سورة التفوق الحضاري
سورة النمل تتحدث عن التفوق الحضاري، وأهمية أن يمتلك المسلمون معالم حضارية قوية من العلم والتكنولوجيا والقوة المادية والقوة العسكرية، ليستخدموها في نصرة دين الله تعالى. فهذه السورة تخاطب الذين يفهمون الإسلام على أنه صلاة ركعتين وبكاء العينين وحفظ القرآن فقط… هذه الأشياء – على أهميتها – لا بد أن تقترن بأسباب قيادة الدنيا وإدارة الأرض وفق منهج الله. وليس هذا فحسب، بل إن تفوق المسلمين الحضاري وتقدمهم العلمي والتكنولوجي يفيد في الدعوة ويؤثر في الآخرين أضعاف أضعاف ما يؤثر فيهم كلام شخص عادي أو فاشل في حياته العملية أو راسب في امتحاناته…
هذه السورة تقول لنا باختصار: يا أمة محمد، لن يكون لكم احترام ودور مميز بين الأمم دون أن يكون لكم تميز حضاري، ودون أن تحيطوا بكل علوم عصركم وتبرعوا بها.
وهكذا نرى أن كل سورة توجّه رسالة واضحة للمسلمين لتكمل سور القرآن في عرضها للمنهج الرباني، مما يشعرنا بترابط القرآن وتماسك سوره. فبعد أن كانت رسالة سورة الشعراء: "اهتموا بالإعلام"، أتت سورة النمل لتوجه رسالة مماثلة: "اهتموا بالتفوق الحضاري"، وكلاهما يخدم نفس الهدف: أهمية التفوق والأخذ بالأسباب الدنيوية في تميز المسلمين وتأثيرهم على الآخرين..
المؤسسة الناجحة
وكان رمز التفوق الحضاري في هذه السورة: سيدنا سليمان عليه السلام، ومملكته التي جمعت بين الإيمان والنجاح في الحياة، هذه المؤسسة هي أشبه ما تكون بلغة اليوم: شركة عالمية متعددة الجنسيات، توظف ضمن جهازها الإداري جنسيات مختلفة، من الجن والإنس والطير والنمل والوحوش… فلنتأمل عناصر التفوق الحضاري في مملكة سيدنا سليمان، وكيف أن تفاصيل القصة وجزئياتها تعطينا معنى مهماً وأبعاداً جديدة للتفوق الحضاري والنجاح في الحياة:
1. استشعار قيمة العلم
]وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَـٰنَ عِلْماً…[ (15) فلا تفوق من غير علم، ولا يمكن للطالب المسلم أن يخدم الإسلام إلا إذا كان متفوقاً في مدرسته وجامعته، لأن ذلك من صميم الإسلام.
]وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لله ٱلَّذِى فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ[ (15).
فضلهم بماذا؟ طبعاً بالعلم، ورزقهم ميزة هامة أخرى، وهي الاعتزاز به وإدراك قيمة هذه النعمة وحمد الله عليها. فالأمة التي يغش طلابها في الامتحانات ويكون كل همهم نيل الشهادات لا تدرك قيمة العلم، ولا يمكن لهكذا أمة أن تنهض وتنافس باقي الأمم..
]وَوَرِثَ سُلَيْمَـٰنُ دَاوُودَ[ (16)، حتى لا يقف النجاح عند جيل معين. ولا بد من وجود أجيال ترث النجاح وتحافظ عليه لضمان استمرار التفوق وتراكم الخبرات داخل المؤسسة الواحدة.
3. إتقان اللغات
]… وَقَالَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ…[ (16) وهذه الميزة تتيح التعامل مع الآخرين والتفاعل معهم.
4. توفر الإمكانيات
]… وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْء إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ[ (16).
فأوتيت هذه المملكة الإمكانيات والموارد الطبيعية والبشرية، ولم تقتصر على ذلك بل اجتهدت في الحفاظ على هذه الموارد وتطويرها.
5. حسن الإدارة
]وَحُشِرَ لِسْلَيْمَـٰنَ جُنُودُهُ…[ (17) تخيل هذه المملكة العظيمة، شركة متعددة الجنسيات، أو متعددة الكائنات، فيها الجن والإنس، فيها الطيور والوحوش، فيها من كل المخلوقات ]مِنَ ٱلْجِنّ وَٱلإِنْس وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ[ (17). وكلمة "حشر" هنا تبين عدد الجنود الكبير وتنوعهم. أما التنظيم الدقيق وتوزيع الأعمال فنراه في قوله تعالى ]فَهُمْ يُوزَعُونَ[ (17)، فالكل يؤدي عمله المطلوب منه، الذي هو ضمن اختصاصه وإمكاناته.
6. التدريب
]حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِى ٱلنَّمْلِ…[ (19) ما علاقة هذه الرحلة إلى وادي النمل بسليمان وجنوده وتنظيم مملكتهم؟
إن هذه الشركة تدرب أفرادها، حيث يأخذهم سليمان ليدربهم ويتنقل بهم في الأرض، فكان أن وصفت لنا الآية الكريمة جانباً من تدريبهم، عندما وصلوا خلال جولتهم إلى وادي النمل، وحصل ما هو معلوم من حوار النملة مع قومها: ].. قَالَتْ نَمْلَةٌ يأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَـٰكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـٰنُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ[ (18).
7. الانضباط والحزم
ونتابع مع قصة سليمان، لنلاحظ تنظيم المؤسسة الدقيق والحزم في التعامل مع الأفراد. فخلال كل اجتماع، يتم تفقد الحضور والغياب: ]وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَائِبِينَ & لأُعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَـٰنٍ مُّبِينٍ[ (20-21) فسليمان عليه السلام لم يسأل عن الهدهد فقط بل تفقّده، مما يدل على دقة النظام في المملكة. ومع أن الهدهد جندي صغير ولن يؤثر في قوة الجيش، لكن غيابه يخل بالانضباط وينبغي أن يقابل بالحزم.
8. انتماء الأفراد للرسالة
ويظهر في قصة سليمان انتماء أفراد الشركة وموظفيها للرسالة وشعورهم بقضيتها تماماً كالقائد. فالهدهد طار من فلسطين إلى اليمن ليحضر معلومات عن مملكة تسجد للشمس من دون الله، ليقف أمام الملك دون خجل ويقول له: ]أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ…[ (22) وقد درس الموقف جيداً وأحضر معلومات يقينية ودقيقة: ]… وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ[ (22).
ويتابع الحديث عن المملكة التي رآها:
]إِنّى وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ & وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱلله وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَعْمَـٰلَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ[ (23-24) فهو لم يتصرف كموظف عادي بل أحس أنه مسؤول عن مهمة الشركة وقضيتها وهدفها، إلى أن يقول بكل غيرة وألم: ]أَلاَّ يَسْجُدُواْ لله..[ (25).
ثم يتذكر أنه قال عن الملكة أن لها ]عَرْشٌ عَظِيمٌ[، فيستدرك كلامه ويقول ]ٱلله لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ[ (26).
يا ليت لو أن عندنا في أمة محمد ألف هدهد، في إيجابيته وانتمائه لأمته وشعوره بالمسؤولية تجاهها…
9. الدقة في نقل الأخبار والتحقق منها
وتتابع الآيات لتنقل لنا حوار سليمان الممتع مع الهدهد: ]قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ..[ (27). أي أن الأخبار التي تأتي تؤخذ للتحليل والاختبار، مع أن الهدهد قال لسيدنا سليمان قبل هذا: ]وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ[، لكن لا بد للشركة الناجحة من تصفية المعلومات والتأكد من صحتها قبل أخذ القرار: ]ٱذْهَب بّكِتَابِى هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ..[ (28) فيقوم سيدنا سليمان بتجربة مع هؤلاء القوم… أي علوم هذه؟ وأي تنظيم هذا؟ يا أمة محمد تعلموا من مملكة سليمان كيف يكون النجاح…
الشورى وقود التفوق
وفي الناحية المقابلة، نرى مؤسسة متفوقة أيضاً: مملكة بلقيس. وسبب نجاحها هو استخدام الشورى بين قومها، فهي لا تقوم بأي خطوة قبل أن تشاركهم في أخذ القرار:
]قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَـٰطِعَةً أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ[ (32).
ورغم أن الملكة لم تكن على دين الله تعالى، لكنها استعملت عاملاً
مهماً من عوامل النجاح الإداري، وهو الشورى وتقبل الرأي الآخر… فماذا قالوا لها؟ ].. نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ[ (33).
فليس لهم رأي، وهم بخلاف الهدهد الذي كان له رأي يعتز به وقضية يجادل من أجلها. قارن بالله عليك بين جيش فيه من يقول ]أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ..[ والتي هي أساس الشورى وأساس النصر، وبين جيش فيه من يقول ]وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ[.
حضارة ربانية
وتحاول ملكة سبأ أن تختبر صدق سليمان في دعوته، ]وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ[ (35) لكنه غضب وقال: ]أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا ءاتَـٰنِى ٱلله خَيْرٌ مّمَّا ءاتَـٰكُمْ[ (36).
لأنه صاحب رسالة ربانية لا يريد جمع المال من ورائها، وليس أخذه بأسباب النجاح والتفوق الحضاري من أجل إخضاع الأمم ونهب ثرواتها، بل هدفه من وراء ذلك كله هو إيصال رسالة الله للناس كلها…
التفوق التكنولوجي
ومملكة سليمان تملك قوة عسكرية لا مثيل لها ]ٱرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَـٰغِرُونَ[ (37).. نستشعر في هذه الآية عناصر التفوق الحضاري التي تميزت بها مملكة سليمان، من إدارة عالية وعلوم وقوة عسكرية، إضافة إلى عامل مهم جداً، وهو العامل الذي سبّب الانبهار الحضاري وإسلام ملكة سبأ…
سبقها عرشها
عندما علم سليمان بقدوم الملكة للتفاوض معه، طلب من جنوده الإتيان بعرشها ]قَالَ يأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ[ (38)، ويقوم جنديان من هذا الجيش الرائع: عفريت من الجن، ورجل أوتي علماً بالكتاب، وكلاهما يتنافس في سرعة إحضار العرش إلى الملك. أي تكنولوجيا وأي علم وأي أداء مبهر؟ لقد سيطرت هذه المملكة المؤمنة بتفوقها على الأرض كلها…
وتدخل ملكة سبأ لتفاجأ بسؤال: ]أَهَكَذَا عَرْشُكِ[ (42) فتجيب بذكاء: ]قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ[ (42) بشكل دبلوماسي ومبهم، لكي لا تقول أنها لم تعرف عرشها الذي تغير عليها بعض الشيء، وبالمقابل كي لا تجزم أنه عرشها فتكذب… وهنا بدأت الدهشة والإعجاب يؤثران في قلبها تأثيراً بالغاً فأصبحت مهيأة لقبول الإيمان.
أسلمت بسلطان العلم
ونصل إلى آية محورية (44)، هي آخر آية في قصة سليمان، وتلخص لنا هذه الآية محور القصة وهدفها.. اسمعها معي وعشها بقلبك وعقلك:
]قِيلَ لَهَا ٱدْخُلِى ٱلصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا[.
فقد كان القصر على الماء، ومدخله مغطى بالزجاج الشفاف، فرفعت ثيابها خوفاً من البلل.
]قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مّن قَوارِيرَ[ إنها تكنولوجيا غير عادية، أوصلتهم إلى بناء قصر زجاجي فوق الماء، متناهي الدقة بحيث يعتقده الناس ماءً. فلما أعجزها هذا التفوق الحضاري والعلمي، أعلنت إسلامها: ]قَالَتْ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَـٰنَ لله رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ[.
فرعون والانبهار الحضاري
والملاحظ أن قصة موسى أتت بشكل مختصر في سبع آيات قبل قصة سليمان، ونرى في هذه الآيات تكذيب فرعون وقومه لرسالة موسى عليه السلام: ]فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءايَـٰتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ[ (13).
فرفضوا الرسالة لأن سيدنا موسى لم يكن معه عناصر التفوق الحضاري الذي كان متاحاً لسيدنا سليمان، وفي ذلك إشارة إلى انبهار الناس بالتفوق والعلم، وسيرهم وراء من يملك أسس التفوق الحضاري والقوة العلمية.
عناصر التفوق الحضاري
فإذا أردنا تلخيص عناصر وأسباب التفوق الحضاري في السورة، يمكننا أن نذكر ما يلي:
– الهدف السامي: وهذا ما نراه بوضوح في قول سليمان ]رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ[ (19)، وقوله: ]هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ[. وكان شكر سيدنا سليمان على هذه النعم بتسخيرها لنشر الإيمان في الأرض كلها..
– العلم: ]وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَـٰنَ عِلْماً[ (15) ولا حضارة بغير علم وتفوق علمي والأهم من ذلك، استشعار قيمة العلم…
– التكنولوجيا المتطورة والمبهرة: ]فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مّن قَوارِيرَ..[ (44).
– القوة العسكرية الشديدة: ]ٱرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا..[ (37).
– شعور الأفراد بالمسؤولية: وهذا قد ظهر واضحاً في موقف الهدهد ورحلته الدعوية إلى مملكة سبأ.
كم وسيلة تمتلك أمتنا من هذه الوسائل؟ وأين هو دورك يا قارئ القرآن حتى تبني أمة ناجحة ومتفوقة كأمة سليمان…؟
سلطان الله أعظم
ومن روعة القرآن في عرض سنن التفوق الحضاري، أن سورة النمل – برغم تركيزها على المقومات والأسباب المادية للنصر – قد استعانت بأمثلة كلها معجزات: من هدهد يتكلم ويجادل، إلى نملة حكيمة توجه قومها، وخلال ذلك كله قول سيدنا سليمان: "علمنا منطق الطير"… وحتى في آخر السورة ترى قوله تعالى ]وَإِذَا وَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ ٱلأَرْضِ تُكَلّمُهُمْ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُوا بِـئَايَـٰتِنَا لاَ يُوقِنُونَ[ (82).
وهكذا يتواصل الحديث عن المعجزات في السورة، لماذا؟
حتى لا نكون ماديين في تعاطينا مع أسباب التقدم والتفوق الحضاري. وكأن السورة تقول لنا: إياكم أن ينسيكم التفوق الحضاري إرتباطكم بالله تعالى ويقينكم أنه هو صانع النصر، وأن هناك مقومات إيمانية وغيبية للتفوق غير التي أتت في السورة.
أإله مع الله…؟
ثم تنتقل السورة فجأة من الحديث عن التفوق الحضاري إلى الحديث عن قدرة الله في الكون، حتى لا نغتر بحضارتنا فننسى ربنا ونعيش حضارة مادية بلا روح كحضارة الغرب. فتأتي آيات رائعة تخاطب القلب البشري وتهزه ليفيق من غفلته ويتعرف على ربه:
]قُلِ ٱلْحَمْدُ لله وَسَلَـٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَى ءالله خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ & أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱلله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ[ (59-60). الجمال والتنظيم في خلق الكون يفوقان أي تفوق حضاري… ]أَمَّن جَعَلَ ٱلأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءلـٰهٌ مَّعَ ٱلله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ[ (61).
وحتى لا تغتر بقوتك أيها الإنسان: ]أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ٱلأَرْضِ أَءلَـٰهٌ مَّعَ ٱلله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ[ (62).
]أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ ٱلرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ أَءلَـٰهٌ مَّعَ ٱلله تَعَالَى ٱلله عَمَّا يُشْرِكُونَ & أَمَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ ٱلسَّمَاء وٱلأَرْضِ أَءلَـٰهٌ مَّعَ ٱلله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَـٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ[ (63-64).
وبذلك يتحقق التوازن بين التفوق الحضاري وبين الإيمان بمالك الكون وصاحب القدرة.
لماذا "النمل"؟
ومع أن النمل ذكر في السورة في آية واحدة فقط، لكن سورة التفوق الحضاري كان اسمها سورة النمل، فلماذا؟
إن مملكة النمل هي نموذج للتفوق حضاري في أمة من أمم الحشرات، فهم يملكون كل أسباب التطور، من بناء بيوت المؤن، إلى تنظيم الجيوش وتقسيم أبواب الدخول والخروج، حتى أنهم يستعملون التكييف المركزي داخل مساكنهم… أمة منظمة تفوقت على أقرانها بالعلم والتكنولوجيا حتى استحقت أن تذكر في القرآن الكريم كنموذج يحتذى في التفوق الحضاري..
والناس عادة يستصغرون النمل، لذلك ضرب الله لنا بهم مثلاً، وأمرنا أن نقتدي بهم، حتى يتردد في ذهنك كلما قرأت السورة، أن هذه الحشرة الصغيرة الضعيفة قد وصلت إلى هذا التطور، وحتى تتذكر أن النملة قد تفوقت على غيرها من الحشرات، فلم تترك أيها المسلم غيرك من الحضارات يتفوق عليك؟
حكمة النملة وإيجابيتها
ومن لطائف القرآن، أن الآية المحورية في السورة (أي الآية التي ذكر فيها خطاب النملة لقومها) احتوت على إشارات حضارية رائعة… كلها نتعلمها من النملة الصغيرة.
يقول تعالى: ]حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِى ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يأَيُّهَا
ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَـٰكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـٰنُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ
يَشْعُرُونَ[ (18).
فهي قد وقفت تخاطب الجموع يإيجابية، ولم تهرب مع أنها عرضت نفسها لخطر الموت تحت أقدام الجنود، وكان حرصها وغيرتها على قومها أولى عندها من حياتها. وليس هذا فحسب، بل إن خطابها احتوى على إشارات رائعة في فن القيادة والإدارة، فهي قد:
– وجهت التصرف الصحيح قبل التحذير وبيان الخطر حتى لا تتخبط الجموع ببعضها ]ٱدْخُلُواْ مَسَـٰكِنَكُمْ[.
– ثم عرضت المشكلة وبينت الخطر ]لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـٰنُ وَجُنُودُهُ[ والناس في ساعات الخطر يتصرفون بغير تفكير، مما قد يؤدي إلى المزيد من الأضرار. فكان لا بد للقائد الناجح من إعطاء الحل والمخرج قبل بيان المشكلة، حتى يسمع الناس توجيهاته وهم في حالة نفسية تسمح لهم بتلقي الأوامر وتنفيذها..
– حذرتهم من خطورة التراخي بأن يأمنوا على أنفسهم من سليمان، لأنهم يعرفون صفاته، ولأن سمعته عند النمل حسنة. لذلك أكدت على أن المؤمنين لا يمكن أن يظلموا أو يعتدوا عن قصد، وهذا ما نراه في قولها ]وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ[.