هذه جملة مباركة من المواقف النبوية التي ترشد إلى حال نبينا e مع الصغار ، وكيف كان يعاملهم ..
فقد كان نبينا e يصبر عليهم ولا يضجر ..
فعَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ رضي الله عنها قَالَتْ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ e مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e :«سَنَهْ سَنَهْ» – وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ – قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِي أَبِي، فَالَ رَسُولُ اللَّهِ e :«دَعْهَا». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e :«أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي». فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ([1])-يَعْنِي مِنْ بَقَائِهَا-([2]) .
إنَّ الانشغال بالعبادات ، ومناجاة رب الأرض والسماوات ، لم يكن ليمنع رسولنا e من الإحسان إلى الطفل والترفق به ..
فعن شداد بن الهاد t قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ e فِي إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ e فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ فَصَلَّى، فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ e وَهُوَ سَاجِدٌ، فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ e الصَّلَاةَ قَالَ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ؟ قَالَ :«كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ» ([3]) .
فهنا نرى أنَّ نبينا e يكره أن يُعجل هذا الصغير ، بل تركه حتى قضى نهمته من اللعب ..
إنّ الحسن أو الحسين لم يكن ليفعل ذلك لولا أنْ اعتاد حسن المعاملة والصبر من النبي e ، لقد كان من الممكن أنْ يزيحه رسول الله e حتى يفرغ من الصلاة ثم يلتفت إليه بعدُ .. ولكن لم يرد نبينا e أن يكسر بخاطر طفل حتى في حالٍ يناجي فيها ربه.
وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ t قَالَ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ e يَؤُمُّ النَّاسَ، وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ -وَهِيَ ابْنَةُ زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِيِّ e – عَلَى عَاتِقِهِ، فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا رَفَعَ مِنْ السُّجُودِ أَعَادَهَا ([4]) .
مع أنّه e قال عن الصلاة :«جُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» ([5]) . أي : لم يكن له حال أهنأ من حاله وهو يصلي . ولهذا كان إذا قام إليها قال :«يَا بِلَالُ ، أَقِمْ الصَّلَاةَ ، أَرِحْنَا بِهَا» ([6]) . ومع ذلك كلِّه لم يترك هديه في معاملة الأطفال وهو متلبس بها .
ولقد كان رسولنا e يخطب في الناس ، إِذْ جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ، يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ e مِنْ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ :«صَدَقَ اللَّهُ :}إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ{([7]) ، فَنَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا» ([8]) .
إنّه لم يكن أرحم بالصبيان من محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ..
فعن أنس t أَنَّ النَّبِيّ e قَالَ : «إِنِّي لَأَدْخُل فِي الصَّلَاة أُرِيد إِطَالَتهَا ، فَأَسْمَع بُكَاء الصَّبِيّ ، فَأُخَفِّف مِنْ شِدَّة وَجْد أُمّه بِهِ» ([9]) .والْوَجْد يُطْلَق عَلَى الْحُزْن وَعَلَى الْحُبّ أَيْضًا وَكِلَاهُمَا سَائِغ هُنَا، كما ذكر النووي رحمه الله ([10]) .
وبين أنَّ من لا يرحم الصغير فليس منه بقوله : «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» ([11]).
ولقد تجسدت هذه الرحمة بهم في أسمى صورها في هذه الحادثة التي أخبر بها صاحبه أنسٌ t، قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e :«وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ ، فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ » ، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى أُمِّ سَيْفٍ ، امْرَأَةِ قَيْنٍ ([12]) يُقَالُ لَهُ أَبُو سَيْفٍ ، فَانْطَلَقَ يَأْتِيهِ ، وَاتَّبَعْتُهُ ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى أَبِي سَيْفٍ وَهُوَ يَنْفُخُ بِكِيرِهِ قَدْ امْتَلَأَ الْبَيْتُ دُخَانًا ، فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ e فَقُلْتُ : يَا أَبَا سَيْفٍ أَمْسِكْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ e ، فَأَمْسَكَ ، فَدَعَا النَّبِيُّ e بِالصَّبِيِّ ، فَضَمَّهُ إِلَيْهِ ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ، قَالَ أَنَسٌ : لَقَدْ رَأَيْتُهُ وَهُوَ يَكِيدُ بِنَفْسِهِ([13]) بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ e ، فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ e ، فَقَالَ :«تَدْمَعُ الْعَيْنُ ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا ، وَاللَّهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ»([14]).
وأذكر أنّ عالماً قيل له : فقد الفضيل بن عياض رحمه الله بنته فضحك، فلما سئل قال : رضيت بما قضى الله به ، وفقد رسول الله e ابنه فبكى ؟ والمراد : هل كان الفضيل أصبر من رسول الله e ؟
فقال : إن الفضيل اتسع قلبه لعبودية واحدة ، هي عبودية الرضا بمرِّ القضا ، أما النبي e فلقد اتسع قلبه لأنواع من ذلك ، عبودية الرضا وعبودية الرحمة لهذا الصغير.
وكان e يمازحهم :
فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ، فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ e فَرَآهُ قَالَ :«أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ»؟([15]).
ومن تأمل العبارة التي تفوه بها أنسٌ t :" فَكَانَ إِذَا جَاءَ" علم أنّ ممازحة النبي e لهذا الصغير كانت متكررة .. وهذا يدل على تجذر هذه الأخلاق فيه عليه الصلاة والسلام، فما كان مُتَكَلَّفاً فلا يمكن أن يكون مستمراً ، قال الرازي رحمه الله :" المتكلف لا يدوم أمره طويلاً ، بل يرجع إلى الطبع " ([16]).
"والنغير -بالتصغير – هو طائر يشبه العصفور" ([17]) .
وكان من هديه e إذا مرّ على الصبيان في الطريق سلَّم عليهم ..
فقد حَدَّثَ أَنَسٌ t أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ e ، فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ " ([18]) . وهنا أجدني أسائل نفسي : من منّا –أيها القارئ الكريم – يتواضع ويفعل ذلك اليوم؟!
وكان عليه الصلاة والسلام يقبِّل الأطفال ..
فعن أمِّ المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَدِمَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِe فَقَالُوا : أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ . فَقَالُوا : لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e:« وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمْ الرَّحْمَةَ»([19]) .
وحدَّث يَعْلَى بْنُ مُرَّةَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ e إِلَى طَعَامٍ دُعُوا لَهُ، فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي السِّكَّةِ، فَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ e أَمَامَ الْقَوْمِ وَبَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَفِرُّ هَا هُنَا وَهَا هُنَا وَيُضَاحِكُهُ النَّبِيُّ e حَتَّى أَخَذَهُ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ تَحْتَ ذَقْنِهِ وَالْأُخْرَى فِي فَأْسِ رَأْسِهِ فَقَبَّلَهُ وَقَالَ:«حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا، حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنْ الْأَسْبَاطِ»([20]) .
ومن المهم هنا أن نعلم : أنّ عدم إعطاء الطفل نصيباً وافياً من الحنان والعطف –والتقبيل من مظاهر هذه المحنة- ربما تسبب في انحراف سلوكه ..
يقول الدكتور على الزهراني ([21])–في رده على أحد المرضى المنحرفين الشاذين-: "أعود لمشكلتك الجنسية وتعلقك بكبار السن للقيام بالعملية الجنسية، حيث يرى بعض علماء النفس أن الطفل الذي لم يحظ بالحنان الكاف من والده فإنَّ هذا الأمر سيلازمه للأبد بمطاردته لكبار السن بطلب الحنان منهم فهو، أحياناً يجد رغبة في مجامعتهم، لكنه في الواقع يبحث عن الحنان الذي طالما بحث عنه لكنه لم يجده في طفولته، حتى أن بعض العلماء يرى أن يقوم الأب بملامسة جسد الطفل في الصغر ؛ لإعطائه الحنان الذي يبحث عنه، وفي المراحل المتقدمة من الطفولة يقوم الأب بممازحة الطفل واللعب معه ؛ للتغلب على ظهور مثل هذا الانحراف، بل أن هناك دراسات وجدت أن الانحرافات الجنسية تكثر بين الأطفال الذين عاشوا بدون آباء، إما لانشغالهم المستمر خارج المنزل، أو لسفرهم لفترات طويلة، أو لفقدهم بالموت، أو الانفصال" ([22]) .
[1] / أي : ذكر الراوي زمناً طويلاً .
[2] / البخاري (2842) .
[3] / مسند الإمام أحمد (26363) ، وسنن النسائي (1129) .
[4] / البخاري (5537) ، ومسلم (543) .
[5] / مسند الإمام أحمد (11845) ، وسنن النسائي (3879) .
[6] / سنن أبي داود (4333) .
[7] / سورة التغابن ، الآية (15) .
[8] / أبو داود (935) ، والترمذي (3707) ، والنسائي (1396) .
[9] / البخاري (668) ، ومسلم (470) .
[10] / انظر شرح النووي على مسلم (4/187) .
4 / الترمذي (1842) .
[12] / حدَّاد .
[13] / يجود بها في لحظة النزع .
[14] / البخاري (1220) ، ومسلم (2315) .
[15] / البخاري (5664) ، ومسلم (2150) .
[16] / التفسير الكبير (30/71) .
[17] / فتح الباري (1/197) .
[18] / مسلم (2168) .
[19] / البخاري (5539) ، ومسلم (2317) .
[20] / أحمد (16903) ، والترمذي (3708) ، وابن ماجة (141) . والسِّبط : أمة في الخير كما في النهاية لابن الأثير (2/840) .
شكرا على الموضوع المميز و تسلمي
في انتظار جديدك
سلام الحبيبه ديالي و تهلاي في قرايتك
نحبك
شكرا ليكي على الرد الزويييييييييييين