تخطى إلى المحتوى

مزرعة الأطفال المرعبه رواية جميلة 2024.

مزرعة الأطفال المرعبه

خليجية

مزرعة الأطفال المرعبه

لعل أكثر الجرائم التي يستبشعها الناس هي تلك التي تطال الأطفال، حتى في المعتقلات والسجون حيث يعيش أعتى المجرمون، ينظر لقتلة ومغتصبي الأطفال باحتقار كبير. فالطفل مخلوق برئ وطاهر لم تلوثه الشهوة بعد، وهو فوق ذلك عاجز عن دفع الأذى عن نفسه والذب عن كيانه، وهو لذلك يكون موضع عطف وعناية معظم الناس، باستثناء فئة قليلة مريضة جعلت منه هدفا وغرضا لنزاوتها وجشعها، كتلك الحيزبون الشريرة التي سنحدثكم عنها اليوم، والتي وجدت ضالتها في الظروف الصعبة التي فرضها المجتمع على بعض النسوة فاستغلت ذلك أبشع استغلال؛ لكن الغرض من قصتنا هذه لا ينحصر في وصف دناءة وسفالة تلك المجرمة المأفونة، بقدر ما يسعى إلى تصوير قسوة المجتمع وعدم تسامحه، خصوصا مع المرأة، فضحايا قصتنا هذه لم يكونوا ضحايا الطمع والجشع فقط، بل هم أيضا ضحايا انعدام الرحمة والنفاق الاجتماعي.

ايميليا داير .. حاشا ان تكون من النساء !

كانت ليلة ماطرة حالكة الظلام حين جلست إيفيلينا مورمون قرب مهد طفلتها الرضيعة ذات الشهرين، أخذت تحدق إلى ذلك الوجه الملائكي الصغير بوجه يقطر أسى وحزن، تزاحمت في رأسها المخاوف والآمال، وتنازعت نفسها المضطربة مشاعر متناقضة ما بين اليأس والرجاء، ثم سرعان ما تداعت تحت وطأة ذلك البحر المتلاطم من الأفكار ففاضت عينها بالدمع وضجت روحها بالآهات وامتدت يدها المرتجفة بلهفة تحمل الصغيرة النائمة وتضمها إلى صدرها بقوة كأنما تخشى أن ينتزعها منها أحد. احتضنتها واستغرقت في نحيب طويل، وراحت تتأمل الأقدار التي حملتها من مزرعة والدها الفلاح البسيط إلى المدينة الكبيرة التي تعج شوارعها بالناس وتزدحم أرصفتها بالحوانيت والبضائع .. المدينة الصاخبة التي تلقفتها وحولتها من فتاة قروية مغمورة إلى ساقية للخمر في إحدى حاناتها الفاجرة، وما لبث شعرها الأشقر وقوامها الممشوق وحسنها الفائق أن جذب إليها أعين وأفئدة الرجال فراحوا يخطبون ودها بالهدايا والأموال، ولم تبدي هي كبير مقاومة، بل استسلمت سريعا لبريق المال والكلمات المعسولة والوعود الكاذبة، وسرعان ما تمخضت علاقاتها العابرة عن طفلة جميلة أسمتها دوريس.
إيفيلينا أحبت طفلتها حبا جما، لكن الاحتفاظ بطفلة غير شرعية في انجلترا القرن التاسع عشر لم يكن بالأمر الهين، فالمجتمع المحافظ آنذاك كان ينظر للأمهات العازبات بعين الريبة والاحتقار، والكثير منهن وجدن أنفسهن مجبرات على التخلص من أطفالهن درءا للفضيحة والعار، فعلن ذلك بطرق وأساليب شتى، حسب إمكاناتهن المادية وحالتهن الاجتماعية، أسهل تلك الطرق كانت تتمثل في نبذ الطفل خلسة عند ناصية رصيف أو على باب كنيسة أو مؤسسة خيرية، كانت الأم تترك طفلها للحظ والقدر، فقد يجده شخص ما ويعتني به، أو قد يصبح طعاما للكلاب والقطط المشردة!.
أمهات أخريات، يمتلكن العزم والمال، اخترن مصيرا مغايرا لأطفالهن، عن طريق عرضهم للتبني، وقد جرت العادة في ذلك الزمان على أن يقدم الأب أو الأم مبلغا من المال لمن يتبنى طفلهما، وأدى هذا الأمر بالتدريج إلى نشوء تجارة ومهنة ارتبطت مباشرة بتربية الأطفال الغير مرغوب فيهم، مهنة ظاهرها رحمة وباطنها شر ونقمة.

مزارع الأطفال

ط®ظ„ظٹط¬ظٹط©

كان هناك عدد كبير من الأمهات العازبات في انجلترا العصر الفيكتوري، من فئات وطبقات شتى .. بنات ليل .. عاملات مصانع .. فلاحات .. أرامل .. وحتى بعض سيدات المجتمع الراقي اللواتي تمخضت نزواتهن الغرامية عن الحمل والولادة. لكن الشريحة الأوسع شكلتها الخادمات، كان هناك الكثير منهن يعملن ويعشن في منازل الطبقة الوسطى والنبيلة، والعديد منهن أقمن علاقات جنسية مع أسيادهن برغبتهن أو مجبرات، وأدت نسبة كبيرة من تلك العلاقات إلى الحمل، فنحن هنا نتكلم عن القرن التاسع عشر، حيث لم تكن وسائل منع الحمل متنوعة وفعالة كما هي عليه في أيامنا هذه.
وحتما ما كان أغلب الأسياد ليعترفوا بأطفالهم الغير شرعيين الذين ولدوا خارج أطار الزواج نتيجة علاقة آثمة أقاموها مع خادمة، لم يكن الأمر بالنسبة لهم سوى فضيحة يجب إخفاءها بأي وسيلة، ولأن الحاجة هي أم الاختراع، لذا لا عجب أن تؤدي حاجة الأسياد الملحة في طمس آثار نزواتهم الطائشة إلى ظهور مهنة رائجة تقوم على الاعتناء بالفتيات والنساء الحوامل في منازل قصية عن أعين المتطفلين حتى يفرغن من حملهن، ثم كانت الأم تغادر مباشرة بعد الولادة لتواصل حياتها كأن شيئا لم يكن، أما وليدها الغير شرعي فكان غالبا ما يترك في تلك المنازل والملاجئ للاعتناء به مقابل المال، ونادرا ما كانت الأم تعود لتفقد طفلها .. فقد كانوا أطفالا للنسيان لا يتذكرهم أحد.
وقد تهكم الناس على تلك الأماكن التي يربى فيها الأطفال غير المرغوب فيهم فأطلقوا عليها أسم مزارع الأطفال (baby farm )، لأنها كانت فعلا أشبه بمزارع الدواجن والأبقار، مع فارق أنها لم تكن تضم بهائم ولا حيوانات، وإنما أطفالا من البشر نبذهم آبائهم وأمهاتهم، لذا لا عجب أن تساء معاملتهم ويتعرضون لصنوف الإهمال والعذاب، وقد تكون الصورة التي رسمها لنا الكاتب الانجليزي الكبير تشارلز ديكنز في روايته الشهيرة "اوليفر تويست" هي خير توصيف حي ودقيق لحالة البؤس التي عاشها أولئك الأطفال المساكين. لكن بالطبع لم تكن جميع المزارع على حد سواء، ففيها الغث والسمين، فقد كانت هناك مزارع وملاجئ جيدة تدار بأشراف وتمويل من الكنيسة والجمعيات الخيرية في عموم أوربا، وفي المقابل كانت هناك أيضا مزارع خاصة أسوء بكثير من مزرعة السيدة مان في رواية أوليفر تويست، ففي عام 1970 مثلا، حوكمت امرأة تدعى مارغريت وترز بتهمة قتل أكثر من 19 طفلا في مزرعتها، ثم أدينت وأعدمت.

إ
مهنة إنسانية أم تجارة ؟

لا يخفى على أي إنسان حصيف عرك الحياة وعركته، بأن صفة الخيرية والإنسانية تنتفي تلقائيا عن أي عمل تخالطه وتشوبه غاية الربح والتكسب، فلا يمكنك أن تشيد مستشفى أو ملجأ أو روضة للأطفال ثم تضع كلمة خيري على واجهة ذلك البناء بينما هدفك الأصلي منه هو جني الأرباح الطائلة، إذ لا يمكنك أن تكون أنانيا ومضحيا في آن واحد. وعليه فأن مزارع الأطفال التي أنشئت لغاية التكسب كانت بالطبع الأسوأ والأشنع في مجال عملها، وكانت هذه المزارع تجني المال من عدة مصادر، فبالإضافة إلى التبرعات والهبات من الأثرياء والمحسنين، كان أهل الطفل يدفعون أيضا، أما بشكل دوري، أي في كل موسم أو سنة، وأما على شكل مبلغ مقطوع، أي مرة واحدة عند استلام الطفل، وهذه الأخيرة كانت هي الطريقة الفضلى، وهذا المبلغ المقطوع كان يتراوح ما بين 10 – 80 جنيها إسترلينيا، وهو مبلغ كبير في حساب تلك الأيام، لكنه لم يكن ليسد تكاليف العناية بالطفل لفترة طويلة، لذا كانت صاحبة المزرعة تحاول الادخار عن طريق تقليل كمية الطعام المقدمة للأطفال، وهكذا فأن موت الكثير منهم جوعا لم يكن بالأمر المفاجئ. كما أن مسألة العناية بعدد كبير من الأطفال معا في منزل واحد لم تكن بالمهمة السهلة، فكان إهمال الأطفال أمرا شائعا في تلك المزارع سيئة الصيت، وغالبا ما كانت صاحبة المزرعة تتخلص من عناء مراقبة الأطفال والعناية بهم عن طريق سقيهم بكميات كبيرة من المسكنات الرخيصة المصنوعة من الأفيون، وهي مسكنات قوية كانت رائجة الاستعمال في ذلك الزمان، كانت تجعل الأطفال ينامون كالملائكة لساعات طويلة، وما كان الطفل يصحو قليلا من تأثير المخدر حتى يسقى به مرة أخرى، وهكذا فأن الموت نتيجة التسمم بجرعات زائدة كانت هي النهاية الحتمية لحياته.
نسبة موت الأطفال جراء سوء التغذية والمرض والإهمال كانت كبيرة كما أسلفنا، لكن بعضهم كانوا يموتون لأسباب أخرى، فبعض صاحبات المزارع قررن اختصار الطريق مرة واحدة، فبدلا من انتظار الموت البطيء للطفل جراء الجوع والمخدر، كانت صاحبة المزرعة تقوم بقتل الطفل مباشرة بعد استلامه من أمه، عن طريق خنقه أو إغراقه أو تسميمه، وبهذا كانت تحتفظ بكل المبلغ الذي أخذته من دون أن تصرف منه قرشا واحدا على الطفل.

المصيدة

بالعودة إلى المسكينة ايفيلينا، فقد احتضنت طفلتها وبكت طويلا في تلك الليلة المشئومة، كأنما أرادت أن تهيئ نفسها لفراق مؤلم وطويل، فهي مثل العديد من الأمهات العازبات، توصلت بعد صراع نفسي مرير إلى قرار عرض طفلتها للتبني، لم يكن أمامها خيار آخر، كان عليها أن تعمل لتعيش، وما كانت لتستطيع العمل بوجود طفلة، وقد منت نفسها باسترداد الطفلة بعد شهور عدة حين تتحسن أمورها المادية.
ايفيلينا نشرت إعلانا مقتضبا في إحدى الجرائد المحلية تقول فيه : "مطلوب .. امرأة محترمة للاعتناء بطفل رضيع". وتشاء الصدف والأقدار أن تتضمن نفس تلك الجريدة، وفي نفس الصفحة، تحت إعلان ايفيلينا مباشرة، إعلانا آخر يقول : "زوجان من دون عائلة يسكنان في منزل ريفي جميل يرغبان بتبني طفل بصحة جيدة. المبلغ المطلوب، 10 جنيهات"، وكان ذلك الإعلان مذيلا بأسم "السيدة هاردنك". وفور قراءتها لهذا الإعلان شعرت المسكينة ايفيلينا بأن السماء قد استجابت لرجائها سريعا، فكتبت للسيدة هاردنك تعرض عليها تبني طفلتها دوريس. ولم تمض سوى أيام قلائل حتى استلمت برقية جوابية من السيدة هاردنك تقول فيها : "سأكون سعيدة جدا لتبني طفلة صغيرة محبوبة، طفلة أربيها وتكون بمثابة أبنتي .. نحن أناس بسطاء وحالتنا جيدة، أنا لا أريد الطفلة من أجل المال، ولكن من أجل الرفقة والسعادة المنزلية .. أنا وزوجي مولعان بالأطفال، ليس لدينا طفل من صلبنا، لهذا ستنعم الطفلة معنا بحنان العائلة ودفء المنزل".
هذا الرد بعث الطمأنينة في نفس ايفيلينا، شعرت بالسعادة لأن كل شيء أتى مطابقا لما تمنته، باستثناء مسألة المال، فايفيلينا أرادت أن تدفع مبلغا شهريا للعناية بابنتها، وكان غرضها من ذلك هو البقاء على اتصال مستمر معها، فمن يدري .. ربما تتحسن أحوالها فتتمكن من استعادتها قريبا. لكن سرعان ما خاب ظنها، فالسيدة هاردنك أصرت على تسلم مبلغ العشرة جنيهات مرة واحدة ومدفوعة بالكامل، وقد رضخت ايفيلينا في النهاية، أقنعت نفسها بأنه لا ضير من ذلك مادامت تملك عنوان السيدة هاردنك.
وخلال أسبوع واحد فقط على تبادلهما للرسائل، وصلت السيدة هاردنك إلى بلدة شلتنهام حيث تعيش ايفيلينا، أتت لاستلام الطفلة والمال، وقد شكلت رؤيتها مفاجأة وصدمة حقيقية، فقد كانت سيدة متقدمة في السن، قاسية الملامح، لم تكن بالصورة التي رسمتها ايفيلينا في مخيلتها، لكن تلك الهواجس التي دارت في نفسها سرعان ما تبددت حينما شاهدت طريقة تعاملها مع الطفلة، فقد بدت في غاية الرقة والحنان.
وهكذا تم كل شيء بسرعة، فبعد أن استلمت الطفلة ومبلغ العشرة جنيهات مع حقيبة كاملة من الثياب للطفلة، أرادت السيدة هاردنك المغادرة سريعا للحاق بالقطار، لكن ايفيلينا المسكينة لم تطق مفارقة طفلتها بسهولة، بدا كان جزءا من روحها يغادر مع دوريس، لذا أصرت على مرافقة السيدة هادرنك إلى المحطة، بل وركبت معها القطار حتى المحطة التالية، هناك ودعت أبنتها بالدموع والحسرات ثم قفلت عائدة إلى مسكنها وهي امرأة محطمة بالكامل. وبعد أسبوع استلمت رسالة من السيدة هاردنك تخبرها بان كل شيء على ما يرام وبأن دوريس تنعم معها بالسعادة والأمان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.