حياة جارتها الخاصة ثم يتولى هو صياغة المقال.
وتشجعت المسز فارلو واندفعت تحدثنا بكل ما تعرفه عن المجني عليها كانت تعيش منطوية على نفسها ولا تميل إلى مصادقة احد ولا شك ان كان لها العذر بسبب المتاعب التي عاشت فيها والتي كان زوجها السبب الوحيد في اثارتها ولكن المسز آسكر لم تكن تخشاه حقا بل انها كانت تستطيع اذا شاءت ان تملأ قلبه فزعا منها الا ان هذا لم يكن يمنع المسز فارلو من تحذير جارتها المسز آسكر إلى قتلك ذات يوم فكوني دائما على حذر منه وقد حدث ما كنت أخشاه واتنبأ به وماتت مقتولة دون ان اشعر او اسمع اي شيء وتوقفت المسز فارلو وحكت راسها وقالت انها لاتعلم شيئا عن هذا ولا تعتقد ان المسز آسكر من النساء الآتي يهتم احد بارسال خطابات بلا توقيع إليها.
وسألها بوارو قائلا:
– هل سبق ان رايت عندها دليل برادشو للسكة الحديدة؟
فقالت في حيرة:
– انني لم ار مثل هذا الدليل في حياتي.
– انه يرتب اسماء المحطات بالحروف الهجائية.
– لا يا سيدي..لم اره من قبل لا عند المسز او عند غيرها.
– هل راى احد ذلك المدعو آسكر وهو يدخل دكانها في تلك الساعة التي وقعت فيها الجريمة؟
– لا شك انه كان حريصا طبعا حتى لا يراه احد.
والقى بوارو عليها مزيدا من الأسئلة ولكن المرأة ظلت تعيد تكرار ما قالته عن سوء أخلاق المستر آسكر وعن قسوة معاملته لزوجته وعن تحذيراتها هي الدائمة لها.
ولما اعطاها بوارو الجنيهات الخمسة وانصرفنا قلت له:
– أتعتقد ان هذه المعلومات المكررة التافهة تساوي هذا المبلغ؟
فهز بوارو كتفيه وقال:
– اننا الآن كالذي يعيش في ظلام دائم. ولكن من يدري؟ فربما نجد في النهاية بصيصا من الضوء يرشدنا إلى غايتنا.. ولعل بعض المعلومات التي تبدو لنا الآن تافهة تكون ذات قيمة كبيرة في المستقبل.
ولم افهم في تلك اللحظة ماذا يعني بالتحديد ولكنني لم اطلب منه التفسير أو التوضيح لأننا التقينا عندئذ بالمفتش جلين.

***

الفصل الرابع
الرسالة الثانية

كان المفتش جلين يبدو مكتئب السمات. وكان ـ كما فهمت ـ قد امضى طيلة فترة ما بعد الظهر يحاول ان يكتب قائمة بجميع الأشخاص الذين شوهدوا يدخلون دكان المسز آسكر بعد ظهر اليوم الحادي والعشرين من شهر يونيو وسأله بوارو قائلا:
– ألم ير واحد منهم احدا من الداخلين؟
– اوه بل راو الكثيرين.. راو ثلاثة رجال طوال لهم نظرات مختلسة مضطربة واربعة رجال قصار لهم شوارب كثة واثنين بلحيتين مهوشتين وثلاثة رجال بدينيين وكلهم اجانب ولست ادري لماذا لم يروا عصابة رهيبة يضع رجالها الأقنعة السوداء على وجوههم شاهرين مسدساتهم.
فابتسم بوارو في اشفاق وقال:
– ألم ير احد ذلك المدعو آسكر وهو يدخل الدكان في ذلك الوقت؟
– لا..لم يره احد.. وهذا في صالحه طبعا واعترف الآن اني طلبت من حكمدار المنطقة ان يطلب الإستعانة برجال اسكوتلانديار لأن هذه الجريمة ليست محلية في نظري.
– اني اتفق معك في هذا الرأي.
– اني متشائم جدا يا مسيو بوارو.. احس ان هذه الجريمة ستكون حلقة اولى في سلسلة جرائم متوالية.. ولست ادري لماذا؟.
وكان علينا ان نقوم بزيارة اثنين من سكان اندوفر احدهما المستر جيمس بارتريدج الذي كان آخر من شاهد المسز آسكر وهي لاتزال حية لأنه اشترى منها علبة سجائر في الساعة الخامسو والنصف مساء يوم الحادث وكان المستر بارتريدج رجلا ضئيل الحجم يعمل كاتبا في بنك ويضع على عينيه نظارة قراءة ويبدو دقيقا في كل حركاته وتصرفاته ويقيم في بيت نظيف مرتب، قال وهو يحملق في بطاقة بوارو:
– آه.المسيو بوارو.. من طرف المفتش جلين؟ اني تحت امرك يا مسيو بوارو.
– فهمت يا مستر بارتريدج انك آخر من راى المسز آسكر وهي على قيد الحياة.
فنظر المستر بارتريدج إلى بوارو كما ينظر إلى شيك غير مستوف للشروط ثم قال:
– هذه مسألة لا يمكن الجزم بها يا مسيو بوارو من اين لي او لغيري العلم بان احدا لم يدخل لشراء شيء بعدي؟
– لو دخل احد بعدك لتقدم وادلى بشهادته.
– ان بعض الناس يا مسيو بوارو ينقصهم الشعور باداء الواجب.
– صدقت.. واعتقد انك ذهبت إلى مركز الشرطة للإدلاء بشهادتك متطوعا.
– نعم طبعا..فبمجرد ان سمعت عن الحادث الأليم بادرت إلى مركز الشرطة وأدليت بشهادتي آملا ان القي بعض الضوء على غموض الحادث.
– هذه روح طيبة فعلا.. هل يمكن ان تكرر على مسمعي هذه الشهادة؟
– طبعا طبعا لقد كنت عائدا إلى بيتي هذا وفي تمام الساعة الخامسة والنصف.
– معذرة يا مستر بارتريدج كيف امكنك تحديد هذه الوقت بدقة؟
– كانت ساعة الكنيسة تدق النصف بعد الخامسة فنظرت في ساعتي حيث وجدتها متأخرة وكان هذا قبل ان أدخل دكان المسز آسكر بلحظة.
– وهل كان من عادتك ان تشتري منها بعض حاجياتك؟
– أحيانا.. فان دكانها يقع في طريقي إلى البيت وقد اعتدت ان اشتري منها علبة سجائر بين يوم وآخر.
– هل تعرف شيئا عن المسز آسكر عن ماضيها او تاريخ حياتها؟
– لا شيء تقريبا اني لم اكن اتبادل معها اي حديث الا عن الطقس احيانا.
– أكنت تعرف ان لها زوجا سكيرا اعتاد ان يبتز منها المال بالقوة؟
– لالم اكن اعرف عنها شيئا من هذا القبيل.
– انك تعرفها بالنظر فهل رايت في مظهرها ما يدل على انها كانت في حالة غير طبيعية في ذلك الحين؟
– لابل كانت كعهدي بها تماما.
ونهض بوارو قائلا:
– شكرا لك يا مستر بارتريدج على هذه الإجابات. هل أستطيع ان اجد لديك دليل أ.ب.س للسكة الحديدية اني اريد ان اعرف مواعيد القطارات المسافرة إلى لندن من اندوفر.
– ان الدليل على الرف يقع خلفك وعلى ذلك الرف وجد بوارو مجموعة من المجلات بينها دليل برادشو والكتاب السنوي لأعمال البورصة الأوراق المالية ودليل كيلي التجاري ودليل شخصيات معروفة "هو :من هو".
وتناول بوارو دليل أ.ب.س للسكة الحديدة وتظاهر بالبحث عن مواعيد بعض القطارات فيه ثم اعاده إلى مكانه وكان الشخص الثاني الذي اردنا مقابلته هو المستر البرت ريدل وكان رجلا يختلف جدا عن المستر بارتريدج كان يعمل في محل لطلاء المعادن وكان جهم الوجه متحفظا في الحديث كبير الجسم عريض الوجه يبدو الإرتياب الطبيعي في عينيه وكان حين استقبلنا في ردهة بيته قد فرغ من تناول عشاءه وراح يشرب قدحا من الشاي الأسود قال لنا وهو يحملق في وجه كل منا بسخط شديد:
– لقد قلت كل ما اعرف ولم يعد لدي المزيد من الأقوال.
وهنا اقبلت زوجته من المطبخ وقالت:
– يحسن ان تذكر للمسيو بوارو ما لديك من اقوال يا البرت.
فصاح بها ثائرا:
– اسكتي انت الا يكفي استجواب رجال الشرطة الملاعين لي؟
فقال بوارو برفق:
– اعتقد انك ذهبت إلى مركز الشرطة بمحض ارادتك.
– ولماذا افعل بحق الجحيم؟ ما شأني انا حتى لو انطبقت السماء على الأرض.
– ان المسألة خطيرة.. جريمة قتل.. واعتقد ان من واجب كل مواطن ان يذكر كل ما لديه من معلومات تساعد الوصول إلى الحقيقة.
– ان لدي اعمالي الخاصة.. وهي التي منعتني من الذهاب إلى مركز الشركة بارادتي.
– لقد قيل لرجال الشرطة انك شوهدت تدخل دكان المسز آسكر حوالي السادسة ولهذا جاءوا إليك في هذا الشأن فهل اقتنعوا باقوالك؟
– ولماذا لا يقتنعون؟
ولما هز بوارو كتفيه قال الرجل في تحد وعنف:
– ماذا تريد ان تقول يا هذا؟ ان كل الناس يعلمون من هو القاتل انه زوجها اللعين بطبيعة الحال.
– ولكن احدا لم يشاهده هناك في فترة وقوع الجريمة بينما شوهدت انت.
– اتريد ان تثبت التهمة علي ايها الأجنبي؟ أتظن اني قتلتها لأسرق علبة سجائر او لفافة تبغ او مجلة؟ اتريد ان تقول عني كما يقول غيرك اني احب منظر الدم.
ونهض الرجل مهتاجا مهددا متوعدا ولكن زوجته قالت في توسل:
– البرت لا تقل شيئا كهذا.
وقال بوارو بثبات:
– هدئ نفسك يا سيدي.. اني اريد فقط ان اعرف شيئا عن ظروف ذهابك إلى الدكان.. ولست أجد اي مبرر يمنعك من ان تذكر لي هذا.
فتهالك المستر ريدل جالسا وقال:
– ومن قال اني ممتنع؟
– هل كانت الساعة السادسة عندما دخلت الدكان؟
– نعم كانت قبل السادسة بلحظات ولكن هذا لا يهم وكنت اريد شراء علبة سجائر فدفعت الباب ودخلت..
– هل كان الباب مغلقا؟
– نعم.. وكنت اظنه مغلقا بالمفتاح ولكنني وجدت من الممكن فتحه ففتحت مصراعه ودخلت ولكنني لم ار احدا فأخدت ادق بقبضة يدي على منصة البيع ولما لم يسمعني احد انصرفت.. هذا كل ما حدث.
– كأنك لم تر الجثة المكومة وراء المنصة؟
– لا.. ان رؤيتها كانت تقتضي ان انحني فوق المنصة لأنظر إلى ما وراءها فلماذا أفعل هذا؟
– هل كان على المنصة دليل السكة الحديدة؟
– أجل وكان موضوعا بالمقلوب ومن ثم خطر لي ان المرأة العجوز سافرت فجأة ونسيت ان تغلق
الدكان بالمفتاح.
– هل لمست الدليل او حركته من مكانه؟
– لا طبعا..ولماذا افعل؟
– ألم تر أحدا ينصرف عن الدكان وانت متجه اليه؟
– لا.. وقد ذكرت لك كل ما اعرفه عن هذا الموضوع.
ونهض بوارو وقال وهو يهم بالإنصراف:
– شكرا يا مستر ريدل.
و في الطريق نظر بوارو إلى ساعته وقال:
– إذا اسرعنا فربما استطعنا ان نلحق قطار الساعة السابعة إلى لندن..هلم اليه.
وفي مقصورة الدرجة الأولى بالقطار قلت لبوارو:
– ما رأيك؟
– ان القاتل رجل متوسط الطول احمر الشعر احول العينين يعرج بقدمه اليمنى قليلا ويوجد تحت لوحة كتفه اثر جرح قديم.
فهتف قائلا:
– ما هذا يا بوارو؟
فضحك قائلا:
– ماذا تريد مني ان اقول وانا اراك تنظر الي متوسلا وكأنما ترجوني ان اخرج لك القاتل على طريقة شرلوك هولمز؟ اني لا اعرف شيئا عن القاتل لا عن شكله ولا عن محل اقامته ولا ادري كيف سيمكن القبض عليه.
– لو انه ترك وراءه اثرا فقط؟
– لقد ترك وراءه دليل السكة الحديدية.
– اتظن انه تركه وراءه خطأ؟
– لا طبعا والدليل على ذلك بصمات الأصابع.
– ولكنه لم يترك على الدليل اية بصمات.
– وهذا ما يجعلني أؤمن بانه تركه عامدا. فنحن في شهر يونية والحر شديد وليس من المعقول ان يسير رجل وفي يديه قفازات. ومادام لم يكن مرتديا قفازات فلا بد ان يكون قد ترك عليه بصمات اصابعه وهو يحمله ولكننا لم نجد بصمات اصابع فمعنى هذا انه حرص على مسح ما على الدليل من بصمات اصابع ولو كان الذي ترك الدليل رجلا بريئا لما اهتم بمسح بصمات الأصابع من فوقه ولكن لماذا تركه القاتل وراءه؟..هذا هو السؤال.
– ألا يمكن ان نستدل بشيء بسيط عن هذا الطريق؟
– لا اظن يا هاستنغز ان المجرم كما يبدو شخص يعتز بذكائه الخارق ومثل هذا الشخص لا يترك وراءه سلسلة من الأدلة والآثار التي تنم عليه.
– اذن فدليل ا.ب.س لا قيمة له في هذا الأمر.
فهز بوارو كتفيه وقال:
– ان له قيمة من الوجهة الإستنتاجية فقط.. فالقاتل شخص ينوي ان يبقى مجهولا باسمه ولكنه مع هذا اراد ان يلقي بعض الضوء على شخصيته من حيث لم يشأ.. فنحن من جهة لانعرف عنه شيئا ومن جهة اخرى نعرف عنه الكثير فانا مثلا ارى ان شخصيته بدات تتكون في غموض امامي انه رجل يكتب بخط واضح جيد ويستعمل في رسائله ورقا من النوع الجيد وفي اشد الحاجة للتعبير عن شخصيته اني اراه في طفولته طفلا مهملا لا يهتم بامره احد واراه في شبابه ينمو وهو يحس بانه اقل شانا من غيره وبانه مظلوم من الناس ومن المجتمع ومن ثم ارى ذلك الحافز الداخلي.. الحافز الذي يدفعه للتعبير عن كيانه وشخصيته لتوجيه الإنتباه إلى شخصه وظل هذا الحافز يقوي ويشتد ولكن الطروف كانت تحطمه وتكتبه بقسوة وعنف وتضيف المزيد من الشعور بالإهانة في نفسه وهكذا انتهى به الأمر إلى هذا الطريق الرهيب للتعبير عن ذاته.
فقلت معترضا:
– هذا كله مجرد استنتاج.. انه لا يفيد في الكشف عن غموض الجريمة.
– انك تفضل دلائل اخرى.. طرف عود ثقاب رماد سيجارة اثار حذاءه مسامير خيط حريري وما إلى هذه الأدلة التي لم يعد المجرمون المحدثون يتركونها وراءهم ولكن يمكننا ان نسال انفسنا لماذا ترك وراءه دليل ا.ب.س. للسكة الحديدية؟ ولماذا قتل المسز آسكر بالذات؟ ولماذا اتخذ بلدة اندوفر مسرحا لجريمته؟ ثم الرسالة المجهولة التوقيع لماذا ارسلها الي انا بالذات؟..كل هذه اسئلة يمكن ان تلقي بعض الضوء على هذه الغوامض كلها؟
وبعد برهة صمت قال:
– وماذا تنوي ان افعل؟ اني لست ساحرا ولا قارىء غيب وكل ما يمكن ان اقوم انا به في هذا السبيل سيقوم به رجال المباحث على وجه اكمل.
ثم اردف بعد برهة صمت اخرى:
– الشيء الوحيد امامي هو الإنتظار.. انتظار الرسالة الثانية.
فحملقت فيه مندهشا وقلت:
– اتتوقع ان تاتي اليك رسالة اخرى؟
– بكل تاكيد يا عزيزي ان نجاح المجرم في الإفلات من نتائج الجريمة الأولى سيغريه بارتكاب جريمة ثانية.
وهززت كتفي في شك ومضت الأيام وحفظ التحقيق في قضية مصرع المسز آسكر وافرج عن زوجها.. ولم يشا رجال البوليس بناء على توصية بوارو ان يشيروا اثناء التحقيق إلى الدليل أ.ب.س للسكة الحديدية وعلى الجملة لم تلفت الجريمة اهتمام احد خارج بلدة اندوفر بل ان اهالي البلدة انفسهم لم يلبثوا ان بدأوا ينسون الحادث بعد ايام معدودة واعترف اني شخصيا كنت على وشك نسيان الحادث ايضا لولا انني تذكرته بقوة في صباح اليوم الخامس والعشرين من شهر يوليو كنت قبل ذلك اليوم لم ار بوارو مدة يومين او ثلاثة حيث شغلت ببعض المهام في مدينة يوركشاير ولما عدت يوم الإثنين بعد الظهر رايت بوارو يصعد إلى المسكن بعد الساعة السادسة وهو يحمل خطابا وجده في صندوق بريده وما كاد يفتحه حتى هتف قائلا:
– لقد وصلت.
– ماذا تعني؟
– الرسالة الثانية..
ورحت أحملق اليه في ذهول بينما دفع بالرسالة الي وطلب مني ان اقراها:
" عزيزي المستر بوارو حسنا..ما رايك؟..لقد انتصرت عليك وجعلتك تقف حائرا عاجزا امام جريمة اندوفر ولكن المباراة بيني وبينك لا تزال في اولها والآن دعني الفت نظرك إلى مصيف بكسهيل في اليوم الخامس والعشرين من هذا الشهر.. يا لها من مباراة رائعة مسلية يا مستر بوارو "
المخلص: ا.ب.س

وهتفت قائلا بعد ان فرغت من قراءة الرسالة:
– يا للسماء.. هل ينوي هذا المجنون ان يرتكب جريمة اخرى حقا؟
– طبعا يا هاستنغز.. الم اقل لك هذا؟
– ولكن الأمر رهيب…
– اننا نواجه مجنونا دموي المزاح.
– بكل تاكيد..
واعدت اليه الرسالة وانا ارتعد وكان هدوؤه قد اثارني ولكنني لم البث ان تبينت ان الإنفعالات الشديدة لن تجدي في امر خطير كهذا وفي صباح اليوم التالي عقد كبار رجال المباحث مؤتمرا خطيرا شهده المفتش جاب ومساعده المفتش كروم وحكمدار منطقة سكس ونائبه كارتر والمفتش جلين من اندوفر وعالم التحاليل المشهور الدكتور ثومبسون وقد شهدت مع بوارو هذا المؤتمر الخطير واستعرض الجميع الموضوع من كل جوانبه وحرص الدكتور ثومبسون ـ وكان كهلا لطيفا ـ على استخدام العبارات المبسطة في تحليلاته العلمية اما نائب حكمدار اسكوتلانديار فقد قال:
– لم يعد لدينا شك في ان الرسالتين مكتوبتان بخط واحد وان كاتبهما شخص واحد.
– ويمكننا ان نقول ـ عن يقين ـ ان كاتب هاتين الرسالتين هو مرتكب جريمة اندوفر.
– تماما ولدينا الآن انذار صريح بارتكاب جريمة ثانية في اليوم الخامس والعشرين من هذا الشهر وبمصيف بكسهيل.. اي ان الجريمة سوف تحدث بعد غد اذا لم نضع ايدينا على المجرم.. فما هي الخطوات الواجب اتخاذها؟
والتفت حكمدار سكس إلى نائبه مستفهما وقال:
– مارايك يا كارتر؟
وهز نائب الحكمدار راسه في حيرة وقال:
– ان الأمر جد عسير يا سيدي.. فليس هناك اية اشارة تدل على ان سوف يكون الضحية التالية بل لا نعرف هل ستكون امرأة هذه المرة او رجلا وإذا تحدثت بصراحة فأنا لا ادري ماذا يمكن ان يفعله الإنسان في هذه الظروف.
وغمغم بوارو قائلا:
– انني اقترح.. اعني اظن…
والتفت الجميع اليه بينما استطرد هو قائلا:
– اظن ان الضحية التالية سوف يبدا اسمها بالحرف "ب".
فقال حكمدار سكوتلانديار في شك:
– هذا راي لا باس به.
وقال الدكتور ثومبسون مفكرا:
– عقدة أودب؟
– اظن الأمر مجرد احتمال لا اكثر.. وقد خطر لي هذا الإحتمال عندما قرات اسم آسكر على لافثة دكانها ولما ذكر المجرم المجهول في رسالته التالية ان مسرح جريمته الثانية سيكون مصيف بكسهيل خطر لي ان اسم الضحية سيبدا بالحرف "ب" حسب ترتيب الحروف الأبجدية او الهجائية في اسماء البلاد والضحايا.
فقال الدكتور ثومبسون:
– هذا محتمل جدا ومن الناحية اخرى قد يكون اسم آسكر وبلدة اندوفر مجرد مصادفة وفي هذه الحالة ربما تكون الضحية التالية امراة عجوز لها دكان صغير في بكسهيل لا تنسوا اننا نتعامل مع رجل مجنون لانعرف بعد دوافعه على ارتكاب هذه الجرائم.
فساله المفتش جاب قائلا:
– وهل للرجل المجنون دوافع تبرر ارتكابه جرائم قتل؟
– طبعا يا سيدي.. بل ان المجنون قد يتشبت بدوافع يعتقد تماما انها منطقية ومعقولة وواجبة التنفيذ.. فقد يعتقد واحد منهم انه مبعوث العناية الإلهية لقتل جميع القساوسة او الأطباء او النساء العجائز اللآتي يمتلكن متاجر صغيرة لبيع السجائر والحلوى. ولهذا لا يجوز ان نجري وراء نظرية الحروف الهجائية على انها هي النظرية الصحيحة تماما… فربما اسم بكسهيل بعد اندوفر هو مجرد مصادفة.
وهنا قال الحكمدار سكس لنائبه كارتر:
– على الأقل يحسن ان نكون على حذر في هذه الناحية وان نتخذ بعض الإحتياطات الممكنة وان ندون الأسماء التي تبدأ بحرف الباء في ذلك المصيف ولاسيما اسماء النسوة العجائز اللآتي يبعن السجائر والحلوى في متاجر متواضعة ولا اظن ان في مقدورنا ان نفعل اكثر من هذا الا ان نراقب الأجانب في تلك البلدة بصفة خاصة.
وغمغم كارتر في ضيق قائلا:
– لقد بدات العطلة المدرسية السنوية ولا شك ان مثل هذا المصيف سيكون الآن مزدحما بالطلبة واهليهم.
فقال رئيسه في حدة:
– علينا ان نفعل ما في وسعنا ان نفعله.
وقال المفتش جلين بدوره:
– لسوف اضع رقابة حازمة على كل شخص كانت له علاقة بجريمة اندوفر واهم هؤلاء جميعا هو
آسكر والرجلان بارتريدج وريدل فاذا ظهر ان احدهم سيغادر اندروفر فسوف يكون احد رجالنا وراءه.
وانفض المؤتمر بعد تقديم بعض المقترحات الأخرى التي لا قيمة لها.. وقلت لبوارو ونحن نسير على شاطىء النهر:
– بوارو لابد ان نمنع وقوع الجريمة الثانية باي شكل.
فرفع بوارو الي وجها مرهقا وقال:
– ان رجلا مجنونا واحدا قد يمكن ان يثير الفزع في قلب مدينة مليئة بالعقلاء اتذكر سلسلة جرائم جاك الجزار؟
– كانت مفزعة.
– الجنون يا هاستنغز شيء رهيب.. انني خائف جدا.

***

الفصل الخامس
الجريمة الثانية

مازلت اذكر ساعة يقظتي من النوم صباح اليوم الخامس والعشرين من شهر يوليو.. واعتقد ان الساعة كانت النصف بعد السابعة كان بوارو واقفا بجانب فراشي يهزني برفق من كتفي.. وما ان فتحت عيني والقيت نظرة على وجهه حتى تنبهت من نومي تماما قلت وانا انتصب جالسا:
– ماذا حدث؟
فقال ببساطة تخفي وراءها انفعال مكبوت:
– لقد وقع ما كنت اخشاه.
فهتفت قائلا:
– ماذا؟ ولكننا في اليوم الخامس والعشرين.
– لقد وقعت الجريمة في الواحدة بعد منتصف الليل اي في الساعة الأولى من اليوم الخامس والعشرين.. هذا اليوم.
فوثبت من فراشي واغتسلت بسرعة وراح بوارو يحدثني بما سمعه في التليفون وانا ارتدي ملابسي فقال:
– وجدت جثة فتاة شابة على شاطىء مصيف بكسهيل. وعرفت انها لفتاة تدعى بيتي بارنارد واسمها الكامل هو "اليزابيث بارنارد" وكانت تعمل مضيفة في احد المقاهي وتعيش مع والدها في بيت صغير من طابق واحد مبني حديثا ويقول الطبيب الذي فحص الجثة ان الوفاة حدثت فيما بين الحادية عشرة والواحدة صباحا.
فسالته بسرعة وانا اضع الصابون على ذقني:
– وهل ايقن رجال الشرطة ان هذه هي الجريمة التي كنا نتوقع حدوثها؟
– عثروا تحت جثة الفتاة على دليل برادشو للسكة الحديدية.
فقلت وانا ارتعد:
– ان هذا امر رهيب..
– تمالك نفسك يا هاستنغز فانا لا اريد ماساة اخرى في مسكني هذا.
مسحت قطرات الدماء التي انبعثت من جرح في وجهي اثناء الحلاقة وقلت:
– ماذا تنوي ان تفعل؟
– سوف تاتي سيارة الشرطة بعد لحظات لتقلنا إلى مسرح الجريمة.
وفي خلال ربع ساعة كانت سيارة الشرطة السريعة تنطلق بنا خارج مدينة لندن وكان معنا المفتش كروم الذي شهد المؤتمر في اليوم الأسبق والذي عهد اليه بالتحقيق في هذا الحادث وكان كروم يختلف كثيرا عن المفتش جاب فهو اصغر سنا واميل إلى الصمت و إلى الترفع عمن حوله واكثر علما وثقافة وكان يبدو لي شديد الإعجاب بنفسه لاسيما بعد ان نال وسام الكفاءة الممتازة عقب قضائه على عصابة خطف الأطفال قبل ان يتسع نطاق اعمالها والواضح انه كان الشخص المناسب لتولي هذه المهمة الخطرة ولكن عيبه الوحيد انه كان يدرك هذه الحقيقة فيزهو في اعماق نفسه ويعامل الذين حوله كانهم اطفال صغار قال لبوارو بلهجة الرئيس المترفع الذي يتحدث إلى انسان بسيط:
– تحدثت طويلا مع الدكتور ثومبسون وهو كما نعرف شديد الإهتمام بهذا النوع من الجريمة "المسلسلة" او " الجريمة التي ترتكب على حلقات " ويعتبرها نموذجا على الإضطراب العقلي الذي يتميز بطابع معين وقد افاض الدكتور في شرح نظريته طويلا وضرب المثل عليها بآخر قضية عن القضايا التي كانت في عهدتي ولعلك قرات عنها انها قضية مابل هومر الطالبة في مدرسة مازويل هل..
ثم راح يفيض في الحديث عن هذه الجريمة الغامضة التي استطاع ان يكتشف غموضها ويقبض على مرتبها في اسرع وقت وبعد ان سادت بيننا فترة من الصمت قال كروم عندما تجاوزنا محطة نيوكروسي:
– اذا اردت ان تستفسر عن شيء عن هذه الجريمة فيمكنك ان تسالني.
– هل وصلتكم بعض التفاصيل عن شكل الفتاة؟ وعن بعض ظروفها الإجتماعية؟
– كانت في الثالثة والعشرين من عمرها وتعمل في مقهى جنجركات.
– ترى هل كانت جميلة؟
فرفع كروم حاجبيه ثم قال في اقتضاب:
– هذا ما لم نعرفه بعد.
وارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي بوارو وهو يقول:
– اترى ان هذا لا اهمية له حسنا انني ارى ان لجمال الفتاة في مثل هذه الظروف الأهمية الأولى.
ويبدو ان المفتش كروم قرر ان يضع للمحادثة نهاية اذ قال ببرود:
– آه نعم..
وظل الصمت مخيما حتى بلغنا بلدة سيفن اوك عندما قال بوارو:
– هل عرفت على نحو ما كيف خنقت الفتاة وباي شيء؟
فاجاب كروم بايجاز:
– خنقت بحزامها.. وهو حزام ثوبها الذي كانت ترتديه..حزام مفتول متين معقود.
فاتسعت عينا بوارو وقال:
– آها لقد استطعنا اخيرا ان نعرف شيئا محددا.
– انني لا ارى في هذا ما يدل على شيء معين.
– اعتقد انه يدل على عقلية المجرم الوحشية المضطربة.
وساد الصمت بقية الرحلة…
واستقبلنا في بكسهيل نائب حكمدار سكس المفتش كارتر وكان معه شاب وسيم باسم هو المفتش كيسلي الذي عهد اليه بمعاونة المفتش كروم في مهمته وقال المفتش كارتر:
– اعتقد انك تفضل القيام بتحرياتك الخاصة يا كروم ولهذا ساكتفي بذكر الخطوط العامة للجريمة لكي اترك لك الحرية البحث والتحقيق على طريقتك الخاصة.
فقال كروم:
– شكرا يا سيدي..
– لقد ابلغنا النبأ إلى و الديها وكانت الصدمة بطبيعة الحال قاسية وقد تركتهما حتى يستردا بعض هدوئهما وعليك ان تبدا بسؤالهم الآن اذا شئت.
وسال بوارو:
– هل هناك افراد آخرون يهمهم الأمر في محيط اسرتها؟
– ان لها اختا تعمل على الآلة الكاتبة في لندن وهناك شاب يقال انه خطيبها وانها كانت على موعد معه للخروج بالأمس.
وسال كروم قائلا:
– هل استطعتم ان تجدوا شيئا جديدا من دليل السكة الحديدية الذي وجد تحت الجثة؟
فاشار نائب الحكمدار إلى منضدة في غرفته وقال:
– انه على هذه المنضدة ولم نجد عليه اية اثار لبصمات اصابع وهو دليل جديد.. وقد وجدناه مفتوحا على الصفحة التي فيها اسم بكسهيل ويبدو ان المجرم اشتراه من مكان بعيد عن هنا لأننا سالنا جميع اصحاب المكتبات الموجودة في المنطقة.
– ومن الذي اكتشف الجثة يا سيدي؟
– ضابط متقاعد برتبة الكولونيل وقد اعتاد الخروج مبكرا في السادسة صباح كل يوم مصطحبا كلبه لإستنشاق الهواء النقي وبينما هو يسير على الشاطىء في اتجاه البلاج كورين انطلق كلبه فجاة وراح يشتم شيئا على الشاطىء فلما تبعه صاحبه شاهد الجثة فاسرع ـ دون ان يلمس شيئا ـ لإبلاغ الشرطة بالأمر.
– وتحدد وقت الوفاة بمنتصف الليلة الماضية.
– نعم فيما بين الحادية عشرة والنصف والواحدة صباحا..وهذا مؤكد ويبدو ان مجرمنا المجنون مصر على ان يكون عن وعده. وهكذا ارتكب جريمته في اللحظات الأولى من اليوم الخامس والعشرين كما وعد.
فاوما كروم براسه وقال:
– نعم.. هذه عقلية مختلفة قطعا.. ليس ثمة تفاصيل اخرى؟ الم ير احد شيئا قد يفيد التحقيق؟
– لا شيء حتى الآن ولكننا ما زلنا في ساعة مبكرة واكبر ظني ان كل واحد شاهد امس شخصا يسير مع فتاة في ثوب ابيض سوف ياتي ويدلي الينا باقواله واعتقد ان عدد الفتيات ذوات الملابس البيضاء اللآتي سرن امس مع رجال او شبان لا يقل عن خمسمائة وعلى هذا سيكون عدد الشهود ضخما.
فقال كروم:
– حسنا يا سيدي يحسن ان ابدا عملي الآن وهناك بيت الفتاة والمقهى الذي كانت تعمل فيه وساذهب إلى الاثنين بادئا بالمقهى.
وتساءل نائب الحكمدار قائلا وهو يلتفت إلى بوارو:
فقال هذا وهو ينحني براسه للمفتش كروم:
– يسرني ان اذهب معه.
ولاح لي ان كروم لم يعجبه هذا.. اما المفتش الشاب كيسلي الذي لم يكن راى بوارو من قبل
فقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة.
وقال كروم:
– وماذا عن الحزام الذي كان اداة القتل ان المسيو بوارو يعتقد ان له دلالة كبيرة ولا شك انه يريد ان يراه.
فقال بوارو بسرعة:
– لا.. لا.. يبدو انك اخطات فهم ما اقصد.
وقال المفتش كارتر:
– انك لن تستطيع ان تجد في هذا الحزام ما يفيد التحقيق انه ليس حزاما من الجلد الذي قد تكون عليه بصمات اصابع وانما هو حزام من الحرير المفتول الذي يصلح تماما لمثل هذا الغرض.
وارتعدت مرة اخرى بينما قال كروم:
– حسنا هلم إلى العمل.
– وبدانا اولا بزيارة مقهى جنجركات الذي يقع في مواجهة البحر وكان من المقاهي النموذجية الصغيرة التي تكثر في المصايف حيث يشرب فيها الرواد القهوة والشاي والمرطبات او يتناولون بعض الوجبات الخفيفة وكان بعض الرواد المبكرين قد جلسوا إلى موائدهم يشربون قهوة الصباح ومن ثم اسرعت مديرته وادخلتنا إلى غرفة خاصة لا تلفت إلينا الأنظار وقال لها المفتش كروم متسائلا:
– المس ماريون!
فقالت المديرة بصوت ناعم يشوبه الحزن:
– أجل هذا هو اسمي ان ما حدث أمر رهيب مزعج اخشى ان يكون له اثر سيء على العمل هنا.
وكانت المس ماريون سيدة في نحو الأربعين من عمرها نحيفة جدا وفي حالة اضطراب عصبي تدل عليه حركات اصابعها التي كانت تنقبض وتنبسط بلا توقف وقال لها المفتش كيسلي مشجعا:
– بالعكس يا مس ماريون ان ما حدث سيدفع الكثيرين إلى الحضور إلى هذا المقهى بالذات بدافع الفضول.
– آه هذا محتمل ولكنه شيء منفر مزعج انه يدل على قسوة الطبيعة البشرية.
ولكن وميض السرور بالرواج المنتظر كان واضحا في عينيها.. وسالها المفتش كروم قائلا:
– ماذا يمكن ان تحديثيني به عن المجني عليها يا مس ماريون؟
– لا شيء.. لا شيء اطلاقا.
– منذ متى وهي تعمل هنا؟
– منذ الصيف راضية عن عملها؟
– نعم كانت مضيفة بارعة وسريعة في تقديم الطلبات.
وسالها بوارو قائلا:
– وهل كانت جميلة؟
ورمقت المس ماريون بوارو بنظرة وكأن لسان حالها يقول يا لوقاحتكم ايها الأجانب ثم قالت:
– كانت وسيمة لطيفة الشكل.
وسالها كروم قائلا:
– متى انصرفت من عملها في الليلة الماضية؟
– في الساعة الثامنة مساء اننا نغلق المقهى في مثل هذا الوقت لأننا لا نقدم وجبة العشاء لأحد.
– ألم تذكر لك كيف كانت تنوي ان تقضي سهرتها؟
فقالت المس ماريون بلهجة تاكيد:
– طبعا لا ان علاقتنا الخاصة لم تصل إلى هذا الحد.
– ألم يحضر احد للخروج معها او للسؤال عنها؟
– لا..
– هل كانت في حالتها الطبيعية؟ أعني الم يبد عليها اضطراب او انفعالات نفسية معينة؟
فقالت المس ماريون في حذر:
– انني لا اعرف على وجه التحديد.
– كم عدد المضيفات العاملات في هذا المقهى؟
– اثنتان بصفة دائمة واثنتان بصفة احتياطية ابتداءا من اليوم العشرين من يوليو حتى آخر أغسطس.
– وهل كانت بيتي بارنارد مضيفة احتياطية؟
– لا بل كانت مضيفة اصلية.
– وماذا عن الأخرى؟
– أتعني المس هيلي؟ انها فتاة لطيفة.
– هل كانت هي وبيتي بارنارد صديقتين؟
– هذا ما لا أجزم به.
– هل يمكننا اذن ان نتحدث مع المس هيلي؟
– الآن؟
– اذا امكن.
فنهضت المس ماريون قائلة:
– سابعث بها اليكم وارجو الا تحجزها طويلا لأن رواد المقهى يكثرون في هذه الساعة.
وبعد لحظات اقبلت فتاة ممتلئة الجسم سوداء الشعر متوهجة الوجه بالإنفعالات لاهثة الأنفاس وهي تقول:
– لقد ارسلتني المس ماريون.
– انت المس هيلي؟
– نعم.انا!
– أكنت تعرفين بيتي بارنارد؟
– أوه طبعا اليس ما حدث لها رهيبا؟ اني لا اكاد اصدق ما حدث لا اكاد اصدق ان بيتي التي كانت امس متوقدة بالحياة تصبح اليوم جثة هامدة.. اني في حلم مزعج..
وسالها المفتش كروم قائلا:
– هل كانت علاقتك بها متوطدة؟
– كانت اقدم مني في العمل لأني بدات عملي في مارس الماضي ورايي عنها انها كانت فتاة هادئة لطيفة لا تميل إلى الضحك والمزاح هذا لا يعني انها كانت ثقيلة الظل او باردة العواطف وانما اقصد ان اقول انها كانت متحفظة في علاقاتها مع زميلاتها هنا.
وبعد حديث طويل فهمنا من المس هيلي انها لم تكن صديقة للمجني عليها وانها أي ـ بيتي بارنارد ـ كانت تتبادل الحب مع شاب يشتغل كاتبا في مؤسسة لتأجير المساكن والمنازل المفروشة بالقرب من المحطة وان الشاب وسيم وتتمناه كل فتاة وبعد انصرافها تحدثنا مع المضيفتين الإحتياطيتين ولكننا لم نخرج من حديثنا معهما بشيء جديد.
***
كان والدا بيتي بارنارد يعيشان في فيللا صغيرة بين خمسين مسكنا مشابها لها مشيدة في ضاحية المصيف وكان الوالد ـ المستر بارنارد ـ رجلا كبير الجسم حائر السمات في نحو الخامسة والخمسين من عمره ويلوح انه رآنا مقبلين فوقف ينتظرنا عند مدخل مسكنه.
وقال بعد ان حيانا عند هبوطنا من السيارة:
– تفضلوا بالدخول ايها السادة.
واخذ المفتش كيسلي يقدمنا اليه الواحد بعد الآخر حتى اذا علم الوالد ان المفتش كروم من رجال اسكوتلانديار قال بحماس:
– هذا شيء طيب جدا.. نعم يجب ان تبذل اسكوتلانديار جهدها للقضاء على ذلك المجنون الذي قتل طفلتي.
واختلج وجهه بالألم الممض فلم يتم عبارته وفي غرفة الإستقبال قال:
– لا ادري هل ستستطيع زوجتي المسكينة ان تحضر لإستقبالكم او لا؟ فالواقع ان الصدمة هدت كيانها.
ولكن زوجته استطاعت بعد فترة وجيزة ان تحضر وهي تحاول جاهدة ان تسيطر على نفسها فلم تستأنف البكاء وكانت عيناها متورمتان تدلان على كثرة الدموع الحارة التي ذرفتها طيلة الليل قال زوجها وهو يربت على كتفها ويهيء لها مقعدا تجلس عليه:
– لقد كان نائب الحكمدار شفوقا بنا.. ابى ان يسالنا عن شيء بعد ان بلغنا النبأ ولا شك انه اراد ان يتركنا بضع ساعات نسترد فيها بعض هدوئنا.
وغمغمت المسز بارنارد بصوت كله الدموع:
– انه لأمر فظيع.. انها قسوة مريرة.. قسوة ليس لها مثيل.
وقال المفتش كروم:
– ان الأمر فظيع حقا يا سيدتي ولهذا ارجو ان نعرف كل ما يمكن من الحقائق حتى نقبض على القاتل في اسرع وقت.
وأومأ المستر بارنارد موافقا بينما اردف كروم قائلا:
– كانت بيتي تقيم معكما هنا كما فهمت وكانت تشتغل مضيفة في مقهى جنجركات؟
– أجل..
– وبيتكم هذا جديد.. اليس كذلك؟.. اين كنتم تقيمون من قبل؟
– كنت اعمل في تجارة الحديد بمدينة كنجتون واعتزلت العمل منذ عامين.. وكنت ارجو دائما ان اقضي بقية عمري في بيت على شاطىء البحر.
– ان لك ابنتين؟
– أجل.. الكبرى تعمل في مكتب بلندن.
– ألم تنزعج حينما تأخرت ابنتك عن الحضور امس؟
فقالت المسز بارنارد بصوتها الباكي:
– الوالد وانا ننام عادة في ساعة مبكرة ننام في الساعة التاسعة مساء ولهذا لم نعرف ان بيتي تأخرت في الحضور الا بعد ان جاء رجال الشرطة.
وتهدج صوت الأم وتوقفت عن اتمام الحديث فقال كروم:
– هل كان من عادة ابنتك ان.. تتأخر في العودة إلى البيت؟
فقال الوالد:
– انت تعرف كيف تتصرف الفتيات في هذا الزمن يا سيدي المفتش.. انهن يرفضن القيود ويتمادين في التحرر من رقابة الآباء.. ولكن بيتي بوجه عام كانت لا تتأخر عن الحادية عشرة مساء.
– وكيف كانت تدخل البيت؟ هل هناك من يفتح لها الباب؟
– لا..كنا نضع لها المفتاح تحت مشاية الباب.
– يقولون ان ابنتك.. مخطوبة لشاب؟
– انها لم تكن مخطوبة رسميا ولكن علاقتها به كانت مقدمة للخطبة وهو يدعى دونالد فريزر.. شاب لطيف مستقيم ولا شك انه سيحزن اشد الحزن..
– انه يعمل كاتبا في مؤسسة لتأجير المنازل؟
– أجل.. مؤسسة كورت وبرنسكيل.
– هل كان معتادا ان يلتقي بابنتك كل ليلة بعد ان يفرغا من العمل؟
– لا.. ليس كل ليلة.. مرة او مرتين في الأسبوع فقط.
– الم تعرف ما اذا كانت تنوي مقابلته الليلة الماضية ام لا؟
– انها لم تقل لنا شيئا عن هذا.. ولم تكن بيتي تكثر الحديث عن شؤونها الخاصة معنا او مع غيرنا ولكنها كانت فتاة طيبة مستقيمة.. أوه انني لا اصدق لا اصدق.
– تمالك نفسك يا مستر بارنارد.
– انني اتمنى لو استطيع ان اضحي بحياتي لأعاونكم في القبض على ذلك المجرم لقد كانت بيتي فتاة مرحة ضاحكة مقبلة على الحياة كالطائر الغريد ولا اذكر انها اساءت إلى احد او ارتكبت شيئا تستحق اللوم عليه انها لا تستحق هذه الميتة لست ادري لماذا قتلها ذلك المجرم المجهول لا ادري اطلاقا..
فقال كروم مواسيا:
– تاكد يا مستر بارنارد اننا لن نستريح حتى نضع ايدينا على ذلك المجرم والآن احب ان القي نظرة على غرفة بيتي الخاصة اذ ربما نجد بين اوراقها او رسائلها ما ينير لنا السبيل.
فنهض المستر بارنارد وقال:
– تفضلوا معي..
ومضى وقبل الوصول إلى غرفة بيتي وقفت لإحكام رباط حذائي وعندئذ سمعت سيارة مأجورة تقف امام باب المسكن فنظرت من النافذة فرايت فتاة في نحو الخامسة والعشرين تقفز منها وما كادت تراني حتى تسمرت في مكانها وتمتمت قائلة:
– من انت؟
وهبطت الدرجات القليلة التي تفصلنا وانا في حيرة من امري.. اذ لم اكن ادري هل اذكر لها اسمي او اكتفي بالقول باني من رجال الشرطة واراحتني هي بقولها:
– آه..استطيع ان استنتج من انت؟
ورفعت قبعتها البيضاء الصغيرة وامعنت النظر إلى وجهها الذي لم يكن بالغ الجمال وان لم يخل من الجاذبية وقلت لها:
– انك المس بارنارد..اليس كذلك؟
– اجل ميجان بارنارد..انك من رجال الشرطة اليس كذلك؟
– الواقع انني..
فقاطعتني قائلة:
– لا اظن ان لدي ما اقوله لك فقد كانت اختي فتاة طيبة مستقيمة ليس لها اي اتصال بالرجال..طاب صباحك.
وارسلت ضحكة قصيرة تنم عن التحدي واردفت قائلة:
– ان هذه هي العبارات التقليدية التي تقال في مثل هذه المناسبة.. اليس كذلك؟
– انني لست مندوبا صحفيا اذ كان هذا ما ظننت.
فتلفتت حولها وقالت:
– حسنا من انت اذن؟ اين ابي وامي؟
– ان اباك مع رجال المباحث في غرفة اختك الخاصة.
وارتسم التردد على وجه الفتاة برهة ثم اذا هي تقول فجأة:
– تعل معي.
وتبعتها إلى غرفة صغيرة بجوار المطبخ وفيما انا احاول اغلاق الباب اذا بوارو ينفلت داخلا وراءه وهو يقول منحنيا للفتاة:
– المس بارنارد كما اظن؟
وقلت لها انا:
– هذا هو المستر هركيول بوارو المخبر السري الخاص.
وقالت الفتاة:
– سمعت عنك الكثير يا سيدي.. يقولون انك بارع في الكشف عن الجرائم المعقدة التي يعجز رجال اسكوتلانديار عن حلها.
– انهم يبالغون يا آنستي..
وجلست الفتاة على حافة مائدة في وسط الغرفة وتناولت من علبة سجائرها واحدة وضعتها في جانب فمها واشعلتها ثم قالت وهي ترسل سحائب الدخان من شفتيها:
– انني لا افهم لماذا يهتم المسيو بوارو بجريمة عادية كهذه؟
فقال بوارو:
– ان الذي لاتفهمينه يا آنستي والذي لا افهمه انا قد يملئ مجلدات ضخمة ولكن هناك اشياء يمكن ان يفهمها كل انسان.
– مثل ماذا؟
– مثل الموت الذي يجعل الأحياء لا يتحدثون عن الموتى الا بالخير مع ان هذا قد لا يكون من الصدق في شيء.. لقد سمعتك الآن مثلا وانت تقولين لصديقي الكابتن هاستنغز ان اختك كانت فتاة طيبة مستقيمة ليس لها علاقات بالرجال وقد ادركت من نبرات صوتك انك تريدين ان تقولي عكس ذلك وسواء كنت مصيبا في هذا الإدراك او مخطئا فالمهم اني اريد ان اتحدث مع شخص يعرف كل شيء عن بيتي ويذكر كل ما يعرفه بلا مجاملة او مراوغة حتى نستطيع ان نحدد موقفنا من هذه الجريمة وصمتت الفتاة برهة كانت خلالها تحملق في وجه بوارو..وفجأة قالت:
– كانت بيتي فتاة حمقاء متهورة.
وانحنى بوارو للفتاة في اعجاب وقال:
– انني احيي فيك هذه الصراحة يا مس بارنارد وقد صدق حدسي بانك فتاة لاينقصها الذكاء.
– كنت احب بيتي كل الحب ولكن هذا الحب لم يكن يحجب عن عيني الحقيقة وهي انها كانت غبية متهورة لا تعرف ما يضرها وما ينفعها وكثيرا ما قلت لها هذا في بعض المناسبات وهذا ما تفعله الأخوات عادة.
– وهل كانت تهتم بملاحظاتك ونصائحك؟
– لا اظن.
– ارجو ان تكون اجاباك محددة يا آنستي.
فترددت الفتاة برهة ثم قالت اخيرا:
– لم تكن بيتي ابدا شريرة بطبعها او منحلة الأخلاق واحب ان تتاكد من هذه الحقيقة تماما.. انها لم تكن من النوع الذي يقضي نهاية الأسبوع مع اي رجل يدفع الثمن لا مطلقا.. كل ما في الأمر انها كانت فتاة لعوبا في براءة تحب ان تخرج مع الشبان إلى النزهات و إلى دور السينما وان تسمعهم وهم يرددون عبارات الغزل لها.. هذا هو كل ما في الأمر.
– هل كانت جميلة؟
وعندئذ تناولت ميجان من حقيبة يدها صورة صغيرة وقدمتها الينا وقد راينا في الصورة وجها باسما لفتاة لا تستطيع ان تقول بانه جميل وقال بوارو وهو يعيد الصورة لميجان:
– انها كبيرة الشبه بك..
– لا..كانت اجمل مني.
– حسنا.. وكيف كانت علاقتها بالشاب دونالد فريزر؟
– كانت تبادله الحب ولكنه كان يحبها بجنون بينما كانت هي تحبه باعتدال.. وكثيرا ما كنت اخشى ان ينفض يديه منها يأسا بسبب تصرفاتها التي طالما اثارت المنازعات بينهما هذا كل ما لدي من اقوال طاب يومكما.
ولكن بوارو اسرع يقول لها قبل ان تنصرف:
– مهلا يا آنستي.. ان الجريمة التي ذهبت اختك ضحيتها ليست من الجرائم البسيطة التي تحدث كل يوم انها اخطر من هذا بكثير ومن ثم ارجوك ان تتريثي قليلا وتزيدي من تعاونك معنا..
ثم راح يسرد عليها ما حدث في اندوفر ودليل السكة الحديدية برادشو الذي وجدت نسخة منه في مسرح الجريمة الأولى ثم في مسرح الجريمة الثانية وقرأ عليها الرسالتين اللتين تلقاهما من المجرم المجهول فلما فرغ نظرت الفتاة اليه في دهشة بالغة وقالت:
– هل حقا هذا كله يا سيدي؟
– نعم..
– اتعني ان تقول ان قاتل اختي رجل مجنون تطغى عليه شهوة سفك الدماء؟
– تماما..
– أوه بيتي.. بيتي.. يا للمسكينة اذن لم يكن لها ذنب فيما حدث لها؟
– ان في مقدورك الآن يا آنستي ان تحدثينا بكل ما تعلمين حتى تستطيع ان نقدم هذا القاتل المجنون إلى العدالة.
– نعم..نعم..هذا ما ينبغي.
– اذن لنصل حديثنا الذي انقطع لقد فهمت ان دونالد فريزر كان ناقما على تصرفات اختك وان المنازعات كانت تكثر بينهما بسبب غيرته الشديدة عليها.
فقالت ميجان بارنارد بهدوء:
– سوف اضع ثقتي فيك يا مسيو بوارو وارجو ألا تخبر احدا بما ساقوله لك عن اختي والواقع ان دونالد من الشبان الهادئين الذين يتحملون كثيرا ولكنهم يختزنون الإساءات ويكبتون المشاعر ثم ينفجرون بعنف شديد وهذا ما كان يحدث مع اختي كان شديد الغيرة عليها وكان يحبها بعنف ولكن بيتي لم تكن تحبه بمثل هذا العنف..كانت تحبه حقا ولكنها لم تكن من النوع الذي يكتفي بحب شخص واحد فلا ترى غيره في الدنيا.
– نعم انها لم تكن من هذا النوع وان كانت تحب الوسامة والجمال في كل شاب تتعرف اليه وتقضي معه فترة من الوقت في نزهة او سينما وكانت بحكم عملها في المقهى طبعا كثيرة التعرف بالشبان والرجال لا سيما في موسم الإصطياف وأؤكد لك ان الأمر لم يكن يزيد بينهما وبين اي شاب او رجل عن الخروج معه في نزهة قد تستغرق اليوم كله او الذهاب في صحبته إلى دار سينما وبمعنى آخر انها لم تكن جادة في علاقاتها باي شخص آخر غير دونالد وكثيرا ما كانت تقول لي انها سوف تتزوجه في النهاية وتستقر معه في حياة زوجية سعيدة بعد ان اشبعت نفسها باللهو والمرح.
وتوقفت ميجان برهة عن الحديث فقال بوارو:
– انني افهم تماما هذا الوضع يا مس بارنارد.. استمري..
– ولكن دونالد فريزر لم يكن يفهم هذا الوضع.. وانما يفهم انه كان عليها ان تحبه كما يحبها تماما.. بنفس القوة والإخلاص والتفاني وقد ادى هذا الإختلاف في فهم الحب إلى المنازعات الشديدة بينهما.
– متى كانت آخر هذه المنازعات؟
– منذ شهر تقريبا..كنت قد عدت من عملي في نهاية الأسبوع عندما علمت انهما تشاجرا بعنف حتى لقد فرغت بيتي من دونالد ولكنني صالحتهما واسرفت في تعنيف بيتي وحاولت ان ابين لها خطأ ذلك التمادي في العبث واللهو مع الشبان الآخرين وقد اكدت لي بدورها انها تحب دونالد وان كل علاقاتها بغيره مجرد صداقة عابرة بريئة وتسلية لا ضير فيها وكانت قد تعودت بعد منازعة شديدة سابقة..ان تكذب عليه احيانا خوفا من اثارته وكان مبدؤها ان الذي لا يعرفه العقل لايحزن القلب وقد حدثت هذه المنازعة الأخيرة لأن بيتي قالت له انها ستذهب لقضاء يوم في بلدة هاستنج مع صديقة لها ولكن دونالد اكتشف انها ذهبت إلى بلدة ايستبورن مع صديق.. وعلم ان هذا الصديق متزوج وانه كان يخرج مع بيتي سرا وهذا ما اثاره واخرجه عن طوره وقد احتجت بيتي على غضبه قائلة انهما لم يتزوجا بعد وان من حقها ان تخرج مع من تشاء وقد ضاعف هذا من ثورة دونالد حتى كان يرتعد ويصيح قائلا:
– انه سيضطر ذات يوم إلى.. وإلى…
– إلى ماذا يا مس بارنارد؟
فقالت بصوت خافت:
– إلى ارتكاب جريمة.
– وهذا ما يجعلك خائفة من الحديث في هذا الموضوع؟
– انني لم اكن اظن انه جاد في تهديده اطلاقا.. ولا اعتقد لحظة انه هو القاتل ولكنني كنت اخشى ان اتحدث بهذا كله فالفت اليه انظار رجال المباحث لا سيما وان عددا كبيرا من الناس قد سمعوه وهو يقول هذا.
فقال بوارو:
– لولا غرور المجرم المجهول الذي يبدو في وضعه لدليل السكة الحديدية كل مرة مع الجثة لتركزت الشبهات على دونالد فريزر فعلا.
وفي تلك اللحظة صلصل جرس الباب الخارجي فاطلت ميجان براسها خلسة من النافذة ثم عادت تقول:
– انه دونالد..
فقال لها بوارو:
– دعيه ياتي الينا اولا قبل ان يراه اصدقائي المفتشين.
وانفلتت ميجان حيث غابت لحظة ثم عادت ومعها الشاب دونالد فريزر.

***

الفصل السابع
الرسالة الثالثة
و أحسست بالعطف على الشاب حين رايته مقبلا مع ميجان.. ذلك ان وجهه الشاحب المرهق كان ينم عما يصطرع في اعماق نفسه من آلام واحزان كان وسيما رياضي الجسم يكاد يبلغ طوله ستة اقدام بارز الوجنتين له شعر احمر كألسنة اللهب وكان يقول لميجان وهو مقبل معها:
– ما هذا يا ميجان؟ لماذا تدخيليني هنا؟ لقد سمعت الآن فقط ان بيتي..
وتهدج صوته ثم ترنح في وقفته.. فقدم بوارو اليه مقعدا تهالك عليه ثم تناول ـ اي بوارو ـ من جيبه الخلفي زجاجة براندي صغيرة سكب منها قيلا في كأس قدمها إلى دونالد قائلا:
– اشرب هذا يا مستر فريزر انه يفيدك الآن.
واطاع الشاب الأمر فظهر اثر الشراب سريعا فأعاد الدماء إلى وجهه فهدأ بعض الشيء وجلس منتصبا في مقعده وهو يقول في اضطراب:
– هل حقا ما سمعت؟ هل ماتت بيتي مقتولة؟
– نعم يا دونالد..
فقال بلهجة آلية:
– وهل جئت من لندن فورا يا ميجان؟
– نعم..لأن ابي اتصل بي تلفونيا.
– في قطار التاسعة والنصف على ما اظن؟
– نعم..
وبعد برهة صمت عاد يقول:
– وهل يقوم رجال المباحث بتحرياتهم الآن؟
– انهم في الطابق الأعلى الآن.. في غرفة بيتي.
– انهم لايعرفون من؟ ليست لديهم اية فكرة عن؟
ثم توقف عن الحديث فجأة وقد عاد وجهه إلى الإمتقاع وهنا تقدم بوارو منه قليلا وقال له:
– ألم تخبرك بيتي اين كانت تنوي الذهاب ليلة امس؟
– قالت انها ستذهب مع صديقة لها إلى بلدة سانت ليونارد.
– وهل صدقتها؟
فهتف دونالد بحرارة:
– ماذا تعني بحق الشيطان؟
واربد وجهه بانفعالات عنيفة جعلتني اؤمن ان بيتي كانت على صواب في تجنبها اثارة غضبه.. وقال بوارو:
– ان سفاك دماء مجنونا قتل بيتي.. ولكي نصل إلى الحقيقة يجب ان نلتزم الصراحة التامة في احاديثنا.
وهنا قالت ميجان:
– أجل يا دونالد ليس هذا وقت العواطف يجب ان تذكر كل ما تعرفه في هذا الشأن.
ونظر دونالد بارتياب إلى بوارو وقال:
– من انت؟ انك لست من رجال المباحث العامة؟
فقال بوارو ببساطة توحي بانه يؤمن تماما بما يقول:
– انني خير منهم.
وقالت ميجان:
– صارحة بكل شيء يا دونالد.
فهدأت ثائرة دونالد وقال ببساطة:
– انني غير واثق من شيء كنت قد صدقتها حين قالت لي هذا ولكنني بدأت أتساءل
فيما بعد بدأت ارتاب..
– لماذا؟
– انني اشعر بالخجل الآن من ش في امرها وايا كان الأمر فقد ذهبت إلى شاطىء البحر لأرقبها وهي تنصرف من المقهى ولكنني تراجعت خشية ان تراني بيتي فتعتقد فورا انني اراقبها.
– اذن ماذا فعلت؟
– ذهبت إلى سان ليونارد حيث بلغتها في الثامنة مساء ثم شرعت اراقب جميع السيارات العامة الآتية من بكسهيل آملا ان اراها وهي تهبط مع صديقتها من احداها.. ولكنني لم ارها!
– ثم ماذا؟
– غضبت جدا وايقنت انها.. انها مع رجل آخر وان من المحتمل ان يكون قد صحبها في سيارته إلى مدينة هاستنغز وذهبت الى هذه المدينة ورحت اتطلع إلى فنادقها ومشاربها ومطاعمها واحوم حول مداخل دور السينما فيها ثم مضيت إلى البلاج وكانت كلها تصرفات حمقاء لأنها حتى لو كانت بهذه البلدة لما امكن ان اعثر عليها بمثل هذه البساطة هذا فضلا عن وجود مصايف اخرى كثيرة جدا على طول الشاطىء.
وصمت برهة ريثما تهدأ نفسه الثائرة وعاد يقول:
– ويئست أخيرا من لقائها فعدت..
– في اي وقت؟
– لا ادري.. لقد عدت ماشيا.. ولا شك ان الليل كان قد انتصف حين بلغت مسكني.
– ثم؟
وهنا فتح باب المطبخ ودخل المفتش كيسلي قائلا:
– أهذا انت هنا؟
وشق المفتش كروم طريقه بسرعة والقى نظرة سريعة على ميجان ودونالد وعندئذ قدمهما بوارو اليه قائلا:
– المس ميجان بارنارد والمستر دونالد فريزر.
ثم قال للشاب والفتاة موضحا:
– وهذا المفتش كروم من اسكوتلانديار.
واستدار نحو المفتش واردف قائلا:
كنت اثناء تحرياتك في الطابق العلوي اتحدث مع المس ميجان والمستر دونالد آملا ان اجد شيئا يلقي بعض الضوء على الجريمة.
فقال كروم وهو مشغول الفكر بالشاب والفتاة:
– آه حسنا.
وتراجع بوارو إلى الصالة واسرعت وراءه حيث قلت له:
– هل وصلت إلى شيء؟
– عرفت فقط يا هاستنغز ان القاتل على جانب كبير من الإعتزاز بالنفس
ولم اجد الشجاعة الكافية لأقول له انني لم افهم شيئا وعقدنا مؤتمرا آخر من سلسلة المؤتمرات التي عقدناها لبحث موضوع ذلك القاتل " ا.ب.س" كان هذا المؤتمر الأخير خاصا بتقرير ما اذا كان ينبغي او لا ينبغي ان نعلن على الراي العام موضوع الرسائل التي بعث بها المجرم المجهول إلى بوارو..
ذلك ان جريمة بكسهيل كان لها اثر كبير في الراي العام لأنها اولا وقعت في مصيف مزدحم بالمصيفين ولأن الضحية فيها كانت هذه المرة فتاة شابة على جانب من الجمال وبعد مناقشات طويلة اتفقنا على ان المجرم المجهول يعاني نوعا من جنون العظمة وانه لم يرتكب هذه الجرائم ويرسل إلى بوارو هذه الرسائل إلا سعيا وراء الشهرة التي ترضي غروره المكبوت.. وانتهينا اخيرا إلى قرار مؤداه ان ننتظر..فاذا ارسل إلى بوارو رسالة ثالثة يحدد فيها المكان والزمان اللذين سيرتكب فيهما جريمته الثالثة اعلنا على الناس جميعا عن طريق جميع الصحف والإذاعة كل شيء عنه حتى يأخذ الجميع حذرهم ويصبح من العسير عليه تنفيذ جريمته كما يمكن الإيقاع به اذا هو حاول تنفيذها.
وانني لأتذكر بوضوح وصول الرسالة الثالثة التي كتبها ذلك المجرم المجهول الذي يرمز لنفسه بالأحرف الهجائية الثلاثة "ا.ب.س" ولست بحاجة لأن أذكر ان رجال المباحث اتخذوا جميع الإحتياطات والإجراءات اللازمة لمواجهة ذلك المجرم عقب وصول رسالته الثالثة مباشرة ومن بين هذه الإجراءات ان عهد إلى جاويش شاب من رجال المباحث بالبقاء في مسكن بوارو عند غيابنا عنه ليكون حاضرا عند وصول الرسالة فيستطيع ومن ثم الإتصال بادارة اسكوتلانديار دون اي تأخير وازدادت اعصابنا توترا مع مرور الأيام ورفض بوارو ان يغادر لندن رغم الجو الخانق الذي كان يسودها في تلك الفترة وقد لاحظت ان بوارو كان يعاني من قلق نفسي لإحساسه بان المجرم المجهول يتحداه شخصيا وان بعض الأبرياء سوف يدفعون ثمن التحدي اذا لم يقع المجرم في ايدي العدالة قبل ان يضيف إلى جريمتيه السابقتين جرائم اخرى وكان يوم الجمعة هو اليوم الذي وصلت فيه الرسالة الثالثة وقد جاءت الساعة العشرة مساء فما ان سمعت طرقات ساعي البريد المعهودة حتى وثبت مسرعا وهرعت إلى صندوق بريد بوارو الخاص حيث وجدت فيه اربع او خمس رسائل وكانت بينها رسالة مكتوبة على الآلة الكاتبة تماما كسابقتيها وهتفت قائلا وانا انطلق بها إلى بوارو:
– بوارو.. لقد وصلت الرسالة.
فصاح قائلا:
– افتحها.. افتحها يا هاستنغز بسرعة اننا في حاجة إلى كل لحظة لنتخذ الإجراءات اللازمة.
وفضضت الرسالة بسرعة ورحت اقرأها بصوت مسموع:
" ايها المسكين المسيو بوارو هل ادركت الآن انك لست بارعا في القبض على المجرمين وفي الكشف عن الجرائم الغامضة كما كنت تظن؟ يبدو ان الشيخوخة قد ركبتك. حسنا لنرى ماذا يمكن ان تفعل هذه المرة سأجعل الأمر سهلا جدا موعدنا في اليوم الثلاثين من هذا الشهر وفي بلدة سيرستون حاول ان تفعل شيئا فانني بدات اشعر بالتفاهة وانا اجول في الميدان بمفردي أرجو لك التوفيق"
صديقك أ.ب.س
– سيرستون ترى اين تقع؟
وسمعت بوارو يقول بانفعال:
– هاستنغز متى كتب هذا الخطاب؟ هل عليه تاريخ الإرسال؟
فنظرت إلى الرسالة في يدي وقلت:
– أجل..انها تحمل تاريخ اليوم السابع والعشرين.
– وهل حدد موعد جريمته الثالثة باليوم الثلاثين؟
– أجل.
– يا الهي هل نسيت اننا في اليوم الثلاثين فعلا.
ونظرت إلى نتيجة الحائط ثم قلت:
– عجبا ولكن ما معنى؟
واختطف بوارو المظروف من يدي وقرأ العنوان المكتوب عليه:
" المسيو هركيول بوارو عمارات هوايت هورس" ثم قرا ملاحظات موظفي البريد
المكتوبة في اركان المظروف " غير موجود في عمارات هوايت هورس" ويجري البحث
عنه في "عمارات هوايت هورس كورات" ثم يعاد البحث عنه في "عمارات هوايت هافن ".
وكان بوارو يقيم في مسكن بعمارات هوايت هافن وغمغم بوارو قائلا في انزعاج:
– يا للسماء هل الأقدار تساعد هذا المجرم فتجعله يكتب العنوان خطأ لكي تأتي الرسالة متاخرة عن موعدها ثلاثة ايام؟ اسرع اسرع يجب ان نتصل باسكوتلانديار فورا وبعد لحظة كان بوارو يتصل تلفونيا بالمفتش كروم الذي ما كاد يعرف ما حدث حتى كتم مجموعة من السباب واللعنات التي تزاحمت بين شفتيه ثم قال لبوارو انه سيتصل فورا ببلدة سيرستون ووضع بوارو المسماع ثم قال وهو ينظر في ساعته:
– الساعة الآن العاشرة والثلث.. اي لا يزال على منتصف الليل ساعة واربعون دقيقة.. ترى هل نستطيع ان نصل إلى سيرستون قبل منتصف الليل؟ وهل ذلك المجرم المجنون لم يرتكب جريمته بعد؟
وفتحت دليل السكة الحديدية وقلت وانا اقرا فيه:
– بلدة سيرستون على البحر باقليم ديفون.. تبعد عن بادنجتون بمائتين اميال وثلاثة ارباع الميل عدد سكانها 656 نسمة..انها محدودة السكان جدا ولابد ان اي شخص غريب يدخلها سيلاحظه السكان فيها.
– ان هذا لن يمنع وقوع جريمة قتل اخرى.. ماهي مواعيد القطارات المارة بها؟
– اعتقد ان القطار في هذه الحالة اسرع من السيارة.
– هناك قطار منتصف الليل به مركبة نوم يصل في الساعة السادسة وثماني دقائق إلى نيوتن وفي الساعة السابعة والربع صباحا إلى سيرستون.
– ومن محطة بادنجتون؟
– أجل.
– لسوف نركب هذا القطار يا هاستنغز.
– قبل ان نعرف ماذا حدث؟
– وما جدوى معرفتنا؟
وفيما كان بوارو يتصل تلفونيا مرة اخرى باسكوتلانديار اسرعت انا بوضع بعض الحاجيات الضرورية في حقيبة السفر.. ولما عاد بوارو قال ان بعض رجال اسكوتلانديار سيلتقون بنا على رصيف المحطة وانه يحسن بنا ان نأخذ معنا الرسالة الثالثة ليطلعوا عليها وكان المفتش كروم اول من رايناه في انتظارنا على رصيف المحطة وقد قال مجيبا على نظرة بوارو المتسائلة:
– لا..لم تصلنا اية انباء بعد ان رجالنا قد حذروا بالتليفون جميع الأشخاص الذين تبدأ أسماؤهم بالحرف "س" في تلك البلدة لاتزال الفرصة سانحة امامنا. اين الرسالة؟
وبعد ان فحصها صفر منزعجا وهو يقول:
– يا لسوء الحظ ان النجوم في سمائها تساعد هذا اللعين ضدنا.
فقلت متسائلا:
– ألا يمكن ان يكون قد تعمد هذا الخطأ؟
فهز كروم راسه وقال:
– لا انه حريص على التزام المبادىء وهذا النوع من الجنون يجعل صاحبه شديد التشبت بالفكرة المسيطرة عليه ومادام قد قرر ان يتحدى شخصا معينا فانه لا يلجأ إلى المراوغة والخداع واستطيع ان اراهن انه يشرب ويسكي هوايت هورس.
فأومأ بوارو براسه وقال:
– هذه لمحة بارعة يا مستر كروم.. لعل الزجاجة كانت امامه وهو يكتب العنوان وكثيرا ما تكتب اليد ما تراه العين على غير وعي من الإنسان.
ورفت ابتسامة خفيفة على شفتي كروم وقال:
– إذا اسعدنا الحظ ولم يحدث شيء حتى الآن في سيرستون فلا شك ان المجرم موجود بها الآن..
انه لن يغادرها حتى يحقق مأربه لأنه سيعز عليه كثيرا الفشل وفيما كان القطار يتحرك من المحطة لمحنا احد رجال المباحث يسرع نحونا ثم ينقر على النافذة المقصورة التي جلسنا فيها فأسرع كروم وفتحها قائلا:
– ماذا؟ هل وصلت اليكم انباء ما؟
ولم نسمع ما قاله الرجل ولكن وجه كروم كان شديد التجهم وهو يلتفت الينا قائلا:
– لقد عثروا على السير سيرميكال كلارك مقتولا بضربة قاضية على مؤخرة راسه.
وكنا جميعا نعرف السير سيرميكال كلارك أخصائي امراض العيون الذي لم يكن مشهورا جدا بين الطبقات الشعبية وكان قد تقاعد عن العمل بعد بلوغه سن الستين وذلك ليتفرغ لهوايته الخاصة وهي جمع التحف الخزفية الثمينة المصنوعة في الصين لا سيما القديم منها وكان بعد تقاعده قد ورث عن عمه ثروة طائلة اتاحت له فرصة الحصول على الشيء الكثير من هذه التحف من مختلف المزادات العالمية وكان متزوجا ولكنه لم ينجب الأطفال وكان يعيش في منزل خاص على شاطىء في اقليم ديفون ولا يذهب إلى لندن إلا نادرا وكان من الواضح ان مقتله سوف يثير في الراي العام وفي الصحافة بوجه خاص ضجة كبيرة لم يحدث لها مثيل منذ اعوام ولا سيما وقد وقعت الجريمة في شهر أغسطس حيث يكون معظم الناس متلهفين على ما يشغل اذهانهم وقال بوارو:
– آه.. من يدري لعل هذه الضجة سوف تؤدي الغرض الذي لم تستطع جهودنا ان تؤديه فلا شك ان الناس جميعا سوف يهبون للبحث عن ذلك المجرم المجهول "ا.ب.س".
فقلت آسفا:
– ان هذا ما يريده فعلا.
– نعم.. ولكن النجاح مسكر ولا شك ان شعوره بالزهو سوف يدفعه إلى ارتكاب بعض الأخطاء التي توقع به في النهاية.
وبعد برهة من الصمت اردف بوارو قائلا:
– اننا حتى اليوم نحارب في الظلام.. لانعرف شيئا محددا عن ذلك المجرم المجهول بل اننا لا نعرف إلا تخمينا الدوافع التي تدفعه إلى ارتكاب هذه الجرائم وانه لمن أسوأ الأمور ان يقتل الإنسان اشخاصا غرباء عنه بلا اي اسباب او مبررات.
فقلت وانا ارتعد:
– ألا يكفي ان يكون الجنون مبررا معقولا؟
– نعم إلى حد ما وهذا موضع الخطر.
وبعد برهة صمت قلت في شيء من الحزم:
– أيا كانت الأحوال فمن واجبنا ان نبذل كل ما يمكن من جهود حتى نضع حدا لهذه الجرائم البشعة.
– طبعا طبعا..علينا ان ننام الآن لأن هناك اعمالا كثيرة في انتظارنا غدا.

***

الفصل الثامن
السير سيرميكال كلارك

تقع بلدة سيرستون بين مصيف بريكسهام من جهة وبانتون وتوركاي من جهة اخرى وتقوم في موضع على منتصف انحناءة خليج تورباي من الجهة اليمنى وكانت قبل عشر سنوات مجرد ملعب للجولف او على الأصح ساحة لملاعب الجولف في تلك المنطقة وتمتد وراء الملاعب ارض خضراء تصل إلى شاطىء البحر دون ان يكون بها غير بيت ريفي او بيتين إلا انها في السنوات الأخيرة نمت وزحف العمران عليها واقيمت بها المنازل والشوارع والفيللات المتناثرة على الشاطىء وكان السير سيرميكال كلارك قد اشترى قطعة ارض تشرف على البحر من ربوة عالية واقام فيها منزلا على الطراز الحديث يحتوي على مسكن خاص لصحبه وجناحين يحتويان على مجموعات التحف الثمينة التي يهوى السير سيرميكال جمعها وقد وصلنا إلى ذلك المكان في الساعة الثامنة صباحا حيث وجدنا احد رجال الشرطة
المحليين في استقبالنا على المحطة وهو زودنا بالمعلومات الأولى عن الحادث علمنا ان السير سيرميكال كلارك كان قد اعتاد ان يقوم بجولة على قدميه بعد العشاء كل ليلة ولما اتصل رجال الشرطة بمنزله تلفونيا ليحذروه وكان ذلك بعد الحادية عشر ة مساء علموا انه لم يعد بعد من جولته ولما كان خط سيره معروفا فان البحث عنه لم يستغرق فترة طويلة اذ ما لبث ان عثر رجال الشرطة على جثته في مكان ما من الطريق الذي اعتاد ان يتجول فيه وكانت الوفاة قد نتجت عن ضربة عنيفة اصابت مؤخرة الراس وبجانب الجثة وجدوا دليل " ا.ب.س " للسكة الحديدة موضوعا في وضع مقلوب.
ووصلنا إلى البيت في نحو الثامنة وعشر دقائق حيث فتح لنا الباب خادم تشريفاتي عجوز كان الحزن الشديد واضحا على وجهه وقد حياه رجل الشرطة المحلي بقوله:
– طاب صباحك يا ديفريل.
– طاب صباحك يا مستر يلز.
– هؤلاء هم السادة الوافدون من لندن.
– تفضلوا من هذا الطريق ايها السادة.
ومضى امامنا عبر قاعة كبيرة للطعام كان على مائدة فيها صفحة عليها وجبة افطار كاملة ثم قال:
– لسوف استدعي المستر فرانكلين.
وبعد لحظات أقبل رجل كبير الجسم أشقر الشعر ملوح الوجه من وهج الشمس وكان هذا كما علمنا المستر فرانكلين كلارك شقيق المتوفي وكان يبدو عليه من تصرفاته الثابثة انه رجل اعتاد ان يواجه مثل هذه المواقف العصبية بثبات قال لنا:
– طاب صباحكم ايها السادة.
وقام المستر ويلز رجل الشرطة المحلي بعملية التقديم فقال:
– المفتش كروم من إدارة المباحث العامة المسيو هيركيول بوارو الكابتن هاينز.
فصححت له اسمي بسرعة قائلا ببرود:
– هاستنغز.
وصافحنا فرانكلين كلارك كلا منا على حدة وهو يزودنا بنظرات حادة نافذة ثم قال:
– اسمحوا لي ان اقدم طعام الإفطار.
ووافقنا جميعا وسرعان ما جلسنا إلى مائدة حافلة بالبيض القلي والسجق والجبن والزبد والمربى والشاي وبعد ان ارضينا بطوننا قال فرانكلين كلارك:
– إلى العمل الآن.. لسوف يقدم اليكم المفتش ويلز فكرة عامة عن الحادث الذي جرى بالأمس اما من ناحيتي فاني لا أكاد اصدق ذلك الحديث عن المجرم المجهول الذي يسمي نفسه "ا.ب.س" هل تريد مني يا سيدي المفتش كروم ان اصدق ان اخي مات قتيلا بيد مجرم ارتكب جريمتين قبل ذلك وانه يختار ضحاياه حسب الترتيب الهجائي لأسمائهم؟ وانه يضع بجانب كل ضحية دليل "ا.ب.س." للسكة الحديدة؟!
فقال المفتش كروم:
– هذه هي الحقيقة بقدر ما نعرف حتى الآن يا مستر كلارك.
– ولكن لماذا؟ ماهي الفائدة التي يمكن ان تعود من مثل هذه الجرائم حتى على اشد الناس جنونا؟
فأومأ بوارو براسه موافقا وقال:
– احسنت التعبير يا مستر كلارك.. هذا هو السؤال الذي يحيرنا جميعا.
قال المفتش كروم:
– لاجدوى الآن من البحث عن دوافع الجريمة يا مستر كلارك هذه مهمة علماء النفس وان كنت شخصيا اعرف ان الجرائم التي يرتكبها المجانين ليس ضروري ان يكون لها دوافع معقولة.. فمثلا هناك دوافع الرغبة عند البعض في اثباث وجودهم امام الناس وفي اثارة ضجة ضخمة حول اسمائهم او ان يصبحوا مشهورين باية وسيلة بدلا من بقائهم نكرات.
فقال المستر كلارك في شيء من الإرتياب وهو يوجه الحديث إلى بوارو:
– أحقا هذا يا مسيو بوارو؟
فأجاب صديقي قائلا:
– نعم..للأسف الشديد.
ففكر المستر كلارك برهة ثم قال:
– ان مثل هذا الرجل على كل حال لن يستطيع ان يبقى بعيدا عن ايديكم مدة طويلة.
– نعم نعم ولكن هذا النوع من الناس يكون عادة على مكر شديد ودهاء بالغ واحساس عميق بالحقد على المجتمع.. انه واحد من الذين يعيشون في الحياة نكرات لا يحس بهم احد ولا يهتم بأمرهم مخلوق.
وتدخل كروم في الحديث قائلا للمستر كلارك:
– أتسمح يا مستر كلارك وتذكر لي بعض ما تعرفه من حقائق عن ظروف اخيك وتجيب على بعض ما ساوجهه اليك من اسئلة؟
– طبعا..طبعا..
هل كان اخوك في حالة صحية ومعنوية طبيعية امس؟ ألم يستلم رسائل غير منتظرة؟ ألم يحدث ما اشاع الإضطراب في نفسه؟
– لا.. استطيع ان اقول انه كان في حالة طبيعية من جميع الوجوه.
– ألم يكن هناك ما يثير قلقه واضطرابه؟
– إن القلق والإضطراب يا سيدي المفتش من الحالات الطبيعية التي كان يعيش فيها اخي بصفة دائمة.
– لماذا؟
– لعلك لا تعرف ان زوجته الليدي كلارك في حالة صحية مؤلمة ويمكن القول فيما بيننا انها تاعني من سرطان لا يرجى شفاؤه ولاينتظر ان تعيش طويلا وكانت حالتها الصحية هذه تثير الألم في نفس اخي دائما.. وانا نفسي فوجئت بالتغيير الكبير الذي طرأ عليه عندما عدت من الشرق الأقصى بعد غيبة طويلة وتدخل بوارو في الحديث قائلا:
– لنفرض ان اخاك وجد قتيلا بطلق ناري في سفح تل او جانب طريق وان المسدس كان بجانبه فماذا يكون رايك في هذه الحالة؟
فقال كلارك:
– كنت اعتقد فورا انه انتحر.
وهنا قال المفتش كلارك وهو يلوي شفتيه قليلا:
– ان هذا الحادث ليس انتحارا على كل حال.. والآن يا مستر كلارك هل كان اخوك معتادا على القيام بجولة على قدميه كل ليلة؟
– أجل..
– كل ليلة بلا انقطاع؟
– أجل فيما عدا الليالي الممطرة طبعا.
– وهل جميع المقيمين في البيت معك يعرفون عنه هذه العادة؟
– طبعا.
– وفي الخارج؟
– انني لا افهم ماذا تعني بذلك.. ربما كان البستاني يعرف هذه العادة عنه ولكنني شخصيا غير واثق.
– وسكان البلدة؟
– على وجه الدقة ليس لدينا بلدة بالمعنى المفهوم..كل ما في الأمر ان لدينا مكتب بريد وبضعة بيوت صغيرة وبضعة شوارع قليلة ولكن ليس ثمة محلات ولا منافع عامة يمكن ان تتكون منها بلدة.
– في هذه الحالة يمكن بسهولة ان يثير الإنتباه اي غريب يدخل هذه المنطقة ويتجول فيها؟
– على العكس.. فان هذه المنطقة في شهر أغسطس تكون عادة مزدحمة بمختلف انواع الأشخاص الغرباء.. انهم يفدون من بريكسهام وتوركاي وبايتون في السيارت والحافلات وعلى الأقدام.
ثم اشار بيده إلى الجهة اليمنى من الشاطىء واردف قائلا:
– ان هذه الشواطىء الرملية المسماة " بروساند" و"لبري كاف" تعتبر من المناطق التي تستهوي الكثير من المصيفين ليقضوا فيها عطلة نهاية الأسبوع ولشد ما اتمنى لو انهم لا يأتون فانك لا تدري إلى اي حد من الجمال تكون عليه هذه المناطق في يونيو وفي اوئل يوليو.
– اذن فأنت ترى ان وجود غريب في هذه الناحية لا يثير انتباه احد.
– أجل.. إلا إذا كان شاذ التصرفات مخبولا او مجنونا مثلا.
فقال المفتش كروم بلهجة التأكيد:
– ان ذلك المجرم لا يبدو مجنونا او شاذ التصرفات امام الناس واعتقد انه جاء اولا لإستكشاف هذه المنطقة ورسم خطته لإرتكاب الجريمة ومعرفة عادة السير سيرميكال كلارك في التمشي كل ليلة وبهذه المناسبة ألم يأت رجل غريب امس ليسأل عن السير كلارك؟
– لا أعرف على وجه اليقين.. ولكن يمكننا ان نسأل ديفريل.
ورن الجرس فأتى الخادم التشريفاتي ووجه اليه ذلك السؤال فقال الخادم مجيبا:
– لا يا سيدي لم يحضر أحد لمقابلة السير كلارك ولم ألاحظ وجود شخص غريب بالقرب من القصر وكذلك الخادمات لم يرين شيئا لأني سألتهن.
وانتظر الخادم لحظة قبل ان يسأل قائلا:
– هل هذا كل شيء؟
– أجل يا ديفريل.. يمكنك ان تنصرف.
وانسحب ديفريل إلى الباب حيث افسح الطريق لفتاة شابة كانت داخلة ونهض فرانكلين كلارك عند دخولها وقال يقدمها:
– هذه هي المس جراي ايها السادة سكرتيرة اخي.
ولفت انتباهي فورا بياض بشرتها الناصع الذي يشبه بياض سكان الدول الإسكندنافية وكان شعرها ذهبيا فاتح اللون جدا كشعور معظم النساء النرويجيات والسويديات وكذلك كانت عيناها خضراوين فاتحتين ولبشرتها ذلك الصفاء المتألق الذي يبلغ حد الشفافية والذي يمتاز به سكان المناطق الشمالية من اوروبا بوجه عام ومن ناحية السن كانت تبدو في السابعة والعشرين كما لاح انها على كفاية ممتازة بجانب جمالها الملفت للنظر قالت وهي تتخذ مجلسها:
– هل استطيع ان اقدم اليكم مساعدة او خدمة؟
وعرض فرانكلين كلارك عليها مراسلات السير سيرميكال؟
– أجل..كلها.
– أعتقد انه لم يستلم رسالة او اكثر موقعة بالحروف " أ.ب.س".
– "أ.ب.س"؟ لا. انني واثقة تماما بانه لم يستلم رسالة موقعة بمثل هذه الأحرف.
– ألم يذكر في معرض حديثه ذات مرة انه راى شخصا يتسكع في طريق جولته المسائية؟
– لا.. لم يذكر قط شيئا من هذا القبيل.
– وانت ألم تلاحظي وجود احد الأشخاص الغرباء بالقرب من القصر في الأيام الأخيرة؟
– رايت كثيرا من الغرباء يمرون بالقرب من القصر فمن المعتاد ان يكثر وفود بعض المصيفين في هذه المنطقة.
وطلب المفتش كروم ان يذهب إلى المنطقة التي اعتاد السير سيرميكال ان يتمشى فيها كل ليلة فمضى فرانكلين امامنا وخرجنا من باب الشرفة ومعنا المس جراي وكنت هي وانا في المؤخرة ومن ثم قلت لها على انفراد:
– لا شك ان ما حدث كان صدمة عنيفة لكم جميعا؟
– انني أكاد لا اصدق ما حدث. لقد آويت إلى فراشي امس وما كدت استغرق في النوم حتى رن رجال الشرطة الجرس الباب الخارجي وسمعت وقع اقدام تجري هابطة فنهضت لأرى ماذا حدث وقد رايت ديفريل والمستر كلارك يحملان المصابيح للمضي إلى الخارج.
– ما هو الوقت الذي اعتاد فيه السير كلارك ان يعود فيه من جولته المسائية؟
– في العاشرة الا ربعا كالمعتاد.. وكانت عادته ان يدخل بمفرده من باب جانبي حيث يمضي إلى فراشه احيانا فورا وفي احيان اخرى يقصد إلى احد الجناحين الذين يضمان تحفة ثمينة ولولا ان رجال الشرطة اتصلوا هاتفيا ليسألوا عنه لما اكتشف احد غيابه إلا في صباح هذا اليوم.
– لا شك ان الحادث كان صدمة رهيبة لزوجته المسكينة؟
– ان الليدي كلارك تكاد تعيش في شبه غيبوبة بسبب المورفين واعتقد انها في حالة لا تكاد تسمح لها بمعرفة ما يجري تماما.
وكنا عندئذ قد خرجنا من باب الحديقة الكبيرة إلى ساحة الغولف وبعد ان اجتزنا ركن الساحة اخذنا نهبط في حارة ملتوية شديدة الإنحدار وقال فرانكلين كلارك وهو يشير إلى نهاية الحارة:
– انها تؤدي إلى شاطىء "البري كاف" ولكن البلدية أنشأت منذ عامين طريقا فرعيا يمتد من الطريق العام ويؤدي إلى شاطىء "برود ساندر" ومنه إلى "البري كاف" ولهذا السبب قلما يستعمل احد هذه الحارة للمرور.
وسرنا في الحارة حتى راينا في نهايتها ممرا يؤدي إلى شاطىء البحر وبعد ان سرنا فيه بين جوانب صخرية ورملية وعرة وجدنا انفسنا نشرف من مرتفع صخري على البحر وعلى الشاطىء الرملي المرصع بالأحجار البيضاء وكانت الأشجار تحيط بالمنطقة كلها وتصل إلى حافة الماء وعلى الجملة كان المنظر ساحرا بألوانه الطبيعية التي جمعت في مكان واحد بين خضرة الشجر وصفرة الرمال وبياض الصخور وزرقة الماء وهتفت قائلا رغما عني ما أجمل هذا؟
واستدار فرانكلين كلارك نحوي بلهفة وقال:
– اليس المنظر جميلا فعلا؟ انني لا ادري لماذا يترك الناس مثل هذه المناطق الساحرة ويذهبون إلى الريفيرا لقد جبت معظم انحاء العالم في مختلف مراحل عمري واشهد امام الله انني لم اجد منطقة اجمل منظرا من هذه.
وكأنما تذكر الموقف ورهبته فخجل من نفسه وعاد إلى الحديث الجاد الرزين وقال:
– هذا هو الطريق الذي كان يتمشى فيه اخي كل مساء انه كان يأتي إلى هذه البقعة حيث يستريح قليلا ثم يعود من نفس الممر ولكنه بدلا من ان ينحرف في نهايته شمالا إلى الحارة ينحرف في نهايته يمينا فيسير في بعض الحقول حتى يعود إلى القصر.
وأومأ كروم براسه وعدنا من الطريق الذي اعتاد السير سيرميكال كلارك ان يعود منه حتى وصلنا إلى نقطة في منتصف المسافة الباقية على الوصول إلى القصر وفي جانب من احد الحقول حيث عثر رجال الشرطة على جثة المجني عليه وأومأ كروم براسه قائلا:
– كان الأمر سهلا جدا.. لقد تربص القاتل المجهول لأخيك وراء هذه الشجرة ثم فجأه من الخلف.
وارتعدت الفتاة التي كانت واقفة بجانبي وقال فرانكلين كلارك:
– تمالكي نفسك يا تورا.. ان الموقف عصيب فعلا.. ولكن لا جدوى من الإنهيار العصبي.
– تورا جراي؟ انه اسم مناسب للفتاة.
وعدنا إلى البيت حيث علمنا ان الجثة رحلت منه بعد ان تم تصويرها وفيما نحن نصعد السلم الواسع رايت الطبيب يخرج من احدى الغرف وفي يده حقيبته السوداء فسأله كلارك قائلا:
– هل لديك ما تقوله لنا يا دكتور؟
فهز الدكتور راسه وقال:
– الحالة واضحة وسوف احتفظ بالتفصيلات لجلسة التحقيق ولكنني أؤكد ان المجني عليه لم يتعذب لحظة.. فقد كان الموت مباغتا سريعا.
ثم اردف قائلا:
– لسوف أصعد لأرى الليدي كلارك.
وأقبلت ممرضة مستشفى من نهاية الدهليز فمضى الطبيب إليها وصحبها..ودخلنا الغرفة التي رايت الطبيب يخرج منها ولكنني لم ألبث ان خرجت منها مسرعا حيث وجدت تورا جراي واقفة على راس السلم وقد ارتسمت على وجهها امارات عجيبة فقلت لها متسائلا:
– مس جراي؟ هل حدث شيء؟
فحملقت في وجهي برهة ثم قالت بانفاس لاهثة:
– انني افكر في الحرف "د".
فنظرت إليها ببلاهة وقلت:
– الحرف "د".
– نعم الجريمة التالية لابد ان تفعلوا شيئا لابد ان تحولوا دون وقوعها بأي ثمن.
واقبل فرانكلين كلارك من الغرفة وقال:
– ماذا بك يا تورا؟ ماهذا الذي تقولينه؟
– أقول يجب وقف هذه الجرائم بأي ثمن.
فقال وهو يعض على نواجذه:
– نعم طبعا انني اريد ان أتحدث مع المسيو بوارو عن.. عن..
ثم ارسل العبارة التالية على غير انتظار:
– عن المفتش كروم.. هل هو كفء للقيام بهذا العبء؟
فقلت له:
– ان المعروف عنه انه من أكفأ رجال إدارة المباحث العامة.
فصمت كلارك برهة ثم قال:
– ان لدي خطة تؤدي إلى الإيقاع بذلك المجرم المجهول يا مسيو بوارو ولكننا سنتحدث عن هذا في وقت آخر و الآن سأذهب لأرى الليدي كلارك.
ونظرت إلى المس جراي فلما رايت امارات التفكير العميق مرتسمة على جبينها قلت لها بعد تردد بسيط:
– فيم تفكرين يا مس جراي؟
– انني اتساءل اين هو الآن.. ذلك القاتل لقد مضت إثنا عشرة ساعة منذ وقوع الجريمة الثالثة اليس ثمة ساحر يمكن ان يقول لنا اين هو الآن؟ وماذا يفعل؟
– ان رجال الشرطة يعملون..
وافاقت تورا جراي من ذهولها على كلماتي العادية ثم أومأت براسها وقالت:
– أجل..طبعا.
وفيما هي تهبط درجات السلم رحت اردد في ذهني كلماتها:
"ترى اين هو الآن؟ وماذا يفعل؟"

***
غادر المستر الكسندر بونابرت سوست مسرح توركاي مع الخارجين بعد ان استمتع بمشاهدة الفيلم العاطفي جدا.."ليس عصفورا" ورمش بعينيه في شمس ما بعد الظهيرة وتلفت حوله كعادته دائما او على الأصح كما يفعل الكلب الضال في الحياة وغمغم لنفسه " انها لفكرة.."
وانطلق باعة الصحف حوله يصيحون "آخر طبعة..مجرم مجنون في بلدة سيرستون " وكانوا يحملون لافتات مكتوبا عليها بالخط العريض "جريمة سيرستون آخر طبعة" ودس المستر سوست يده في جيبه فوجد قرشا اشترى به نسخة من احدى الصحف المسائية ولكنه لم يتصفحها فورا ومضى إلى حدائق "البرنس جاردنز" حيث سار في بطء وتمهل إلى مقعد يواجه مينا توركاي فجلس عليه وفتح الصحيفة حيث واجهته العناوين الرئيسية بهذه الأنباء"مصرع السير سيرميكال كلارك"، " مأساة رهيبة في بلدة سيرستون " "المجرم المجهول مجنون رهيب" وتحت هذا كله قرأ ما يلي "روعت البلاد منذ شهر واحد بمصرع الفتاة الشابة الحسناء بيتي بارنارد في مصيف بكسهيل ولعلنا نذكر انه وجد بجانب الجثة دليل "ا.ب.س" للسكة الحديدية وكذلك عثر رجال المباحث على دليل من هذا النوع بجانب جثة السير سيرميكال كلارك ومن ثم يرى رجال المباحث ان مرتكب الجريمتين مجرم واحد فهل يمكن ان يكون ثمة مجرم مجنون يعبث فسادا في مصايفنا"
وغمغم الشاب في قميص ملون وبنطلون رمادي كان جالسا بالقرب من المستر سوست قائلا:
– شيء مزعج.
وجفل المستر سوست في جزع ولكنه تمالك نفسه وقال:
– آه..أجل.. أجل..
ولاحظ الشاب ان يدي الرجل الكهل الجالس بجانبه ترتعدان بحيث كان عاجزا عن امساك الصحيفة بهما فقال له:
– ان الإنسان لا يستطيع ان يواجه مجرما مجنونا كهذا بالطرق المألوفة.. وأعجب من هذا ان الواحد منهم لا تبدو عليه مظاهر الجنون في اغلب الأحوال.
– اعتقد هذا..
– ويلوح ان الحرب هي المسؤولة عن كثرة هذه الإصابات العقلية.
– اظن انك.. انك على حق في هذا.
– انني ابغض الحرب..
فالتفت المستر سوست اليه وقال:
– كلنا نكره الأوبئة ومرض النوم والمجاعات والسرطان ولكنها مصائب لابد من وقوعها.
فقال الشاب بلهجة تأكيد:
– ولكن الحروب مصائب من الممكن تلافيها.
وضحك المستر سوست ضحكا عاليا ولمدة طويلة وجزع الشاب بعض الشيء وقال لنفسه "ان الرجل مجنون" ثم قال بصوت مسموع:
– انني آسف يا سيدي.. اعتقد انك اشتركت في الحرب الأخيرة.
– أجل وقد اصابنتني في عقلي ان عقلي لم يعد كما كان ابدا.. ان الصداع يلازمني دائما بشكل لا يحتمل.
– أوه انني آسف لهذا.
– وفي بعض الأحيان أكاد لا اعرف ما افعله من فرط الألم..
فقال الشاب وهو ينهض مسرعا:
– أحقا؟ آه يجب ان امضي الآن فاني على موعد.
وبقي المستر سوست في مكانه واخذ الناس يسيرون امامه ذهابا وجيئة وكان معظمهم يتحدثون عن الجريمة وطوى المستر سوست صحيفته ودسها في جيبه ونهض في طريق العودة إلى المدينة وراى في طريقه فتيات كثيرات جميلات ضاحكات يغازلن بالنظرات والإبتسامات الشبان والرجال الذين يمرون بهن في الطريق ولكن لم تفكر واحدة منهن في ان تلقي مجرد نظرة واحدة على المستر سوست.

***

الفصل التاسع
بوارو يلقي حديثا

بينما كانت الصحف تمعن في الإثارة عن المجرم المجهول وتحذر الناس منه وتكتب بالخط العريض "انه قد يكون بجانبك الآن" كان بوارو من جانبه قد قرر ان يعقد اجتماعا مع اقرب الناس إلى الضحايا الثلاث ليتحدث اليهم وليحاول ان يعتصر منهم كل ما يمكن ان يكون مختزنا في عقولهم وكان الذين ارسل يدعوهم إلى الحضور هم:
ماري دراور ابنة أخت المسز آسكر وميجان بارنارد ودونالد فريزر وتورا جراي وفرانكلين كلارك وفي اليوم المحدد للإجتماع وصل المستر كلارك اولا وقبل الموعد بنصف ساعة بناء على رغبة بوارو وقد قال بعد ان تبادلنا معه التحية واستقر في مجلسه:
– انني يا مسيو بوارو غير مطمئن إلى كفاءة المفتش كروم اعتقد ان هذه الجرائم تحتاج إلى عبقرية بوليسية خاصة.. ولولا المشاغل الكثيرة التي ينبغي ان اقوم بها بعد وفاة اخي لخصصت وقتا اطول لكي اضع نفسي تحت امركم ولكي اتعاون معكم على منع وقوع الجريمة الرابعة.
– إذن فأنت ترى ان المجرم سيستمر في ارتكاب جرائمه..
– حسب الترتيب الأبجدي.. ألا ترى انت هذا؟
– بكل تاكيد..
– إذن يجب ان ننظم انفسنا لمقاومته.
– ألديك اقتراح بهذا الشأن؟
– ما دمنا نحن اقارب المجني عليهم سنجتمع الليلة هنا فلماذا لا نكون فيما بين انفسنا " فرقة خاصة" تعاون رجال المباحث في الإيقاع بالمجرم الرهيب؟
– فكرة جيدة.
– يسرني انك موافق عليها.. ولاشك اننا بتعاوننا معا قد نعثر على الرجل الغريب الذي كان يحوم حول مسرح كل جريمة قبل ارتكابها.
– وهل تقترح ان تنضم المس جراي إلى هذه الفرقة رغم انها غير قريبة لأحد المجني عليهم؟
فاضطرم وجه كلارك وقال:
– اعتقد انها ستعاوننا كثيرا لأنها عملت مع اخي سنتين وهي تعرف المناطق المجاورة لمسرح الجريمة الأخيرة معرفة تامة كما تعرف معظم المقيمين فيها بصفة دائمة اما انا فقد كنت غائبا عن البلاد فترة طويلة تبلغ نحو عام ونصف عام.
فقال بوارو بعطف:
– كنت في الشرق..في الصين؟ اليس كذلك؟
– نعم..كنت اشتري لأخي مجموعات التحف الخزفية الثمينة التي تعرض في الأسواق العالمية لاسيما في الصين نفسها.
– حسنا يا مستر كلارك لا شك انت كنت ذا فائدة كبيرة لأخيك الراحل.
وبعد نصف ساعة كنا جميعا نجلس حول المائدة الإجتماع وكانت الفتيات الثلاث يختلفن كل الإختلاف من ناحية المظهر والشكل فتورا جراي الصارخة الجمال الناصعة البياض.. ميجان بارنارد الخمرية ذات الشعر الأسود الأثيث ووجهها الجامد التعبير الشبيه بوجوه الهنود الحمر.. وماري دراور بثوبها الأسود البسيط ووجهها الذي ينم عن البراءة والذكاء اما الرجلان فكان فرانكلين كلارك بجسمه الكبير ووجهه الملوح ولباقته في الحديث يختلف كثيرا عن دونالد فريزر الهادىء الرزين الخجول وبدأ بوارو الحديث قائلا:
– ايها السادة والآنسات انتم تعرفون من اجتماعنا هنا فبرغم ان رجال الشرطة لا يالون جهدا في اداء واجبهم للقبض على ذلك المجرم المجهول إلا انني اعتقد ان اتحادنا نحن اصحاب الشان في هذه الجرائم قد يؤدي إلى كشف بعض الغموض الذي يكتنف هذه الجرائم.
وبعد برهة صمت استطرد يقول:
– اننا الآن امام ثلاث جرائم راح ضحيتها سيدة عجوز وفتاة في ميعة الشباب ورجل كهل وليس يربط بينهم جميعا إلا ان الجاني عليهم رجل واحد وهذا يعني ان هذا الشخص الواحد كان موجودا في اماكن الجرائم الثلاث وليس من شك ايضا في ان هذا الرجل ـ وقد يكون امرأة ـ على جانب كبير من الدهاء رغم اختبال عقله وذلك لأنه استطاع حتى الآن ان يفلت من ايدينا والا يترك وراءه اي اثر يقودنا اليه.
وصمت بوارو برهة اخرى قبل ان يستطرد قائلا:
– إلا ان هناك معالم يمكن ان تحدد الشخصية ذلك المجرم المجهول ويمكن ان توضح بعض الغموض الذي يكتنف الموقف فمثلا انه لم يذهب إلى بكسهيل في منتصف الليل ليجد امامه فتاة يبدأ اسمها بالحرف "ب" على الشاطىء جاهزة للقتل..
وهنا قال دونالد فريزر بصوت ينم عن الألم النفسي العميق:
– هل يستلزم الأمر ان ندخل في هذه التفصيلات؟
فقال بوارو مستديرا اليه:
– من الضروري جدا ان نناقش كل صغيرة وكبيرة في هذه الجرائم.. فالموقف لا يحتمل المجاملة او مراعاة العواطف الخاصة كنت اقول ان المصادفة وحدها لم تكن المسؤولة عن التقاء المجرم المجهول بالمس بيتي بارنارد لابد انه كان هناك نوع من التمهيد وحرية الإختيار اي لا بد انه قام بعملية استطلاعية لمسرح الجريمة..كان عليه اولا ان يتأكد من بعض الحقائق وكان عليه ان يحدد افضل وقت يرتكب فيه جريمة اندوفر وان يعرف خير مكان يرتكب فيه جريمة بكسهيل وان يلم بعادات السير سيرميكال كلارك ولهذا اعتقد انكم في مجموعكم تعرفون اشياء في قرارة انفسكم دون ان تدركوا انكم تعرفونها.
ولما ارتسمت امارات الدهشة وعدم الفهم على وجوهنا جميعا ابتسم بوارو وقال:
– ان العقل قد يختزن معلومات غامضة لا تظهر الا بالحديث والمناقشة واذا كان هذا موضوع المناقشة محددا فربما كان في ذهن كل منكم جزء معين بشأن هذا الموضوع والحديث وحده هو الذي يجمع هذه الأجزاء لكي تتضح جميعا في صورة واحدة.
وهنا تمتمت ميجان بارنارد قائلة:
– كلا!.
فلما نظر بوارو إليها متسائلا اردفت قائلة بصوت ينم عن اليأس:
– مجرد كلام نظري لا يعني شيئا.
– ان الكلام يا آنسة هو الثوب الذي يبرز الأفكار.
وقالت ماري دراور:
– اعتقد يا مس بارنارد ان المسيو بوارو على حق.. فليس كالحديث المتبادل بين عدد من الأشخاص في موضوع واحد محكا لإبراز آراء وصور ذهنية وذكريات كانت مختزنة في اعماق الذهن البشري.
فقال كلارك:
– وانا اوافق هذا الراي.
– ما رايك يا مستر فريزر؟
– انني ارتاب في جدوى هذه الطريقة.
– وانت يا مس جراي؟
– اعتقد ان استعراض وجهات النظر بالحديث المتبادل عن موضوع معين لابد ان ياتي بجديد في هذا الموضوع.
وهنا قال بوارو:
– إذن ارجو من كل منكم ان يعتصر ذاكرته كل ما يمكن ان يتذكره قبل وقوع الجريمة ولنبدأ بالمستر كلارك.
فقال المستر كلارك وهو يجمع بيديه ثنايا جيبه:
– ماذا فعلت في صباح اليوم الذي قتل فيه اخي؟ آه.. ذهبت للصيد في زورق شراعي وقد اصطدمت ثماني سمكات كبيرة من نوع " الماكريل" وكان الجو صحوا.. وعدت إلى البيت في موعد الغداء واذكر ان الحساء الإيرلندي كان بين اصناف الطعام ونمت ثم استيقظت وشربت الشاي وكتبت بعض الرسائل وفاتني وضعها في الصندوق في الموعد المناسب فركبت السيارة في بلدة بابيتون لأصدرها وعدت في موعد العشاء واني لا اشعر بالخجل حين اقول انني قرات للمرة الثانية كتاب مغامرات نسبيت الذي كنت مشغوفا به منذ عهد التلمذة ثم رن جرس التلفون.
فقال بوارو مقاطعا:
– لا داعي لأن تذكر ما حدث بعد هذا لأنه لا يهم.. وانما المهم هو ان اتذكر هل رايت احد وانت في طريقك إلى الصيد صباحا.
– كثيرا من الناس.
– هل يمكنك ات تتذكر شيئا عنهم او عن بعضهم؟
– لا شيء الآن.
– هل انت متاكد من هذا؟
– دعني اتذكر ..آه.. اذكر انني رايت سيدة بدينة لفتت نظري بثوب سباحتها الأصفر المخطط وكان معها.. ورايت شابين يلاعبان كلبا صغيرا على البلاج وفتاة ذهبية الشعر كانت تضحك عاليا وهي تسبح عجبا ان بعض الذكريات تطفو فجأة كأنها الصور المتحركة.
– حسنا جدا.. وبعد ذلك.. ألم ترشيئا امام البيت او في الحديقة او عندما خرجت لتصدير رسائلك؟
– رايت في الحديقة البستاني يروي الشجر وكدت اصطدم بصبي يركب دراجة اثناء ذهابي إلى بابيتون وسمعت امرأة تتشاجر بصوت مرتفع مع صديق لها هذا كل ما اتذكر..
والتفت بوارو إلى المس جراي وقال لها:
– وانت يا مس جراي؟
فقالت بصوتها الواضح الرزين:
– فرغت من مراسلات السير سيرميكال في الصباح وتحدثت مع مدبرة البيت في البرنامج اليومي وكتبت بعض الرسائل وانشغلت بعد الظهر ببعض اشغال الإبرة والواقع ان من العسير ان اذكر كل شيء فقد كان اليوم من الأيام الرتيبة العادية واخيرا اويت إلى فراشي في ساعة مبكرة..
– وانت يا مس بارنارد ألا يمكن ان تتذكري ماذا حدث في آخر مرة رايت فيها اختك؟
– رايتها قبل وفاتها بأسبوع وكنت قد عدت إلى البيت لأقضي نهاية الأسبوع يومي السبت والأحد وكان الجو لطيفا فذهبنا إلى مصيف هاستجز حيث سبحنا في بحيرته المشهورة.
– وعن اي شيء كان حديثكما معظم الوقت؟
– عنفتها كثيرا على ميلها إلى اللهو والعبث بلا تحفظ.
– وماذا ايضا؟ عن اي شيء كان حديثها هي؟
– تحدثت عن ضيق ذات يدها وعن قبعة جديدة وفساتين للصيف وعن دونالد قليلا وقالت ايضا انها
لا تحب زميلتها في العمل ميللي هيجلي وضحكنا كثيرا على تصرفات مارون مديرة المقهى ثم لا أتذكر اكثر من هذا.
– معذرة يا مستر فريزر.. ألم تذكر لك مس بارنارد اي شيء عن رجل ما كانت تنوي ان تقابله؟
فقالت ميجان بصوت جاف:
– انها ما كانت لتجرؤ ان تقول لي شيئا من هذا القبيل.
واستدار بوارو إلى دونالد فريزر بشعره الأحمر وقال:
– مستر فريزر.. عندما ذهبت لإنتظار بيتي حتى تخرج من المقهى ألم تشاهد احدا لفت نظرك بصفة خاصة؟
– لا..كان المصيفون كثيرين.
– ألم يلفت نظرك شخص معين منهم؟.. حاول ان تعتصر ذهنك.
فقال الشاب بعناد:
– لم أر غير اشخاص عاديين لم يكن بينهم واحد يلفت النظر.
– وانت يا ماري دراور اعتقد ان خالتك كانت تراسلك.
– أجل سيدي.
– متى آخر رسالة ارسلتها اليك؟
فكرت ماري برهة قبل ان تجيب قائلة:
– قبل وفاتها بيومين.
– وماذا قالت فيها؟
– قالت ان الشيطان العجوز ـ تعني زوجها ـ حاول ان يبتز منها المال زيادة عن المبلغ المتفق عليه ولكنها افزعته وجعلته يهرب عن وجهها وانها كانت تتوقع حضوري إليها يوم الأربعاء يوم عطلتي الأسبوعية لنذهب إلى السينما وكان ذلك يوم عيد ميلادي ايضا يا سيدي.
وطفرت الدموع في عيني ماري ولكنها سرعان ما تمالكت نفسها ثم قالت:
– معذرة يا سيدي.. لقد غلبني الحزن على امري وان بعض الذكريات..
فقال كلارك:
– اني ادرك شعورك يا مس دراور فان بعض الذكريات البسيطة قد يكون لها اكبر الأثر على النفس.. فمثلا انا لا انسى ما حييت منظر سيدة صدمتها سيارة كبيرة فقتلتها وكانت جثتها ملقاة وبجانبها حذاء جديد تناثر من صندوقه لقد خيل الي ان الحذاء يرقد في حزن واسى بجوار السيدة التي ماتت قبل ان ترتديه.
وهنا هتفت ميجان قائلة بشيء من الحماس:
– هذه هي الحقيقة.. نعم هذا ما يحدث حقا لقد حدث نفس الشيء لأختي بيتي ذلك ان امي كانت قد اشترت جوربين لتقدمهم إليها هدية اشترتها في نفس يوم مصرعها وقد رايت امي بعد ذلك وهي تمسك الجوربين وتبكي بحرارة وتقول "اشتريت هذين لبيتي"؟ "اشتريت هذين لبيتي ولكنها لم تراهما"!
وتململ دونالد فريزر في مقعده وبادرت تورا جراي إلى تغيير مجرى الحديث قائلة:
– ألا تفكر في وضع خطة معينة للمستقبل؟
فقال فرانكلين كلارك وقد استعاد حالته الطبيعية:
– طبعا.. طبعا.. فعندما تصل الرسالة الرابعة يجب ان نوحد جهودنا و إلى ان يحدث هذا ارجو ان يحاول كل منا ان يستعيد في ذهنه كل الذكريات عن حياته قبل وقوع كل جريمة مباشرة وما راي المسيو بوارو اخيرا؟
– ان لدي بعض المقترحات.
فأسرع فرانكلين كلارك وتناول من جيبه مفكرة وقلما وقال:
– عظيم جدا.. اذكرها لنا بالترتيب.
– اعتقد ان الجرسونة ميللي هيجلي ربما تعرف شيئا قد يفيدنا في هذا الموضوع.
فقال كلارك وهو يكتب:
– 1ـ ميللي هيجلي..
واقترح طريقتين لإستدراجها إلى الحديث اما ان تثيرها الآنسة ميجان حتى تدفعها إلى الإفضاء بكل ما تعرفه عن بيتي وعندئذ قد نعرف الرجل المجهول الذي قيل انها تنزهت معه مرتين واما ان يقترب المستر فريزر إليها ويتظاهر بمغازلتها ويستدرجها للحديث عن بيتي في هذا الشأن وهنا قال دونالد فريزر:
– هل هذا ضروري؟
– لا ليس ضروريا ولكنه مجرد محاولة.
وعندئذ اسرع فرانكلين كلارك يقول:
– هل أجرب انا هذه الطريقة مع ميللي هيجلي يا مسيو بوارو؟ فان لي وسائلي الخاصة في الحديث الجذاب مع الفتيات..
وقالت تورا جراي بحدة:
– وهل لديك وقت فراغ كاف للقيام بمثل هذه المحاولات؟
فتلاشت الإبتسامة من وجه فرانكلين وهو يقول متراجعا:
– آه.. صدقت يا تورا.. ان اعمالي كثيرة في هذه الأيام..
وقال بوارو:
– أعتقد انه لا يوجد شيء كثير يحتاج إلى اهتمام خاص في البيت يا مستر كلارك وربما كان في مقدور المس جراي ان تحل محلك في القيام..
فقاطعته تورا جراي بقولها:
– ولكني تركت عملي في قصر السير سيرميكال كلارك.
– آه انني لم اعرف هذا.
وقال فرانكلين كلارك:
– من الطبيعي ان تفضل المس جراي البحث عن عمل مناسب في لندن بعد وفاة اخي.
فتنقل بوارو بنظراته الحادة بين الإثنين ثم قال فجأة:
– كيف حال الليدي كلارك؟
واضطرم وجه تورا جراي بينما قال فرانكلين كلارك:
– في اسوأ حال.. وبهذه المناسبة هل يمكنك يا مسيو بوارو ان تذهب لمقابلتها لقد اعربت عن رغبتها في رؤيتك.
– بكل تاكيد يا مستر فرانكلين كلارك.. هل يمكن ان اقوم بزيارتها بعد غد؟
– حسنا.. لسوف اخبر الممرضة بذلك حتى تجعلها في حالة تستطيع معها ان تقابلك.
واستدار بوارو إلى ماري دراور وقال:
– وانت يا مس دراور اعتقد ان في مقدورك ان تقدمي لنا خدمة جليلة اذا ذهبت وتحدثت مع بعض الأطفال من جيران خالتك في اندوفر.
فقالت ماري بدهشة:
– الأطفال؟
– نعم ان الأطفال عادة ينفرون من الغرباء ولكنهم لن ينفروا من الحديث معك ومن المحتمل جدا ان يكون احدهم قد راى شخصا غريبا عن البلدة وهو يذخل دكان خالتك او وهو يحوم حوله.
وقال كلارك:
– وماذا عني وعن المس جراي هذه اذا لم اذهب إلى بكسهيل.
ولما تردد بوارو برهة قال كلارك مستطردا:
– مارايك لو انني نشرت اعلانا في الصحف موجها إلى المجرم المجهول اقول له فيه ان هيركيول بوارو يعرف عنه الكثير وان في مقدوري انقاذه اذا ما دفع مائة جنيه وليكن نص الأعلان هكذا " رسالة عاجلة إلى "ا.ب.س" ان "ه.ب" وراءك، مائة جنيه لسكوتي اتصل ب"ل.م.ن" انها فكرة بدائية ولكنها قد تفيد".
– هذا ممكن جدا.
– ان هذا الإعلان قد يغريه باطلاق النار علي.
فقالت تورا جراي بحدة:
– انها فكرة خطرة وحمقاء.
– ما رايك يا مسيو بوارو؟
فابتسم بوارو وقال:
– اعتقد انه لا ضرر منها ومعذرة يا مستر كلارك فانه يلوح لي انك ما زلت طفلا في اعماق نفسك.
فاضطرم وجه فرانكلين كلارك وقال وهو يكتب في مفكرته:
– حسنا..ان البرنامج الآن هو:
أ ـ المس بارنارد مع المس هيلي.
ب ـ المستر فريزر مع المس هيجلي.
س ـ المس دراور مع أطفال اندوفر.
د ـ الإعلان.
ورغم ان هذا البرنامج كان في رايي لن يؤدي إلى شيء مهم الا انني رايت انه لن يؤدي إلى ضرر في الوقت نفسه.
وبعد لحظات قليلة انفض الإجتماع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.