قيام الليل سبيل المتقين للتقرب من رب العالمين
يتوهم أهل الدنيا أن اللذة والنعيم في الأموال والنساء وفي البيت الجميل والفراش الوثير، ويتضح للمُمحّص أن الجنة في الحقيقة في غير ذلك؛ فهي في المحراب وفي مناجاة الله سبحانه وتعالى؛ حين يقوم المسلم فيترك فراشًا وثيرًا وزوجة حسناء ويلقي عن نفسه التعب والكسل ليجيب نداء ربه وهو يدعوه "يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا"، وقيام الليل سنة عظيمة أضعناها ولذة عجيبة ولكننا ما تذوقناها، وهي جنة للمؤمنين في هذه الحياة ولكننا ما دخلناها ولا رأيناها، وقيام الليل مدرسة تتربى فيها النفوس وتهذب فيها الأخلاق وتزكى فيها القلوب، كما أن قيام الليل عمل شاق وجهاد عظيم لا يستطيعه من الرجال إلا الأبطال الأطهار ولا من النساء إلا القانتات الأبرار، قال تعالى "الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ"، وقيام الليل دأب الصالحين قبلنا ومكفرة لسيئاتنا وقُـربة لنا إلى ربنا ومطردة للداء عن أجسادنا.
قيام الليل من الفريضة إلى التطوّع..
الحديث عن قيام الليل له أسباب كثيرة؛ تتعلق بعظيم ثوابه وأثره على الفرد والمجتمع بعد ذلك، فلا يخفى على المسلم أن كل عبادة شرّعها الإسلام لابد أن تخرج فوائدها عن الذات الفردية لتشمل المجتمع بطرقة ما، وقد استخرج العلماء من الحِكم ما يعجز عن احتوائه بيان أو عن خطه بنان، كما حذر الدعاة من خطورة الاستهانة بهذه الشعيرة العظيمة لأسباب إيجابية في العبادة من جهة، ولأسباب سلبية طرأت في عقلية الناس تجاهها.
عبادة وطريق لبناء الأمة..
يُعتبر قيام الليل بداية الطريق لإعادة بناء الأمة وتأهيلها لقيادة العالم وسيادته وريادته، فبهذا الأمر ربى الوحي الرعيل الأول وجهزهم لتحمل مشاق الرسالة والقيام بأمر الدعوة؛ لأن العبد إذا قام الليل طهر قلبه وإذا طهر القلب فلن تجد منه إلا السمع والطاعة، ولذلك لن تعجب إذا علمت أن الله افترض على المسلمين قيام الليل قبل أن تنزل الأحكام وقبل أن تفرض الفرائض وقبل فرض الصلوات الخمس، كما جاء في حديث «حكيم بن حزام» أنه جاء إلى السيدة «عائشة» رضي الله عنها يسأل عن قيام النبي صلى الله عليه وسلم فقالت "ألست تقرأ سورة المزمل؟"، قال "بلى"، قالت "فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرًا في السماء حتى أنزل في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعًَا بعد فريضة"، وقال «ابن عباس» رضي الله عنهما "إن قيام الليل كان فريضة في أول الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سنة كاملة حتى نسخ الله هذا في آخر السورة"، فطهارة القلب وزكاة النفس لا تكون إلا بقيام الليل، ولهذا وجدنا بعد الأمر بقيام الليل الحديث عن المهام الجسام التي يعد الله لها نبيه صلى الله عليه وسلم حين يقول الله تعالى "إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا".
انقلاب أحوال الناس ليلا إلى اللهو
من الأسباب الداعية إلى التنبيه بأهمية قيام الليل تبدل أحوالنا عن أحوال السلف وانقلاب ليالينا إلى لهو ولعب وتفريط في الأعمار وتضييع للأوقات، وبدلا من أن تقضى ساعات الليل في صلاة ومناجاة لله صار الأعم الأغلب يقضيها في معاص أضاعت على المسلمين دينهم، وغاب عن الكثير منا حديث «أنس» رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول؛ من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟" رواه الجماعة، وعن «عمرو بن عبسة» رضي الله عنه قال "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول؛ أقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن"،
قسوة القلوب وهجر القرآن الكريم
أورثت قسوة القلوب النفوس عدم التلذذ بالقرآن والآيات وعدم التأثر بالمواعظ، فجفى الباطن وطغى اللهف على الظاهر المظلل عينى عينك ، وما كان هذا حال المسلم أبدا؛ فلا بد إذا من قيام الليل وسؤال الله أن يمنّ علينا بقلب خاشع رقيق، فما استجيبت الدعوات في وقت مثل ما استجيبت بالأسحار.
إحياء سنن النبي عليه الصلاة والسلام خير أعمال العباد
أخيرا، من أهم ما يلح على المسلم بضرورة الانتباه إلى أهمية قيام الليل الرغبة في إحياء سنة من السنن المهجورة المنسية التي تركها الناس ورغبوا عنها، وفي إحياء سننه عليه الصلاة والسلام أجر عظيم وثواب كبير.
قيام الليل في القرآن
تنوعت صور دعوة القرآن المسلمين لقيام الليل ما بين الأمر به وبيان فضله وامتداح أهله، وعاقبة أصحابه ترغيبًا وتحبيبا، وهذه الآيات منها المدني والمكي؛ فأمر الله به في سورة «المزمل» وفي سورة «الإسراء»؛ قال تعالى "أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً. وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً"، وقال «الحسن» و«مجاهد»؛ أي أن القيام في حق النبي نافلة لأن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو في حق المسلمين فريضة، فقالا "لابد من قيام الليل ولو ركعتين في السحر"، وفي سورة «ق» قال تعالى "فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ"، وفي وصف أهل الإيمان امتدح الحق تبارك وتعالى المتقين المحسنين داعيا للاقتداء بهم فقال عز وجل "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ. كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ"، وقال "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً. وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً"، فجعل من صفات عباده الذين شرفهم بنسبتهم إليه أنهم يبيتون ليلهم سجدًا وقيامًا، وفي بيان ما أعد للقائمين من الجزاء والنعيم قال "إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، وكل هذه السور مكية باتفاق المفسرين، نسائيه وفي سوَر مدَنية تابع الله التنبيه على تلك الشعيرة العظيمة كما في قوله سبحانه "الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ"، وقال أيضا "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ"، وفي سورة «الإنسان» قال تعالى "وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً".
القيام في السنة
تتابعت الأدلة السنية في الدعوة لهذه الفضيلة العظيمة وحث المؤمنين عليها، وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله هو الحادي لأمته في اقتفاء أثره، فقد روى «مسلم» عن «أبي هريرة» رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل"، ولذلك كان «عبد الله بن عمرو» رضي الله عنهما يقول "لأن أصلي في جوف الليل ركعة أحبُّ إليَّ من أن أصلي بالنهار عشر ركعات"، وعندما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان أول ما كلمهم أن أمرهم بقيام الليل، قال "أيها الناس، أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصِلوا الأرحام وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام "، وكان صلوات الله عليه وسلامه يتعهد المسلمين ويحثهم على قيام الليل، فعن «أبيّ بن كعب» رضي الله عنه قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مضى ثلثا الليل نادى بأعلى صوته؛ أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه"، وطرق «عليا» و«فاطمة» رضي الله عنهما ليلا وقال؛ ألا تصليان؟"، وقال لـ«عبد الله بن عمر» رضي الله عنهما " نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل"، وقال «سالم بن عبد الله» "فكان ابن عمر بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً"، وقال لـ«عبد الله بن عمرو» رضي الله عنهما "يا عبد الله لا تكن كفلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل".
نصيب النساء من الدعوة لقيام الليل
لم يقتصر الأمر بقيام الليل على الرجال فحسب وإنما أيضا دعيت إليه المسلمات، فعن «أبي هريرة» رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء"، رواه «أبو داود»، وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعًا كُتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات"، وذكر أن العبد إذا فعل ذلك أو فعلته امرأته ضحك الله من فعلهما، وفي المسند "إذا ضحك الله من عبد فلا حساب عليه".
مقداره
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل أحد عشر ركعة أو ثلاث عشر ركعة ولا يزيد على ذلك، وكان يقول "صلاة الرجل مثنى مثنى"، وروت عنه «عائشة» رضي الله عنها "فصلى أربعًا، لا تسل عن طولهنَّ وحسنهنَّ، ثم صلى أربعًا لا تسل عن طولهنَّ وحسنهنَّ، ثم أوتر بثلاث".
أسباب مُعينة على تحصيل العبادة
ذكر «أبو حامد الغزالي» أسباباً ظاهرة وأخرى باطنة ميسرة لقيام الليل، أما الأسباب الظاهرة فأربعة أمور هي؛- ألا يكثر الأكل فيكثر الشرب، فيغلبه النوم، ويثقل عليه القيام.- ألا يتعب نفسه بالنهار بما لا فائدة فيه.- ألا يترك القيلولة بالنهار فإنها تعين على القيام.- ألا يرتكب الأوزار بالنهار فيحرم القيام بالليل.أما الأسباب الباطنة فأربعة أمور وهي؛- سلامة القلب من الحقد على المسلمين، ومن البدع ومن فضول الدنيا.- خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل.- أن يعرف فضل قيام الليل.- الحب لله وقوة الإيمان بأنه في قيامه لا يتكلم بحرف إلا وهو مناج ربه.
والسلام عليكم ورحمة اللع تعالى وبركاته