ويسأل سائل : لماذا نتكلم عن شهوة الرجال نحو النساء ولا نتكلم عن شهوة النساء نحو الرجال؟! إن كثيرا ما يتساءلون : لماذا تكلم القرآن عن الحور العين في الجنة ولم يتكلم عن مثيل ذلك للمؤمنات؟! والجواب أن الحب عند الرجل يتمحور حول الأفعال ، فهو عنده غريزة تتبعها عاطفة ، بينما الحب عند المرأة عاطفة مقدمة على الغريزة ، وحين يمتزج الحب بالشهوة عند الرجال ؛ فهو عند النساء : كلمات وثناء وغزل ، لذا وجدنا الشعر عربيا وغربيا قديما وحديثا يحفل بغزل الرجال للنساء لا غزل النساء للرجال ، فالرجل يعلن عن الرغبة ويطلب ، والمرأة سلاحها التمنع والدلال.
من هنا جاء تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم : « ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء » .
وقد سبق أن أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: " إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان " ، إشارة إلى الهوى والميل الطبيعي الذي جعله الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إلى النساء ، والالتذاذ بالنظر إليهن ، والحديث معهن ، وسماع أخبارهن ، وكل ما يتعلق بهن ، ولا غرو ، فالمرأة أعظم فتن إبليس وأشد محنه وأيسر طرقه وأخفى حيله ، ولذا يتبعها ويلازمها ويزيِّنها ويُحلِّيها في عيون الرجال. قال مجاهد : " إذا أقبلت المرأة جلس الشيطان على رأسها فزيَّنها لمن ينظر ، فإذا أدبرت جلس على عجزها فزيَّنها لمن ينظر " .
وعدَّها الحسن بن صالح نصف جيش الشيطان المرابط على ثغر القلب فقال : " سمعت أن الشيطان قال للمرأة : أنت نصف جندي ، وأنت سهمي الذي أرمي به فلا أخطأ ، وأنت موضع سري ، وأنت رسولي في حاجتي " .
ويُشخِّص ابن الجوزي مرضا عضالا يُصاب به مطلق بصره – وما أكثر جراحاته – فيقول : " يُعرِض الإنسان عن زوجته ويؤثر عليها الأجنبية ، وقد تكون الزوجة أحسن ، والسبب في ذلك أن عيوب الأجنبية لم تَبِن له ، وقد تكشفها المخالطة ، ولهذا إذا خالط هذه المحبوبة الجديدة ، وكشفت له المخالطة ما كان مستورا ملَّ وطلب أخرى إلى ما لا نهاية له " .
ثم يكمل وصيته أثناء صيده لإحدى خواطره فيقول : " ليعلم العاقل أن لا سبيل إلى حصول مراد تام كما يريد ﴿ وَلَسْتُمْ بِآخِذيْهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضوا فيْهِ ﴾ [ البقرة : 267 ] ، ما عيب نساء الدنيا بأحسن من قوله عز وجل ﴿ وَلَهُمْ فيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ﴾ [ البقرة : 25 ] " .
فاسمُ بعينيك إلى نسوة … مهورهن العمل الصالح
وحدِّث النفس بعشق الألى … في عشقهن المتجر الرابح
واعمل على الوصل فقد أمكنت … أسبابه ووقتها رائح
السجود للصنم
وإليك نماذج من هؤلاء المرضى الذين استسلموا لمرضهم ، فلم يحاولوا الاستشفاء بطبيب بارع أو مشفى جامع حتي غزاها المرض فشوَّه ملامحها ومسخ فطرتها ووصل إلى النخاع وقطع عليها خط الرجعة. قيل لأحدهم : جاهد في سبيل الله ، فقال :
يقولون جاهد يا جميل بغزوة … أي جهاد غيرهن أريد
لكل حديث بينهن بشاشة … وكل قتيل بينهن شهيد
وأعلن أخ له في الغواية :
ولو أنني أستغفر الله كلما … ذكرتك لم تكتب عليَّ ذنوب
هذا حال اللسان ، أما حال القلب فأسوأ :
محا حبها حب الأولى كُنَّ قبلها … وحَلَّ مكـانا لم يكن حَلّ من قبل
أما حب الله والشوق إليه ، فلم يعد له في القلب لا أقول موضع قدم بل موضع إبرة!! بل وصل حالهم إلى وصف مريع أفاض فيه ابن القيِّم ليخوِّف كل عاقل من عواقب المرض ويلوِّح أمام ناظريه براية الخطر ، فقال في شفقة الطبيب يبيِّن خطورة المرض وفداحة الإصابة :
" فلو خُيِّر بين رضاه ورضا الله لاختار رضا معشوقه على رضا ربه ، ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه ، وتمنيه لقربه أعظم من تمنيه لقرب ربه ، وهربه من سخطه عليه أشد من هربه من سخط ربه عليه ، يُسخِط ربه بمرضاة معشوقه ، ويقدِّم مصالح معشوقة وحوائجه على طاعة ربه ، فإن فضل من وقته ، وكان عنده قليل من الإيمان ، صرف تلك الفضلة فى طاعة ربه ، وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه ومصالحه صرف زمانه كله فيها وأهمل أمر الله تعالى ، يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس ، ويجعل لربه من ماله – إن جعل له – كل رذيلة وخسيس ، فلمعشوقه لبه وقلبه ، وهمه ووقته ، وخالص ماله ، وربه على الفضلة ، قد اتخذه وراءه ظهريا ، وصار لذكره نسيا ، إن قام فى خدمته فى الصلاة فلسانه يناجيه وقلبه يناجى معشوقه ، ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق ، ينفر من خدمة ربه حتى كأنه واقف فى الصلاة على الجمر من ثقلها عليه وتكلفه لفعلها ، فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه فرحا بها ، ناصحا له فيها ، خفيفة على قلبه لا يستثقلها ولا يستطيلها " .
لذا يعاقبه الله في الدنيا قبل الآخرة ، وعلى يد من؟! على يد من لا يخطر له على بال ومن بذل في سبيله كل غال : على يد محبوبه الذي أحبه من دون الله. قال ابن القيِّم :
" وقد قضى الله تعالى قضاء لا يرد ولا يُدفع أن من أحب شيئا سواه عُذِّب به ولا بد ، وأن من خاف غيره سُلِّط عليه ، وأن من اشتغل بشيء غيره كان شؤما عليه ، ومن آثر غيره عليه لم يبارك فيه ، ومن أرضى غيره بسخطه أسخطه عليه ولا بد " .
عذابات فوق عذابات ، وآلام وحسرات في الدنيا وفي القبر وفي النار!! قال ابن القيم :
" فكل من أحب شيئا غير الله عُذِّب به ثلاث مرات في هذه الدار ، فهو يُعذَّب به قبل حصوله حتى يحصل ، فاذا حصل عُذِّب به حال حصوله بالخوف من سلبه وفواته ، فإذا سُلِبه اشتد عذابه عليه ، فهذه ثلاثة أنواع من العذاب في هذه الدار.
وأما في البرزخ فعذاب يقارنه ألم الفراق الذي لا يُرجى عوده ، وألم فوات ما فاته من النعيم العظيم باشتغاله بضده ، وألم الحجاب عن الله ، وألم الحسرة التي تقطع الاكباد ، فالهم والغم والحسرة والحزن تعمل في نفوسهم نظير ما تعمل الهوام والديدان في أبدانهم ، بل عملها في النفوس دائم مستمر حتى يردها الله إلى أجسادها ، فحينئذ ينتقل العذاب إلى نوع هو أدهى وأمر " .
ولو فكَّر العاشق المسكين في مصير من عشقه وخاتمة من أحب لتاب من فوره وزهد في وصله كما قال المتنبي :
لو فكَّر العاشق في منتهى … حُسن الذي يسبيه لم يسبه
وأكَّد آخر نفس المعنى فقال :
وان سبتك الدمى فانظر بفكرك ما … تغدو اليه الدمى في ظلمة القبر
لكن أين حال هؤلاء من أحياء القلوب وأرباب العقول الذين يتدبرون ويعتبرون ، ويقرؤون ما وراء الأحداث فيرشدون ، ومن سادات هؤلاء ابن الجوزي الذي علَّمنا في إحدى كنوزه الرائقة :
" تأملتُ حالة أزعجتني ، وهو أن الرجل قد يفعل مع امرأته كل جميل وهي لا تحبه ، وكذا يفعل مع صديقه والصديق يبغضه ، وقد يتقرَّب إلى السلطان بكل ما يقدر عليه والسلطان لا يؤثره ، فيبقى متحيِّرا يقول : ما حيلتي؟! فخفتُ أن تكون هذه حالتي مع الخالق سبحانه ، أتقرَّب إليه وهو لا يريدني ، وربما يكون قد كتبني شقيا في الأزل " .