العقيدة في خطر
د. عائض القرني
لو لم أشاهد ما شاهدته بعيني في الدول التي زرتها لم أكتب هذا العنوان، لكني تأكدت بالفعل أن العقيدة في خطر بعدما رأيت في بعض البلدان الإسلامية انحرافاً صارخاً عن التوحيد الخالص والعقيدة الصحيحة، ورأيتُ بعيني مظاهر الشرك والوثنية والخرافة من قبور يُتمسَّح بها، ويُتبرَّك بأصحابها، وتُهدى لهم النذور، ويسأل عندها الأموات قضاء الحاجات وكشف الكربات.. وكنتُ قبل السفر إلى هذه الدول أظن أن البعض بالغ في هذه المسألة، فلما رأيتُ ما رأيت وجدتُ أن الكل قصَّر في البيان والتوضيح، وعرفتُ سرّ كون غالب القرآن والسنة عن التوحيد والدين الخالص ومسائل الإيمان وغرس العقيدة الصحيحة في النفوس، وعجبتُ لتقصيرنا نحن الدعاة وطلبة العلم في هذه المسألة التي هي أصل الأصول، وأم القضايا، ورأس العلم، وهي توحيد الباري – عز وجل – وحسن الاتباع لرسوله – صلى الله عليه وسلم – وانهماك البعض منا في جزئيات السياسة والدورات التدريبية في فن المهارة وإدارة الوقت وفن النوم وأساليب التكفير.. وإغفال دعوة الأنبياء والرسل عليهم السلام، التي تنص على (يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ).
وأقول: يا سبحان الله، أصبحت أمور الدنيا وجزئيات الفنون والتخصصات الأرضية الترابية أعظم أهمية عند البعض من مسألة التوحيد الخالص، بل إن بعضهم، حتى من مشاهير الدعاة وطلبة العلم، لو دعوته لشرح هذا الباب والسفر من أجل بيان العقيدة الصحيحة لسخر منك، وظنه موضوعاً قديماً، لكنه مستعد لأن يتحدث ساعات طويلة عن التطوير وبناء الذات وصنع الشخصية وإدارة فن التعامل مع الأشباح وأحلام اليقظة.. إلى آخر هذه القائمة.
أنا رأيتُ بعيني أضرحةً وقبوراً في كثير من الدول الإسلامية يقف عندها الناس يخاطبون الميت والولي بزعمهم، ويتوسلون إليه ويطلبونه تسهيل الذرية والرزق والصحة وكشف الكرب؛ إذاً لم يبق لله – عز وجل – شيءٌ يُدعى من أجله! وإذا سألناهم عن هذا العمل المشين قالوا: أصلاً لا نقصد الولي لذاته لكن يرفع حاجاتنا إلى الله؛ لأنه أقرب إلى الله منا!! وهذا منطق كفار قريش في عهده – صلى الله عليه وسلم – حيث قالوا وهم يعبدون الأصنام: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).
وهذه أمانة أضعها في أعناق المشايخ من الدعاة وطلبة العلم ومن له قدرة على نشر التوحيد الصحيح الخالص، وسوف يسألهم الله يوم العرض الأكبر عن علمهم ماذا عملوا به؟
أرجو من إخواني طلبة العلم حتى في دروسهم عبر الفضائيات أن يكون النصيب الأوفر منها لشرح العقيدة الصحيحة، وإنكار الشريكات والخرافات؛ فإن صوتهم واصل عبر الأثير إلى تلك الملايين التي صارت صرعى للشبهات والخرافات والدّجل وأعمال الجاهلية الأولى التي حاربها الإسلام، وبعضهم يذهب إلى دول إفريقية ليتكلم عن مقومات النجاح وهو طالب علم شرعي، وبجانبه غرفة مبنية على قبر بجانبها سادن "خادم" يجمع التبرعات والنذور لروح الولي، ويأذن لك أن تسلم على الولي الميت وتطلب منه حاجتك من ذريّة أو وظيفة أو صحة أو كشف كربة أو مغفرة ذنب!!
فماذا تقول لربك وقد رأيت الشرك بعينه أمامك ولم تبيِّن الحق؟ قال تعالى: (وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ)، وقال تعالى: (إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).
حتى أن بعضهم لما رجعنا للسعودية قال لنا: كل وعظكم عن التوحيد والعقيدة وكأن الأمة قد أشركت بربها. وهذا الكلام منه قاصمة الظهر! أجل، هل هناك أهم وأشرف وأوجب من بيان التوحيد وشرح العقيدة الصحيحة والتحذير من الشرك الذي هو منهج الأنبياء عليهم السلام؟
أم صار التحدث في فتات السياسة والكراسي ومتطلبات المعدة وتفاهات الدنيا وحقارات الفنون الرخيصة بالنسبة للإيمان بالله – عز وجل – يعني صارت هذه الأمور أعظم منزلة وأكثر أهمية من هذا الأصل الأصيل والجناب الجليل، الذي يُعدّ من يحمله ويدعو إليه من ورثة الأنبياء ومن أتباع سيد ولد آدم – صلى الله عليه وسلم -.
أرجو من الأمة أن تكرر وتتدبّر هذه الآية (قلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
جَزَاكِ الله خيرًا.**
الحمدلله . الحمدلله . الحمدلله
وبارك الله فيك