إنها صفية بنت عبد المطلب الهاشمية القرشية رضي الله عنها، عمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه الصحابية يحوطها المجد من كل جانب: فأبوها عبد المطلب بن هاشم جدّ النبي صلى الله عليه وسلم، وزعيم قريش وسيّدها المطاع, وأمها هي هالة بنت وهب أخت آمنة بنت وهب والدة الرسول عليه السلام.
وزوجها الأول الحارث بن حرب أخو أبي سفيان بن حرب زعيم بني أمية, وقد توفي عنها, وزوجها الثاني العوّام ابن خويلد أخو خديجة بنت خويلد سيدة نساء العرب في الجاهلية, وأولى أمهات المؤمنين في الإسلام, وابنها الزبير بن العوام من خاصة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ترى أبعد هذا الشرف شرف تطمح إليه النفوس غير شرف الإيمان؟!
لقد توفي عنها زوجها العوام بن خويلد وترك لها طفلاً صغيراً هو ابنها (الزبير), فنشأته على الخشونة والقوة, وربته على الفروسية والحرب, حتى غدا فارساً بطلاً من فرسان الإسلام, ولما بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بدين الهدى والحق, وأرسله نذيراً وبشيراً للناس، لَمَّا نَزَلَتْ هذه الآيةُ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وأمره بأن يبدأ بذوي قرباه جمع بني عبد المطلب: رجالهم ونساءهم وكبارهم وصغارهم وخاطبهم قائلاً: "يا صَفِيَّةُ بنتَ عبدِ المُطَّلِبِ، يا فاطمةُ بنتَ مُحَمَّدٍ يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ إني لا أَمْلِكُ لكم من اللهِ شيئًا سَلُونِي من مالي ما شِئْتُم"رواه الشيخان، وغيرهما وهذا لفظ الترمذي. ثم دعاهم إلى الإيمان بالله, وحضهم على التصديق برسالته. فأقبل على النور الإلهي منهم من أقبل, وأعرض عنهم من أعرض, فكانت صفية بنت عبد المطلب من الرعيل الأول من المؤمنين الصادقين, عند ذلك امتطت صفية صهوة المجد: سمّو الحسب, وعز الإسلام وشموخه.
انضمت صفية بنت عبد المطلب إلى موكب الإسلام هي وفتاها الزبير بن العوّام, وعانت ما عاناه المسلمون السابقون من بأس قريش وعنتها وطغيانها ,فلما أذن الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه بالهجرة إلى المدينة خلفت السيدة الهاشمية وراءها مكة بكل ما لها من طيوب الذكريات, وضروب المفاخر والمآثر, ويممّت وجهها شطر المدينة, مهاجرة بدينها إلى الله ورسوله.
وعلى الرغم من أن السيدة العظيمة كانت يومئذ تخطو نحو الستين من عمرها المديد الحافل بالأمجاد , فقد كان لها في ميادين الجهاد مواقف ما يزال يذكرها التاريخ بلسان نديّ بالإعجاب, رطيب بالثناء.
وحسبنا من هذه المواقف مشهد واحد كان يوم أحد, فقد خرجت صفية بنت عبد المطلب مع جند المسلمين في ثلّةٍ من النساء جهاداً في سبيل الله. فأخذت تنقل الماء, وتروي العطاش, وتبري السهام, وكان لها مع ذلك غرض آخر وهو أن تراقب المعركة بمشاعرها كلّها, ولا عجب فقد كان في ساحتها ابن أخيها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأخوها حمزة بن عبد المطلب أسد الله, وابنها الزبير بن العوام.
وفي هذه المعركة ـ قبل ذلك كله و فوق ذلك ـ مصير الإسلام الذي اعتنقته راغبةً.. وهاجرت في سبيله محتسبةً.. وأبصرت من خلاله طريق الجنّة.
ولما رأت المسلمين يتفرقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً منهم.. ووجدت المشركين يوشكون أن يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ويقضوا عليه, طرحت سقاءها أرضاً, وهبّت كاللبؤة التي هوجم أشبالها, وانتزعت من أحد المنهزمين رمحه, ومضت تشق به الصفوف, وتضرب بسنانه الوجوه, وتزأر في المسلمين قائلةً: ويحكم, أتنهزمون عن رسول الله؟! فلما رآها الرسول صلى الله عليه وسلم مقبلةً خشي عليها أن ترى أخاها حمزة وهو صريع, وقد مَثِّل به المشركون أبشع تمثيل, فأشار إلى ابنها الزبير قائلاً: المرأة يا زبير.. المرأة يا زبير.. فأقبل عليها الزبير, وقال: إليك يا أماه, فقالت: تنحَّ لا أمَّ لك, فقال: إن رسول الله يأمرك أن ترجعي, فقالت: ولِمَ ؟؟, إنه قد بلغني أنه مُثّل بأخي, وذلك في الله.. فقال له الرسول: خلّ سبيلها يا زبير, فخلّى سبيلها.
ولما وضعت المعركة أوزارها وقفت صفية على أخيها حمزة, فوجدته قد بُقر بطنه, وأخرجت كبده, وجدع أنفه, وصُلمت أذناه, وشوّه وجهه, فاستغفرت له وجعلت تقول: عن ذلك في الله.. لقد رضيت بقضاء الله. والله لأصبرنّ, ولأحتسبنّ إن شاء الله .