تخطى إلى المحتوى

°¨¨™¤¦ رواية " أنـــــــــت لـــــــــــي " روووووعة ¦¤™¨¨° -روايات رائعة 2024.

  • بواسطة
°¨¨™¤¦ رواية " أنـــــــــت لـــــــــــي " روووووعة ¦¤™¨¨°

خليجية


[الحلقة الأولى

مخلوقه اقتحمت حياتي

توفي عمي و زوجته في حادث مؤسف قبل شهرين ، و تركا طفلتهما الوحيدة ( رغد ) و التي تقترب من الثالثة من عمرها … لتعيش يتيمة مدى الحياة .

في البداية ، بقيت الصغيرة في بيت خالتها لترعاها ، و لكن ، و نظرا لظروف خالتها العائلية ، اتفق الجميع على أن يضمها والدي إلينا و يتولى رعايتها من الآن فصاعدا .

أنا و أخوتي لا نزال صغارا ، و لأنني أكبرهم سنا فقد تحولت فجأة إلى ( رجل راشد و مسؤول ) بعد حضور رغد إلى بيتنا .

كنا ننتظر عودة أبي بالصغيرة ، (سامر) و ( دانة ) كانا في قمة السعادة لأن عضو جديد سينضم إليهما و يشاركهما اللعب !

أما والدتي فكانت متوترة و قلقة

أنا لم يعن لي الأمر الكثير

أو هكذا كنت أظن !

وصل أبي أخيرا ..

قبل أن يدخل الغرفة حيث كنا نجلس وصلنا صوت صراخ رغد !

سامر و دانة قفزا فرحا و ذهبا نحو الباب راكضين

" بابا بابا … أخيرا ! "

قالت دانه و هي تقفز نحو أبي ، و الذي كان يحمل رغد على ذراعه و يحاول تهدئتها لكن رغد عندما رأتنا ازدادت صرخاتها و دوت المنزل بصوتها الحاد !

تنهدت و قلت في نفسي :

" أوه ! ها قد بدأنا ! "

أخذت أمي الصغيرة و جعلت تداعبها و تقدم إليها الحلوى علها تسكت !

في الواقع ، لقد قضينا وقتا عصيبا و مزعجا مع هذه الصغيرة ذلك اليوم .

" أين ستنام الطفلة ؟ "

سأل والدي والدتي مساء ذلك اليوم .

" مع سامر و دانه في غرفتهما ! "

دانه قفزت فرحا لهذا الأمر ، ألا أن أبي قال :

" لا يمكن يا أم وليد ! دعينا نبقيها معنا بضع ليال إلى أن تعتاد أجواء المنزل، أخشى أن تستيقظ ليلا و تفزع و نحن بعيدان عنها ! "

و يبدو أن أمي استساغت الفكرة ، فقالت :

" معك حق ، إذن دعنا ننقل السرير إلى غرفتنا "

ثم التفتت إلي :
" وليد ،انقل سرير رغد إلى غرفتنا "

اعترض والدي :

" سأنقله أنا ، إنه ثقيل ! "

قالت أمي :

" لكن وليد رجل قوي ! إنه من وضعه في غرفة الصغيرين على أية حال ! "

(( رجل قوي )) هو وصف يعجبني كثيرا !

أمي أصبحت تعتبرني رجلا و أنا في الحادية عشرة من عمري ! هذا رائع !

قمت بكل زهو و ذهبت إلى غرفة شقيقي و نقلت السرير الصغير إلى غرفة والدي .

عندما عدت إلى حيث كان البقية يجلسون ، وجدت الصغيرة نائمة بسلام !
لابد أنها تعبت كثيرا بعد ساعات الصراخ و البكاء التي عاشتها هذا اليوم !
أنا أيضا أحسست بالتعب، و لذلك أويت إلى فراشي باكرا .

~~~~~~~~~

نهضت في ساعة مبكرة من اليوم التالي على صوت صراخ اخترق جدران الغرفة من حدته !

إنها رغد المزعجة

خرجت من غرفتي متذمرا ، و ذهبت إلى المطبخ المنبعثة منه صرخات ابنة عمي هذه

" أمي ! أسكتي هذه المخلوقة فأنا أريد أنا أنام ! "

تأوهت أمي و قالت بضيق :

" أو تظنني لا أحاول ذلك ! إنها فتاة صعبة جدا ! لم تدعنا ننام غير ساعتين أو ثلاث والدك ذهب للعمل دون نوم ! "

كانت رغد تصرخ و تصرخ بلا توقف .
حاولت أن أداعبها قليلا و أسألها :

" ماذا تريدين يا صغيرتي ؟ "

لم تجب !

حاولت أن أحملها و أهزها … فهاجمتني بأظافرها الحادة !

و أخيرا أحضرت إليها بعض ألعاب دانه فرمتني بها !

إنها طفلة مشاكسة ، هل ستظل في بيتنا دائما ؟ ليتهم يعيدوها من حيث جاءت !

في وقت لاحق ، كان والداي يتناقشان بشأنها .

" إن استمرت بهذه الحال يا أبا وليد فسوف تمرض ! ماذا يمكنني أن أفعل من أجلها ؟ "

" صبرا يا أم وليد ، حتى تألف العيش بيننا "

قاطعتهما قائلا :

" و لماذا لا تعيدها إلى خالتها لترعاها ؟ ربما هي تفضل ذلك ! "

أزعجت جملتي هذه والدي فقال :

" كلا يا وليد ، إنها ابنة أخي و أنا المسؤول عن رعايتها من الآن فصاعدا . مسألة وقت و تعتاد على بيتنا "

و يبدو أن هذا الوقت لن ينتهي …

مرت عدة أيام و الصغيرة على هذه الحال ، و إن تحسنت بعض الشيء و صارت تلعب مع دانه و سامر بمرح نوعا ما

كانت أمي غاية في الصبر معها ، كنت أراقبها و هي تعتني بها ، تطعمها ، تنظفها ، تلبسها ملابسها ، تسرح شعرها الخفيف الناعم !

مع الأيام ، تقبلت الصغيرة عائلتها الجديدة ، و لم تعد تستيقظ بصراخ و كان على وليد ( الرجل القوي ) أن ينقل سرير هذه المخلوقة إلى غرفة الطفلين !

بعد أنا نامت بهدوء ، حملتها أمي إلى سريرها في موضعه الجديد . كان أخواي قد خلدا للنوم منذ ساعة أو يزيد .

أودعت الطفلة سريرها بهدوء .

تركت والدتي الباب مفتوحا حتى يصلها صوت رغد فيما لو نهضت و بدأت بالصراخ

قلت :

" لا داعي يا أمي ! فصوت هذه المخلوقة يخترق الجدران ! أبقه مغلقا ! "

ابتسمت والدتي براحة ، و قبلتني و قالت :

" هيا إلى فراشك يا وليد البطل ! تصبح على خير "

كم أحب سماع المدح الجميل من أمي !

إنني أصبحت بطلا في نظرها ! هذا شيء رائع … رائع جدا !

و نمت بسرعة قرير العين مرتاح البال .

الشيء الذي أنهضني و أقض مضجعي كان صوتا تعودت سماعه مؤخرا

إنه بكاء رغد !

حاولت تجاهله لكن دون جدوى !

يا لهذه الـ رغد … ! متى تسكتيها يا أمي !

طال الأمر ، لم أعد أحتمل ، خرجت من غرفتي غاضبا و في نيتي أن أتذمر بشدة لدى والدتي ، ألا أنني لاحظت أن الصوت منبعث من غرفة شقيقي ّ

نعم ، فأنا البارحة نقلت سريرها إلى هناك !

ذهبت إلى غرفة شقيقي ّ ، و كان الباب شبه مغلق ، فوجدت الطفلة في سريرها تبكي دون أن ينتبه لها أحد منهما !

لم تكن والدتي موجودة معها .

اقتربت منها و أخذتها من فوق السرير ، و حملتها على كتفي و بدأت أطبطب عليها و أحاول تهدئتها .

و لأنها استمرت في البكاء ، خرجت بها من الغرفة و تجولت بها قليلا في المنزل

لم يبد ُ أنها عازمة على السكوت !

يجب أن أوقظ أمي حتى تتصرف …

كنت في طريقي إلى غرفة أمي لإيقاظها ، و لكن …

توقفت في منتصف الطريق ، و عدت أدراجي … و دخلت غرفتي و أغلقت الباب .

والدتي لم تذق للراحة طعما منذ أتت هذه الصغيرة إلينا .

و والدي لا ينام كفايته بسببها .

لن أفسد عليهما النوم هذه المرة !

جلست على سريري و أخذت أداعب الصغيرة المزعجة و ألهيها بطريقة أو بأخرى حتى تعبت ، و نامت ، بعد جهد طويل !

أدركت أنها ستنهض فيما لو حاولت تحريكها ، لذا تركتها نائمة ببساطة على سريري و لا أدري ، كيف نمت بعدها !

هذه المرة استيقظت على صوت أمي !

" وليد ! ما الذي حدث ؟ "

" آه أمي ! "

ألقيت نظرة من حولي فوجدتني أنام إلى جانب الصغيرة رغد ، و التي تغط في نوم عميق و هادى !

" لقد نهضت ليلا و كانت تبكي .. لم أشأ إزعاجك لذا أحضرتها إلى هنا ! "

ابتسمت والدتي ، إذن فهي راضية عن تصرفي ، و مدت يدها لتحمل رغد فاعترضت :

" أرجوك لا ! أخشى أن تنهض ، نامت بصعوبة ! "

و نهضت عن سريري و أنا أتثاءب بكسل .

" أدي الصلاة ثم تابع نومك في غرفة الضيوف . سأبقى معها "

ألقيت نظرة على الصغيرة قبل نهوضي !
يا للهدوء العجيب الذي يحيط بها الآن!

بعد ساعات ، و عندما عدت إلى غرفتي ، وجدت دانه تجلس على سريري بمفردها . ما أن رأتني حتى بادرت بقول :

" أنا أيضا سأنام هنا الليلة ! "

أصبح سريري الخاص حضانة أطفال !

فدانه ، و البالغة من العمر 5 سنوات ، أقامت الدنيا و أقعدتها من أجل المبيت على سريري الجذاب هذه الليلة ، مثل رغد !

ليس هذا الأمر فقط ، بل ابتدأت سلسلة لا نهائية من ( مثل رغد ) …

ففي كل شيء ، تود أن تحظى بما حظيت به رغد . و كلما حملت أمي رغد على كتفيها لسبب أو لآخر ، مدت دانه ذراعيها لأمها مطالبة بحملها (مثل رغد ) .

أظن أن هذا المصطلح يسمى ( الغيرة ) !

يا لهؤلاء الأطفال !

كم هي عقولهم صغيرة و تافهة !

~~~~~~

كانت المرة الأولي و لكنها لم تكن الأخيرة … فبعد أيام ، تكرر نفس الموقف ، و سمعت رغد تبكي فأحضرتها إلى غرفتي و أخذت ألاعبها .

هذه المرة استجابت لملاعبتي و هدأت ، بل و ضحكت !

و كم كانت ضحكتها جميلة ! أسمعها للمرة الأولى !

فرحت بهذا الإنجاز العظيم ! فأنا جعلت رغد الباكية تضحك أخيرا !

و الآن سأجعلها تتعلم مناداتي باسمي !

" أيتها الصغيرة الجميلة ! هل تعرفين ما اسمي ؟ "

نظرت إلي باندهاش و كأنها لم تفهم لغتي . إنها تستطيع النطق بكلمات مبعثرة ، و لكن ( وليد ) ليس من ضمنها !

" أنا وليد ! "

لازالت تنظر إلى باستغراب !

" اسمي وليد ! هيا قولي : وليد ! "

لم يبد الأمر سهلا ! كيف يتعلم الأطفال الأسماء ؟

أشرت إلى عدة أشياء ، كالعين و الفم و الأنف و غيرها ، كلها أسماء تنطق بها و تعرفها . حتى حين أسألها :

" أين رغد ؟ "

فإنها تشير إلى نفسها .

" و الآن يا صغيرتي ، أين وليد ؟ "

أخذت أشير إلى نفسي و أكرر :

" وليد ! وليـــد ! أنا وليد !

أنت ِ رغد ، و أنا وليد !

من أنت ؟ "

" رغد "

" عظيم ! أنت رغد ! أنا وليد ! هيا قولي وليد ! قولي أنت وليد ! "

كانت تراقب حركات شفتيّ و لساني ، إنها طفلة نبيهة على ما أظن .

و كنت مصرا جدا على جعلها تنطق باسمي !

" قولي : أنــت ولـيـــد ! ولــيـــــــد …

قولي : وليد … أنت ولـــــيـــــــــــــــــد ! "

" أنت لــي " !!

كانت هذه هي الكلمة التي نطقت بها رغد !

( أنت لي ! )

للحظة ، بقيت اتأملها باستغراب و دهشة و عجب !

فقد بترت اسمي الجميل من الطرفين و حوّلته إلى ( لي ) بدلا من
( وليد ) !

ابتسمت ، و قلت مصححا :

" أنت وليــــــــد ! "

" أنت لـــــــــــي "

كررت جملتها ببساطة و براءة !

لم أتمالك نفسي ، وانفجرت ضحكا ….

و لأنني ضحكت بشكل غريب فإن رغد أخذت تضحك هي الأخرى !

و كلما سمعت ضحكاتها الجميلة ازدادت ضحكاتي !

سألتها مرة أخرى :

" من أنا ؟ "

" أنت لــــــــي " !

يا لهذه الصغيرة المضحكة !

حملتها و أخذت أؤرجحها في الهواء بسرور …

منذ ذلك اليوم ، بدأت الصغيرة تألفني ، و أصبحت أكبر المسؤولين عن تهدئتها متى ما قررت زعزعة الجدران بصوتها الحاد ….
انتهت العطلة الصيفية و عدنا للمدارس .

كنت كلما عدت من المدرسة ، استقبلتني الصغيرة رغد استقبالا حارا !
كانت تركض نحوي و تمد ذراعيها نحوي ، طالبة أن أحملها و أؤرجحها في الهواء !
كان ذلك يفرحها كثيرا جدا ، و تنطلق ضحكاتها الرائعة لتدغدغ جدران المنزل !

و من الناحية الأخرى ، كانت دانة تطلق صرخات الاعتراض و الغضب ، ثم تهجم على رجلي بسيل من الضربات و اللكمات آمرة إياي بأن أحملها (مثل رغد ) .

و شيئا فشيا أصبح الوضع لا يطاق ! و بعد أن كانت شديدة الفرح لقدوم الصغيرة إلينا أصبحت تلاحقها لتؤذيها بشكل أو بآخر …

في أحد الأيام كنت مشغولا بتأدية واجباتي المدرسية حين سمعت صوت بكاء رغد الشهير !
لم أعر الأمر اهتماما فقد أصبح عاديا و متوقعا كل لحظة .

تابعت عملي و تجاهلت البكاء الذي كان يزداد و يقترب !

انقطع الصوت ، فتوقعت أن تكون أمي قد اهتمت بالأمر .

لحظات ، وسمعت طرقات خفيفة على باب غرفتي .

" أدخل ! "

ألا أن أحدا لم يدخل .

انتظرت قليلا ، ثم نهضت استطلع الأمر …

و كم كانت دهشتي حين رأيت رغد واقفة خلف الباب !

لقد كانت الدموع تنهمر من عينيها بغزارة ، و وجهها عابس و كئيب ، و بكاؤها مكبوت في صدرها ، تتنهد بألم … و بعض الخدوش الدامية ترتسم عشوائيا على وجهها البريء ، و كدمة محمرة تنتصف جبينها الأبيض !

أحسست بقبضة مؤلمة في قلبي ….

" رغد ! ما الذي حدث ؟ "

انفجرت الصغيرة ببكاء قوي ، كانت تحبسه في صدرها

مددت يدي و رفعتها إلى حضني و جعلت أطبطب عليها و أحاول تهدئتها .

هذه المرة كانت تبكي من الألم .

" أهي دانة ؟ هل هي من هاجمك ؟ "

لابد أنها دانة الشقية !

شعرت بالغضب ، و توجهت إلى حيث دانة ، و رغد فوق ذراعي .

كانت دانة في غرفتها تجلس بين مجموعة من الألعاب .

عندما رأتني وقفت ، و لم تأت إلي طالبة حملها ( مثل رغد ) كالعادة ، بل ظلت واقفة تنظر إلى الغضب المشتعل على وجهي .

" دانة أأنت من ضرب رغد الصغيرة ؟ "

لم تجب ، فعاودت السؤال بصوت أعلى :

" ألست من ضرب رغد ؟ أيتها الشقية ؟ "

" إنها تأخذ ألعابي ! لا أريدها أن تلمس ألعابي "

اقتربت من دانة و أمسكت بيدها و ضربتها ضربة خفيفة على راحتها و أنا أقول :

" إياك أن تكرري ذلك أيها الشقية و إلا ألقيت بألعابك من النافذة "

لم تكن الضربة مؤلمة ألا أن دانة بدأت بالبكاء !

أما رغد فقد توقفت عنه ، بينما ظلت آخر دمعتين معلقتين على خديها المشوهين بالخدوش .

نظرت إليها و مسحت دمعتيها .

ما كان من الصغيرة إلا أن طبعت قبلة مليئة باللعاب على خدي امتنانا !

ابتسمت ، لقد كانت المرة الأولى التي تقبلني فيها هذه المخلوقة ! ألا أنها لم تكن الأخيرة ….

~~~~~~

توالت الأيام و نحن على نفس هذه الحال …
ألا أن رغد مع مرور الوقت أصبحت غاية في المرح …
أصبحت بهجة تملأ المنزل … و تعلق الجميع بها و أحبوها كثيرا …
إنها طفلة يتمنى أي شخص أن تعيش في منزله …

و لان الغيرة كبرت بين رغد و دانة مع كبرهما ، فإنه كان لابد من فصل الفتاتين في غرفتين بعيدا عن بعضهما ، و كان علي نقل ذلك السرير و للمرة الثالثة إلى مكان آخر …

و هذا المكان كان غرفة وليد !

ظلت رغد تنام في غرفتي لحين إشعار آخر .
في الواقع لم يزعجني الأمر ، فهي لم تعد تنهض مفزوعة و تصرخ في الليل إلا نادرا …

كنت أقرأ إحدى المجلات و أنا مضطجع على سريري ، و كانت الساعة العاشرة ليلا و كانت رغد تغط في نوم هادئ

و يبدو أنها رأت حلما مزعجا لأنها نهضت فجأة و أخذت تبكي بفزع …

أسرعت إليها و انتشلتها من على السرير و أخذت أهدئ من روعها
كان بكاؤها غريبا … و حزينا …

" اهدئي يا صغيرتي … هيا عودي للنوم ! "

و بين أناتها و بكاؤها قالت :

" ماما "

نظرت إلى الصغيرة و شعرت بالحزن …
ربما تكون قد رأت والدتها في الحلم

" أتريدين الـ ماما أيتها الصغيرة ؟ "

" ماما "

ضممتها إلى صدري بعطف ، فهذه اليتيمة فقدت أغلى من في الكون قبل أن تفهم معناهما …
جعلت أطبطب عليها ، و أهزها في حجري و اغني لها إلى أنا استسلمت للنوم .

تأملت وجهها البريء الجميل … و شعرت بالأسى من أجلها .

تمنيت لحظتها لو كان باستطاعتي أن أتحول إلى أمها أو أبيها لأعوضها عما فقدت .

صممت في قرارة نفسي أن أرعى هذه اليتيمة و أفعل كل ما يمكن من أجلها …

و قد فعلت الكثير …

و الأيام …. أثبتت ذلك …

~~~~~~

ذهبنا ذات يوم إلى الشاطئ في رحلة ممتعة ، و لكوننا أنا و أبي و سامر الصغير ( 8 سنوات ) نجيد السباحة ، فقد قضينا معظم الوقت وسط الماء .

أما والدتي ، فقد لاقت وقتا شاقا و مزعجا مع دانة و رغد !

كانت رغد تلهو و تلعب بالرمال المبللة ببراءة ، و تلوح باتجاهي أنا و سامر ، أما دانة فكانت لا تفتأ تضايقها ، تضربها أو ترميها بالرمال !

" وليد ، تعال إلى هنا "

نادتني والدتي ، فيما كنت أسبح بمرح .

" نعم أمي ؟ ماذا تريدين ؟ "

و اقتربت منها شيئا فشيئا . قالت :
" خذ رغد لبعض الوقت ! "

" ماذا ؟ لا أمي ! "

لم أكن أريد أن أقطع متعتي في السباحة من أجل رعاية هذه المخلوقة ! اعترضت :

" أريد أن أسبح ! "

" هيا يا وليد ! لبعض الوقت ! لأرتاح قليلا "

أذعنت للأمر كارها … و توجهت للصغيرة و هي تعبث بالرمال ، و ناديتها :

" هيا يا رغد ! تعالي إلي ! "

ابتهجت كثيرا و أسرعت نحوي و عانقت رجلي المبللة بذراعيها العالقة بهما حبيبات الرمل الرطب ، و بكل سرور !

جلست إلى جانبها و أخذت أحفر حفرة معها . كانت تبدو غاية في السعادة أما أنا فكنت متضايقا لحرماني من السباحة !

اقتربت أكثر من الساحل ، و رغد إلى جانبي ، و جعلتها تجلس عند طرفه و تبلل نفسها بمياه البحر المالحة الباردة

رغد تكاد تطير من السعادة ، تلعب هنا و هناك ، ربما تكون المرة الأولى بحياتها التي تقابل فيها البحر !

أثناء لعبها تعثرت و وقعت في الماء على وجهها …

" أوه كلا ! "

أسرعت إليها و انتشلتها من الماء ، كانت قد شربت كميه منه ، و بدأت بالسعال و البكاء معا .

غضبت مني والدتي لأنني لم أراقبها جيدا

" وليد كيف تركتها تغرق ؟ "

" أمي ! إنها لم تغرق ، وقعت لثوان لا أكثر "

" ماذا لو حدث شيء لا سمح الله ؟ يجب أن تنتبه أكثر . ابتعد عن الساحل . "

غضبت ، فأنا جئت إلى هنا كي استمتع بالسباحة ، لا كي أراقب الأطفال !

" أمي اهتمي بها و أنا سأعود للبحر "

و حملتها إلى أمي و وضعتها في حجرها ، و استدرت مولّيا .
في نفس اللحظة صرخت دانة معترضة و دفعت برغد جانبا ، قاصدة إبعادها عن أمي

رغد ، و التي لم تكد تتوقف عن البكاء عاودته من جديد .

" أرأيت ؟ "

استدرت إلى أمي ، فوجدت الطفلة البكاءة تمد يديها إلي …
كأنها تستنجد بي و تطلب مني أخذها بعيدا .

عدت فحملتها على ذراعي فتوقفت عن البكاء ، و أطلقت ضحكة جميلة !

يا لخبث هؤلاء الأطفال !

نظرت إلى أمي ، فابتسمت هي الأخرى و قالت :

" إنها تحبك أنت يا وليد ! "

قبيل عودتنا من هذه الرحلة ، أخذت أمي تنظف الأغراض ، و الأطفال .

" وليد ، نظف أطراف الصغيرة و البسها هذه الملابس "

تفاجأت من هذا الطلب ، فأنا لم أعتد على تنظيف الأطفال أو إلباسهم الملابس !

ربما أكون قد سمعت شيئا خطا !

" ماذا أمي ؟ "

" هيا يا وليد ، نظف الرمال عنها و ألبسها هذه ، فيما اهتم أنا بدانة و بقية الأشياء "

كنت أظن أنني أصبحت رجلا ، في نظر أمي على الأقل …
و لكن الظاهر أنني أصبحت أما !

أماً جديدة لرغد !

نعم … لقد كنت أما لهذه المخلوقة …

فأنا من كان يطعمها في كثير من الأحيان ، و ينيمها في سريره ، و يغني لها ، و يلعب معها ، و يتحمل صراخها ، و يستبدل لها ملابسها في أحيان أخرى !

و في الواقع …

كنت أستمتع بهذا الدور الجديد …

و في المساء ، كنت أغني لها و أتعمد ان أجعلها تنام في سريري ، و أبقى أتأمل وجهها الملائكي البريء الرائع … و أشعر بسعادة لا توصف !

هكذا ، مرت الأيام …

و كبرنا … شيئا فشيئا …

و أنا بمثابة الأم أو المربية الخاصة بالمدللة رغد ، و التي دون أن أدرك … أو يدرك أحد …

أصبحت تعني لي …

أكثر من مجرد مخلوقة مزعجة اقتحمت حياتي منذ الصغر ! ….

يتبع


الحلقة الثانية

مهووس بك ..!!

في كل ليلة أقرأ قصة قصيرة لصغيرتي رغد قبل النوم . و هذه هي آخر ليلة تباتها رغد في غرفتي بعد ثلاث سنوات من قدومها للمنزل .

ثلاث سنوات من الرعاية

و الدلال و المحبة أوليتها جميعا لصغيرتي ، كأي أم أو أب !

إنها الآن في السادسة و قد ألحقناها بالمدرسة هذا العام و كانت في غاية السعادة !

في كل يوم عندما تعود تخبرني بعشرات الأشياء التي شاهدتها أو تعلمتها في المدرسة . و في كل يوم بعد تناولها الغذاء أتولى أنا تعليمها دروسها البسيطة
و قد كانت تلميذة نجيبة !

بعد الانتهاء من الدروس تأخذ صغيرتي دفتر التلوين الخاص بها و علبة الألوان ، و تجلس على سريرها و تبدأ بالتلوين بهدوء

تقريبا بهدوء !

" وليد لوّن معي ! "

لقد كنت شاردا و أنا أتأملها و أتخيل أنني و منذ الغد لن أجد سريرها في تلك الزاوية و أستمع إلى ( هذيانها ) و تحدثها إلى نفسها قبل النوم !

" و ليــــــــــــــــد لوّن معي ! "

هذه المرة انتبهت إلى صوتها الحاد ، نظرت إليها و ابتسمت ! لقد كنت كثيرا ما ألوّن معها في هذا الدفتر أو غيره ! و هي تحلق سعادة حينما تراقبني و أنا ألون !

أطفال … فقط أطفال !

" حسنا "

قلت ذلك و هممت بالنهوض من على سريري و التوجه إليها ، و لكنها و بسرعة قفزت هي و دفترها و علبة ألوانها و هبطت فوق سريري في ثانيتين !

بدأت كالعادة تختار لي الصفحة التي تريد مني تلوينها و قد كانت رسمة لفتاة صغيرة تحمل حقيبة المدرسة !

" صغيرتي … لم لا تلونين هذه ؟ فهي تشبهك ! "

قلت لها ذلك ، فابتسمت و أخذت تقلب دفترها بحثا عن شيء ما ، ثم قالت :

" لا يوجد ولد يشبهك ! سأرسمك ! "

و أمسكت بالقلم و أخذت ( ترسمني ) في إحدى الصفحات … و كم كانت الرسمة مضحكة ، و لاحظت أنها رسمت خطا طويلا أسفل الأنف !

" ما هذا "

" شارب ! "

" ماذا !؟ و لكن أنا لا شارب لدي ! "

" عندما تكبر مثل أبي سيكون لديك شارب طويل هكذا لأنك طويل ! "

ضحكت كثيرا كما ضحكت هي الأخرى !

إن طولي قد أزداد بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة ، و يبدو أنني سأصبح أطول من والدي !

قمنا بعد ذلك بتلوين الصورتين ( رغد الصغيرة ، و وليد ذي الشارب الطويل ) !

من كان منا يتوقع … أن هاتين الصورتين ستعيشان معنا … كل ذلك العمر …؟

عندما حل الظلام ، قمت بنقل سرير رغد و أشيائها الأخرى إلى غرفتها الجديدة .
و كانت صغيرة و مجاورة لغرفتي .

الصغيرة كانت مسرورة للغاية ، فقد أصبح لها غرفتها الخاصة مثل دانة و لم يعد بمقدور دانة أن ( تعيّرها ) كما تفعل دائما .

العلاقة بين هاتين الفتاتين كانت سيئة !

بالنسبة لي ، فقد كنت حزينا بهذا الحدث … فأنا أرغب في أن تبقى الصغيرة معي و تحت رعايتي أكثر من ذلك … إنها تعني لي الكثير …

انتهينا أنا و أمي من ترتيب الأشياء في الغرفة ، و رغد تساعدنا . قالت أمي بعد ذلك :

" و الآن يا رغد … هاقد أصبح لديك غرفة خاصة ! اعتني بها جيدا ! "

" حسنا ماما "

و جاء صوت دانة من مكان ما قائلة :

" لكن غرفتي هي الأجمل . هذه صغيرة و وحيدة مثلك "

جميعنا استدرنا نحو دانة ، و بعين الغضب . فهي لا تترك فرصة لمضايقة رغد إلا و استغلتها .

" لكنني لست وحيدة ، و لن أشعر بالخوف لأن وليد قريب مني "

" لكن وليد ليس أمك و لا أباك و لا أخاك ! إذن أنت وحيدة "

هذه المرة والدتي زجرت دانة بعنف و أمرتها بالانصراف . لقد كانت لدي رغبة في صفع هذه الفتاة الخبيثة لكنني لم أشأ أن أزيد الأمر تعقيدا .
إنني أدرك أن الأمور تزداد سوءا بين دانة و رغد ، و لا أدري إن كان الوضع سيتغير حالما تكبران …

اعتقدت أن الأمر قد انتهى في وقته ، ألا أنه لم ينته …
بينما كنت غاطا في نومي ، سمعت صوتا أيقظني من النوم بفزع …

عندما فتحت عيني رأيت خيال شخص ما يقف إلى جانبي … كان الظلام شديدا و كنت بين النوم و الصحوة … استيقظت فجأة و استطاعت طبلة أذني التقاط الصوت و تمييزه …

كانت رغد

نهضت ، و أنرت المصباح المجاور ، و من خلال إنارته الخفيفة لمحت ومض دموع تسيل على خد الصغيرة …

مددت يدي و تحسست وجهها الصغير فبللتني الدموع …

" رغد ! ما بك عزيزتي ؟ "

قفزت رغد إلى حضني و أطلقت صرخات بكاء قوية و حزينة … إنني لم أر دموع غاليتي هذه منذ أمد بعيد … فكيف لي برؤيتها بهذه الحال

" رغد … أخبريني ماذا حدث ؟ هل رأيت حلما مزعجا "

اندفعت و هي تقول كلماتها هذه بشكل مبعثر و مضطرب … و بمرارة و حزن عميقين :

" لماذا ليس لدي أم ؟
لماذا مات أبي ؟
هل الله لا يحبني لذلك لم يعطني أما و لا أبا ؟
هل صحيح أن هذا ليس بيتي ؟
أين بيتي إذن فأنا أريد أن يصبح لدي غرفة كبيرة و جميلة مثل غرفة دانة "

طوقت الصغيرة بذراعي و جعلت أمسح رأسها و دموعها و أهدئ من حالتها

لم أكن أتخيل أن مثل هذه التساؤلات تدور في رأس طفلة صغيرة في السادسة من العمر …
بل إنها لم تذكر لي شيئا كهذا من قبل رغم ثرثرتها التي لا تكاد تنتهي حين تبدأ …

" صغيرتي رغد ! ما هذا الكلام ! من قال لك ذلك ؟ "

" دانة دائما تقول هذا … هي لا تحبني … لا أحد يجبني "

شعرت بالغيظ من أختي الشقية ، في الغد سوف أوبخها بعنف . قلت محاولا تهدئة الصغيرة المهمومة :

" رغد يا حلوتي … دعك من دانة فهي لا تعرف ما تقول ، سوف أوقفها عند حدها أبي و أمي هما أبوك و أمك "

قاطعتني :

" غير صحيح ! لا أم و لا أب لدي و لا أحد يحبني "

" ماذا عني أنا وليد ؟ ألا أحبك ؟ اعتبريني أمك و أباك و كل شيء "

توقفت رغد عن البكاء و نظرت إلي قليلا ثم قالت :

" و لكن ليس لديك شارب ! "

ضحكت ! فأفكار هذه الصغيرة غاية في البساطة و العفوية ! أما هي فقد ابتسمت و مسحت دموعها …

قلت :

" حين أكبر قليلا بعد فسيصبح لدي شاربان طويلان كما رسمت ِ ! أ نسيت !؟ "

ابتسمت أكثر و قالت :

" و هل ستشتري لي بيتا كبيرا فيه غرفة كبيرة و جميلة تخصني ؟ "

ضحكت مجددا … و قلت :

" نعم بالتأكيد ! و تصبحين أنت سيدة المنزل ! "

الصغيرة ابتسمت برضا و عانقتني بسرور :

" أنا أحبك كثيرا يا وليد وحين أكبر سآخذك معي إلى بيتي الجديد ! "
اللعب هو هواية الأطفال المفضلة على الإطلاق ، و لأنني ( وليد الكبير ) و لأن دانة هي ( الطرف المعادي ) فإن رغد لم تجد من تلعب معه في بيتنا هذا غير سامر !

كثيرا ما كانا يقضيان الساعات الطوال باللهو معا ، ربما كان هذا متنفسا جيدا للصغيرة .

عندما كانت رغد تسكن غرفتي ، كانت كلما بقيت في الغرفة لسبب أو لآخر ، أتت هي الأخرى و عكفت على دفتر تلوينها بسكون …

كنت أستذكر دروسي و ألقي عليها نظرة من حين لآخر … و كان ذلك يسعدني …

بعد أن استقلت في غرفتها ، لم أعد أراها معي …

كانت كثيرا ما تقضي الوقت الآن مع سامر في اللعب !

في أحد الأيام ، عدت من المدرسة ، و حين دخلت البيت وجدت الصغيرة تشاهد التلفاز …

" رغد ! لقد عدت ! "

و فتحت ذراعي ، فهي معتادة أن تأتي لحضني كلما عدت من المدرسة ، كأنها تعبر
عن شوقها و افتقادها لي …

ابتسمت الصغيرة ثم قفزت قاصدة الحضور إلي ، و في نفس اللحظة دخل شقيقي سامر إلى نفس الغرفة و هو يقول :

" أصلحته يا رغد ! هيا بنا "

و بشكل فاجأني و لم أتوقعه ، استدارت إلى سامر و ركضت نحوه ، و غادرا الغرفة سويا …

ذراعاي كانتا لا تزالان معلقتين في الهواء … بانتظار الصغيرة …

نظرت من حولي أتأكد من أن أحدا لم ير هذا … قد يكون موقفا عاديا لكنني شعرت بغيط و خيبة لحظتها … ما الذي يشغل رغد عني

لحقت بالاثنين ، فرأيتهما يركبان دراجة سامر التي يبدو أن خللا كان قد أصابها مؤخرا و أصلحه سامر قبل قليل …

كانت رغد في غاية السرور و هي تجلس على مقعد خلفي ، و سامر ينطلق بدراجته الهوائية مسرعا …

ذهبت إلى غرفتي و استلقيت على سريري و أخذت أفكر …

مؤخرا ، ظهرت أمور عدة تشغل الصغيرة … كالمدرسة و الواجبات المدرسية و صديقاتها الجدد … و دفاتر تلوينها الكثيرة … و اللعب مع سامر !

طردت الأفكار التي استتفهتها فورا من رأسي و انصرفت إلى أمور أخرى …

إنها السنة الأخيرة لي في المدرسة الإعدادية و والدتي تعمدت إبعاد رغد عني قدر الإمكان لأتفرغ لدراستي .

رغد … رغد … رغد !

لماذا لا أستطيع طردها الآن من رأسي إنها طفلة مزعجة لا تحب غير اللعب و العناية بها كانت مسؤولة كبيرة و مضجرة ألقيت على عاتقي و ها أنا حر أخيرا !

في الواقع ، ظل التفكير بهذه الصغيرة يشغلني طوال ذلك اليوم … لم أستطع التركيز في الدراسة ، و قبيل غروب الشمس قررت القيام بجولة في الشارع على الأقدام ، علني أطرد رغد من دماغي …

الجو كان لطيفا و نسماته عليلة و قد استمتعت بنزهتي الصغيرة …

التقيت في طريقي بشخص أبغضه كثيرا ! إنه عمّار …

عمار هذا هو الابن الوحيد لأحد الأثرياء ، و هو زميلي في المدرسة ، ولد بغيض
مستهتر سيئ الخلق ، معروف و مشهور بين الجميع بانحرافه و فساده … و كان آخر شيء أتمنى أن ألتقي به و أنا في مزاجي العكر هذا اليوم !

" وليد ؟ تتسكع في الشوارع عوضا عن الدراسة !؟ لسوف أفضحك غدا في المدرسة "

قال لي هذا و أطلق ضحكة قوية و بغيضة ، أوليته ظهري و ابتعدت متجاهلا إياه

قال :

" انتظر ! لم لا تأت معي نلهو قليلا ؟ و أعدك بأن تنجح رغم انف الجميع ! مثلي "

استدرت إلى عمّار و قلت بغضب :

" حلّ عني أيها البغيض ! لا يشرفني التحدث إلى شخص مثلك ! أيها المنحرف الفاسد "

لا ادري ما الذي دفعني لقول ذلك ، فأنا لم أعتد توجيه مثل هذا الكلام لأي كان …

و لكني كنت مستاءا …

عمار شعر بغيظ ، و سدد نحوي لكمة قوية موجعة و تعاركنا !

منذ ذلك اليوم ، و أنا و هو في خصام مستمر ، هو لا يفتأ يستفزني كلما وجد الفرصة السانحة لذلك ، و أنا أتجاهله حينا و أتعارك معه حينا آخر …
و الأمر بيننا انتهى أسوا نهاية … كما سترون …

في طريق عودتي للبيت ، مررت بإحدى المكتبات ، و وجدت نفسي أدخلها و أفتش بين دفاتر تلوين الأطفال ، و أشتري مجموعة جديدة … من أجل رغد

إنني سأعترف ، بأنني فشلت في إزاحتها بعيدا عن تفكيري ذلك اليوم … لقد كانت المرة الأولى التي تترك فيها ذراعي ّ معلقين في الهواء … و تذهب بعيدا

حين وصلت إلى البيت ، كانت رغد في حديقة المنزل ، مع سامر و دانة ، كانوا يراقبون العصفورين الحبيسين في القفص ، و اللذين أحضرهما والدي قبل أيام …

كانت ضحكاتها تملأ الأجواء …

كم هي رائعة هذه الطفلة حين تضحك !

و كم هي مزعجة حين تبكي !

اعتقدت أنني لن أثير انتباهها فيما هي سعيدة مع شقيقي ّ و العصفورين … هممت بالدخول إلى داخل المنزل و سرت نحو الباب … و أنا ممسك بالكيس الصغير الذي يحوي دفاتر التلوين …

" وليــــــــــــــد " !

وصلني صوتها الحاد فاستدرت للخلف ، فإذا بها قادمة تركض نحوي فاتحة ذراعيها و مطلقة ضحكة كبيرة …

فتحت ذراعي و استقبلتها في حضني و حملتها بفرح و درت بها حول نفسي بضع دورات …

" صغيرتي … جلبت لك شيئا تحبينه ! "

نظرت إلى الكيس ثم انتزعته من يدي ، و تفقدت ما بداخله

أطلقت هتاف الفرح و طوّقت عنقي بقوة كادت تخنقني !

بعدها قالت :

" لوّن معي ! "

ابتسمت برضا بل بسعادة و قلت :

" أمرك سيدتي ! "

اعتقد … بل أنا موقن جدا … بأنني أصبحت مهووسا بهذه الطفلة بشكل لم أكن لأتصوره أو أعمل له حسابا …

و سأجن … بالتأكيد … فيما لو حدث لها مكروه ٌ … لا قدّر الله ….
يتبع

الحلقة الثالثة

أمنيـــة رغـــــد … !!

أشياء ثلاثة تشغل تفكيري و تقلقني كثيرا في الوقت الراهن

دراستي و امتحاناتي
رغد الصغيرة
و الأوضاع السياسية المتدهورة في بلدتنا و التي تنذر بحرب موشكة !

إنه يوم الأربعاء ، لم أذهب للمدرسة لأن والدتي كانت متوعكة قليلا في الصباح و آثرت البقاء إلى جانبها .

إنها بحالة جيدة الآن فلا تقلقوا

كنت أجلس على الكرسي الخشبي خلف مكتبي الصغير ، و مجموعة من كتبي و دفاتري مفتوحة و مبعثرة فوق المكتب .

لقد قضيت ساعات طويلة و أنا أدرس هذا اليوم ، ألا أن الأمور الثلاثة لم تبرح رأسي

الدراسة ، أمر بيدي و أستطيع السيطرة عليه ، فها أنا أدرس بجد

أوضاع البلد السياسية هي أمر ليس بيدي و لا يمكنني أنا فعل أي شيء حياله !

أما رغد الصغيرة …

فهي بين يدي … و لا أملك السيطرة على أموري معها !

و آه من رغد !

يبدو أن التفكير العميق في ( بعض الأشياء ) يجعلها تقفز من رأسك و تظهر أمامك !

هذا ما حصل عندما طرق الباب ثم فتح بسرعة قبل أن أعطى الفرصة المفروضة للرد على الطارق و السماح له بالدخول من عدمه !

" وليـــد وليـــــــــد و ليـــــــــــــــــــــــــد ! "

قفزت رغد فجأة كالطائر من مدخل الغرفة إلى أمام مكتبي مباشرة و هي تناديني و تتحدث بسرعة فيما تمد بيدها التي تحمل أحد كتبها الدراسية نحوي !

" وليد علّمتنا المعلمة كيف نصنع صندوق الأماني هيا ساعدني لأصنع واحدا كبيرا يكفي لكل أمنياتي بسرعة ! "

إنني لم أستوعب شيئا فقد كانت هذه الفتاة في رأسي قبل ثوان و كانت تلعب مع سامر على ما أذكر !

نظرت إليها و ابتسمت و أنا في عجب من أمرها !

" رويدك صغيرتي ! مهلا مهلا ! متى عدت من المدرسة ؟ "

أجابتني على عجل و هي تمد يدها و تمسك بيدي تريد مني النهوض :

" عدت الآن ، أنظر وليد الطريقة في هذه الصفحة هيا اصنع لي صندوقا كبيرا ! "

تناولت الكتاب من يدها و ألقيت نظرة !

إنه درس يعلم الأطفال كيفية صنع مجسم أسطواني الشكل من الورق !

و صغيرتي هذه جاءتني مندفعة كالصاروخ تريد مني صنع واحد !

تأملتها و ابتسمت ! و بما إنني أعرفها جيدا فأنا متأكد من أنها سوف لن تهدأ حتى أنفذ أوامرها !

قلت :

" حسنا سيدتي الصغيرة ! سأبحث بين أشيائي عن ورق قوي يصلح لهذا ! "

بعد نصف ساعة ، كان أمامنا أسطوانة جميلة مزينة بالطوابع الملصقة ، ذات فتحة علوية تسمح للنقود المعدنية ، و النقود الورقية ، و الأماني الورقية كذلك بالدخول !

رغد طارت فرحا بهذا الإنجاز العظيم ! و أخذت العلبة الأسطوانية و جرت مسرعة نحو الباب !

" إلى أين "

سألتها ، فأجابتني دون أن تتوقف أو تلتفت إلي :

" سأريها سامر ! "

و انصرفت …

اللحظات السعيدة التي قضيتها قبل قليل مع الطفلة و نحن نصنع العلبة ، و نلصق الطوابع ، و نضحك بمرح قد انتهت …

أي نوع من الجنون هذا الذي يجعلني أعتقد و أتصرف على أساس أن هذه الطفلة هي شيء يخصني

كم أنا سخيف !

انتظرت عودتها ، لكنها لم تعد …

لابد أنها لهت مع سامر و نسيتني !

نسيت حتى أن تقول لي ( شكرا ) ! أو أن تغلق الباب !

غير مهم ! سأطرد هذا التفكير المزعج عن مخيلتي و أتفرغ لكتبي … أو حتى … لقضايا البلد السياسة فهذا أكثر جدوى !

بعد ساعة ، عادت رغد …

كان الصندوق لا يزال في يدها ، و في يدها الأخرى قلما .

اقتربت مني و قالت :

" وليد … أكتب كلمة ( صندوق الأماني ) على الصندوق ! "

تناولت الصندوق و القلم و كتبت الكلمة ، و أعدتهما إليها دون أي تعليق أو حتى ابتسامة

هل انتهينا ؟

صرفت نظري عنها إلى الكتاب الماثل أمامي فوق المكتب ، منتظرا أن تنصرف

يجب أن تنتبه إلى أنها لم تشكرني !

" وليد … "

رفعت بصري إليها ببطء ، كانت تبتسم ، و قد تورّد خداها قليلا !

لابد أنها أدركت أنها لم تشكرني !

قلت بنبرة جافة إلى حد ما :

" ماذا الآن ؟ "

" هل لا أعطيتني ورقة صغيرة ؟ "

يبدو أن فكرة شكري لا تخطر ببالها أصلا !

تناولت مفكرتي الصغيرة الموضوعة على المكتب ، و انتزعت منها ورقة بيضاء ، و سلمتها إلى رغد

أخذتها الصغيرة و قالت بسرعة :

" شكرا ! "

ثم ابتعدت …

ظننتها ستخرج ألا أنها توجهت نحو سريري ، جلست فوقه ، و على المنضدة المجاورة و ضعت ( الصندوق ) و الورقة … و همّت بالكتابة !

أجبرت عيني ّ على العودة إلى الكتاب المهجور … لكن تفكيري ظل مربوطا عند تلك المنضدة !

" وليد … "

مرة أخرى نادتني فأطلقت سراح نظري إليها …

" نعم ؟"

سألتني :

" كيف أكتب كلمة ( عندما ) " ؟

نظرت من حولي باحثا عن ( اللوح ) الصغير الذي أعلم رغد كيفية كتابة الكلمات عليه ، فوجدته موضوعا على أحد أرفف المكتبة ، فهممت بالنهوض لإحضاره ألا أن رغد قفزت بسرعة و أحضرته إلي قبل أن أتحرك !

أخذته منها ، و كتبت بالقلم الخاص باللوح كلمة ( عندما ) .

تأملتها رغد ثم عادت إلى المنضدة …

بعد ثوان ، رفعت رأسها إلي …

" وليد ! "

" نعم صغيرتي ؟ "

" كيف أكتب كلمة ( أكبُر ) ؟ "

كتبت الكلمة بخط كبير على اللوح ، و رفعته لتنظر إليه .

ثوان أخرى ثم عادت تسألني :

" وليد ! "

ابتسمت ! فطريقتها في نطق اسمي و مناداتي بين لحظة و أخرى تدفع إي كان للابتسام !

" ماذا أميرتي ؟ "

" كيف أكتب كلمة ( سوف ) "

كتبت الكلمة و أريتها إياها ، صغيرتي كانت مؤخرا فقط قد بدأت بتعلم كتابة الكلمات بحروف متشابكة ، و لا تعرف منها إلا القليل …

بقيت أراقبها و أتأملها بسرور و عطف !

كم هي بريئة و بسيطة و عفوية !

يا لها من طفلة !

رفعت رأسها فوجدتني أنظر إليها فسألت مباشرة :

" كيف أكتب كلمة ( أتزوج ) ؟ "

فجأة ، أفقت من نشوة التأمل البريء …

هناك كلمة غريبة دخيلة وصلت إلى أذني ّ في غير مكانها !

حدقت في رغد باهتمام ، و اندهاش …

هل قالت ( أتزوج )

أتزوج !

ألا تلاحظون أنها كلمة ( كبيرة ) بعض الشيء ! بل كبيرة جدا !

سألتها لأتأكد :

" ماذا رغد "

قالت و بمنتهى البساطة :

" أتزوج ! كيف أكتبها "

أنا مندهش و متفاجيء …

و هي تنظر إلي منتظرة أن أكتب الكلمة على لوحها الصغير …

أمسكت بالقلم بتردد و شرود … و كتبت الكلمة ( الكبيرة ) ببطء ، ثم عرضتها عليها فأخذت تكتبها حرفا حرفا …

انتهت من الكتابة ، فوضعت اللوح على مكتبي ، في انتظار الكلمة التالية …

انتظرت …

و أنتظرت …

لكنها لم تتكلم

لم تسألني عن أي شيء

رأيتها تطوي الورقة الصغيرة ، ثم تدخلها عبر الفتحة داخل صندوق الأماني !

( عندما أكبر سوف أتزوج …. ؟ )

الاسم الذي تلا كلمة أتزوج هو اسم تعرف رغد كيف تكتبه !

كأي اسم من أسماء أفراد عائلتنا أو صديقاتها …

كـ وليد ، أو سامر ، أو أي رجل !

رغد الصغيرة !

ما الذي تفعلينه !

الآن ، هي قادمة نحوي …

و الصندوق في يدها …

" وليد اكتب أمنيتك ! "

" ماذا صغيرتي "

" أكتب أمنيتك و ضعها بالداخل ، و حينما نكبر نفتح الصندوق و نقرأ أمنياتنا و نرى ما تحقق منها ! هكذا هي اللعبة ! "

إنني قد افعل أشياء كثيرة قد تبدو سخيفة ، أما عن وضعي لأمنيتي في صندوق ورقي خاص بطفلتي هذه ، فهو أمر سأترك لكم انتم الحكم عليه !

نزعت ورقة من مفكرتي ، و كتبت إحدى أمنياتي !

فيما أنا اكتب ، كانت رغد تغمض عينيها لتؤكد لي أنها لا ترى أمنيتي !

أي أمنية تتوقعون أنني أدخلتها في صندوق الأماني الخاص بصغيرتي العزيزة …

لن أخبركم !

بعد فراغي من الأمر ، طلبت مني رغد أن أحفظ الصندوق في أحد أرفف مكتبتي ، لأنها تخشى أن تضيعه أو تكتشف دانة وجوده فيما لو ضل في غرفتها !

" وليد لا تفتح الصندوق أبدا ! "

" أعدك بذلك ! "

ابتسمت رغد ، ثم انطلقت نحو الباب مغادرة الغرفة و هي تقول :

" سأخبر سامر بأنني انتهيت ! "

بعد مغادرتها ، تملكتني رغبة شديدة في معرفة ما الذي كتبته في ورقتها

كدت انقض وعدي و أفتح الصندوق من شدة الفضول …

لكني نهرت نفسي بعنف … لن أخيب ثقة الصغيرة بي أبدا

( عندما أكبر سوف أتزوج … )

من يا رغد

من ؟

من
في عصر اليوم ذاته ، قرر والدي أخذنا لنزهة قصيرة إلى إحدى الملاهي ، حسب طلب و إلحاح دانة !

أنا لم أشأ الذهاب ، فأنا لم أعد طفلا و لا تثير الملاهي أي اهتمام لدي ، ألا أن والدتي أقنعتني بالذهاب من باب الترويح عن النفس لاستئناف الدراسة !

قضينا وقتا جيدا …

وقفت رغد أمام إحدى الألعاب المخيفة و أصرت على تجربتها !

طبعا لم يوافق أحد على تركها تركب هذا القطار السريع المرعب ، و كما أخبرتكم

فإنها حين ترغب في شيء فإنها لن تهدأ حتى تحصل عليه !

و حين تبكي ، فإنها تتحول من رغد إلى رعد !

والدي زجرها من باب التأديب ، إذ أن عليها أن تطيع أمره حين يأمرها بشيء

توقفت رغد عن البكاء ، و سارت معنا على مضض …

كانت تمشي و رأسها للأسفل و دموعها تسقط إلى الأرض !

أنا وليد لا أتحمّل رؤيتها هكذا مطلقا … لا شيء يزلزلني كرؤيتها حزينة وسط الدموع !

حسنا يا رغد ! فقط للمرة الأولى و الأخيرة سأركب معك هذا القطار ، لتري كم هو مخيف و مرعب ! "

أعترض والداي ، ألا أنني قلت :

" سأمسك بها جيدا فلا تقلقا "

اعتراضهما كان في الواقع على سماحي لرغد بنيل كل ما تريد

أنا أدرك أنني ادللها كثيرا جدا

لكن …

ألا تستحق طفلة يتيمة الأبوين شيئا يعوضها و لو عن جزء من المائة مما فقدت ؟

تجاهلت اعتراض والدي ّ ، و انطلقت بها نحو القطار

ركبنا سوية ذلك القطار و لم تكن خائفة بل غاية في السعادة !

و عندما توقف و هممت بالنزول ، احزروا من صادفت !

عمّار اللئيم !

" من وليد ! مدهش جدا ! تتغيب عن المدرسة لتلهو مع الأطفال ! عظيم ! "

تجاهلته ، و انصرفت و الصغيرة مبتعدين ، ألا أنه عاد يلاحقني بكلام مستفز خبيث
لم أستطع تجاهله ، و بدأنا عراكا جديدا !

تدخل مجموعة من الناس و من بينهم والدي لفض نزاعنا بعد دقائق …

عمار و بسبب لكمتي القوية إلى وجه سالت الدماء من أنفه

كان يردد :

" ستندم على هذا يا وليد ! ستدفع الثمن "

أما رغد ، و التي كانت تراني و لأول مرة في حياتها أتعارك مع أحدهم ، و أؤذيه ، فقد بدت مرعوبة و التصقت بوالدتي بذعر !

عندما عدنا للبيت وبخني أبي بشدة على تصرفي في الملاهي و عراكي …
و قال :

( كنت أظنك أصبحت رجلا ! )

و هي كلمة آلمتني أكثر بكثير من لكمات عمّار

استأت كثيرا جدا ، و عندما دخلت غرفتي بعثرت الكتب و الدفاتر التي كانت فوق مكتبي بغضب

لا أدري لماذا أنا عصبي و متوتر هذا اليوم …

بل و منذ فترة ليست بالقصيرة

أهذا بسبب الامتحانات المقبلة ؟

بعد قليل ، طرق الباب ، ثم فتح بهدوء …

كانت رغد

" وليد … "

ما أن نطقت باسمي حتى قاطعتها بحدة :

" عودي إلى غرفتك يا رغد فورا "

نظرت إلي و هي لا تزال واقفة عند الباب ، فرمقتها بنظرة غضب حادة و صرخت :

" قلت اذهبي … ألا تسمعين ! "

أغلقت الصغيرة الباب بسرعة من الذعر !

لقد كانت المرة الأولى التي أقسو فيها على رغد …

و كم ندمت بعدها

ألقيت نظرة على ( صندوق الأماني ) ثم أمسكت به و هممت بتمزيقه !

ثم أبعدته في آخر لحظة !

كنت أريد أن أفرغ غضبي في أي شيء أصادفه

إنني أعرف أنني يوم السبت المقبل سأقابل بتعليقات ساخرة من قبل عمّار و مجموعته

و كل هذا بسبب أنت أيتها الرغد المتدللة …

لأجلك أنت أنا أفعل الكثير من الأشياء السخيفة التي لا معنى لها !

و الأشياء المهولة … التي تعني أكثر من شيء … و كل شيء …

و التي يترتب عليها مصائر و مستقبل …

كما سترون …
يتبع

الحلقة الرابعة

لا تبتعدي عني … !!

لم استطع النوم تلك الليلة
جعلت أتقلب على فراشي و الأمور الثلاثة : الدراسة ، الحرب و رغد .. تآمرت علي و سببت لي أرقا و صداعا شديدا

أوه يا إلهي … أنا متعب … متعب !

فلتذهب الدراسة للجحيم !

ولتذهب الحرب كذلك للجحيم !

و رغد …
رغد …

فلأذهب أنا إلى رغد !

قفزت من سريري في رغبة ملحة جدا لرؤية الصغيرة …
لابد أنها غارقة في النوم الآن … كم كنت قاسيا معها ! كم أنا نادم !

سرت ببطء حتى دخلت غرفة رغد ، و تعجبت إذ رأيت الظلام مخيما عليها !

صغيرتي تخاف النوم في الظلام الشديد و تصر على إضاءة النور الخافت
اقتربت من السرير و أنا أدقق النظر بحثا عن وجه الصغيرة ، ألا أنني لم أره
أشعلت المصباح الخافت المجاور لسريرها ، و أصبت بالفزع حين رأيت السرير خاليا …

نهضت مذعورا … و تلفت من حولي … ثم أنرت المصباح القوي و دققت النظر في كل شيء … لم تكن رغد في الغرفة …

خرجت من الغرفة كالمجنون و ذهبت رأسا إلى غرفة دانة ، ثم سامر ، ثم جميع غرف المنزل و أنحائه و لم أبق منه مترا واحدا دون تفتيش … عدا غرفة والديّ

سرت و أنا أترنح و متشبث بأملي الأخير بأن تكون رغد هناك …
توقفت عند الباب ، و رفعت يدي استعدادا لطرقه فخانتني قواي

ماذا إن لم تكن رغد هنا ؟

أين يمكن أن تكون ؟

القلق بل الفزع و الخوف على رغد تملكاني و ألقيا جانبا أي تفكير سليم من رأسي
طرقت الباب طرقات متوالية تشعر أيا كان بالذعر !

ثوان ، و إذا بأمي تقف أمامي في فزع :

" وليد ؟ خير يا بني ؟ "

التقطت عدة أنفاس متلاحقة ثم قلت :

" هل رغد هنا ؟ "

كنت أحدق بعين والدتي و كأنني أريد أن أخترقها إلى دماغها لأعرف الجواب قبل أن
تنطق به …
قولي نعم أمي … أرجوك !

" نعم ! نامت هنا "

كأن جبلا جليديا قد وقع فوق رأسي لدى سماعي إجابتها
ارتخت عضلاتي كلها فجأة ، فترنحت و أنا أعود خطا للوراء حتى جلست على أحد المقاعد

والدتي أقبلت نحوي ، و ألقت نظرة سريعة على ساعة الحائط ، ثم عادت تنظر إلي بقلق …

" وليد ؟ ما بك عزيزي ؟ "

أغمضت عيني لثوان ، و أنا عاجز عن تحريك أي عضلة من جسمي …
ثم نظرت إليها و قلت بصعوبة :

" قلقت حين لم أجدها في غرفتها … بل كدت أموت قلقا … "

اقتربت مني والدتي ، و مسحت على رأسي و قالت :

" هوّ ن عليك يا بني …
جاءتني تبكي البارحة و تقول أنك غاضب منها و أخرجتها من غرفتك !
كانت حزينة جدا ! "

ربما تريد أمي معاتبتي لتصرفي مع رغد

أرجوك أمي يكفي فأنا قد نلت من تأنيب الضمير ما يكفي و يزيد …
ألا ترين أنني لم أنم حتى هذه الساعة بسبب ذلك …

" آسف لإزعاجك أماه ، تصبحين على خير "

رغد !

ما الذي تفعلينه بي !؟
تابع الحلقه الرابعه ….

نهضت متأخرا في الصباح التالي ، و حينما ذهبت إلى المطبخ وجدت أمي مشغولة في إعداد الطعام فيما تلعب رغد ببعض الدمى إلى جوارها

عندما رأتني رغد ، ابتسمت لها ، ألا أنها قامت و التصقت بأمي ، كأنها تطلب الحماية !

تضايقت كثيرا من هذا … هل أصبحت طفلتي الحبيبة تخاف مني

" رغد ! تعالي إلي … "

لم تتحرك بل تشبثت بوالدتي أكثر ، الأمر الذي أشعرني بضيق شديد جدا فغادرت المطبخ فورا
ستنسى بعد قليل … إنها مجرد طفلة و الأطفال ينسون بسرعة !

بل من الأفضل ألا تنسى حتى تبقى بعيدة عني و أتخلص من أحد همومي !

في المساء ، حضرت أم حسام بطفليها حسام و نهلة لزيارتنا

أم حسام هي خالة رغد الوحيدة و التي كانت ترعاها في السابق ، بعد وفاة والديها
حسام هو ابنها الأكبر و البالغ من العمر سبع سنوات على ما أظن ، أما نهلة فتصغر رغد ببضعة أشهر

يبدو أن ( أخا جديدا ) على وشك الانضمام لهذه العائلة !

رغد تحب خالتها هذه كثيرا ، و الخالة تتردد علينا من حين لآخر للاطمئنان على رغد

تحوّل بيتنا إلى ملعب أطفال … لعب ، ضحك، بكاء ، شجار ، عراك ، هتاف ، صراخ !
كانوا جميعا سعداء ، أما أنا فقد لزمت غرفتي عكفت على الدراسة .
اختفت الأصوات تماما فيما بعد ، فاستنتجت أن الضيوف قد رحلوا .

في وقت العشاء ، كنت أول الجالسين حول المائدة فقد كنت جائعا ، و لم أكن قد تناولت أي وجبة رئيسية لهذا اليوم .

الكرسي المجاور لي هو الكرسي الذي تجلس عليه صغيرتي رغد عادة
و كنت أساعدها في تناول الطعام دائما

اجتمع أفراد أسرتي حول المائدة ، ألا أن الكرسي المجاور ظل شاغرا !

" أين رغد "
وجهت سؤالي إلى والدتي ، فأجابت :

" أصرت على الذهاب مع خالتها و بما أن الغد هو يوم جمعة تركتها تذهب لتبات عندهم ! "

اندهشت ، فهي المرة الأولى التي يحدث فيها شيء كهذا … لطالما كانت الخالة
تزورنا فلماذا تصر على الذهاب معها اليوم و اليوم فقط

لقد فقد شهيتي للطعام ، و لم أتناول منه إلا اليسير …

مساء الجمعة ذهبت مع أبي لإحضار رغد من بيت خالتها

دخلت أنا للمنزل فيما ظل والدي ينتظر في السيارة

لقد كان الأطفال ، رغد و نهلة و حسام ، يلعبون ببعض الألعاب في إحدى الغرف

عندما رأوني توقفوا عن اللعب ، و اخذوا يحدقون بي !
هل أبدو مرعبا

ربما لأنني طويل و ضخم البنية نوعا ما !
هل أبدو مرعبا

ابتسمت لهذه المخلوقات الصغيرة ثم قلت :

" مرحبا أعزائي ! ألم تكتفوا من اللعب ! "

لم يبتسم أي منهم أو يحرك ساكنا !
وجهت نظري إلى صغيرتي رغد ، و قلت أخاطبها :

" صغيرتي الحلوة ! حان وقت العودة إلى البيت "

" لا أريد "

كانت أول جملة تنطق بها رغد ! إنها لا تريد العودة للبيت !

" ماذا رغد ؟ يجب أن نعود الآن فغدا ستذهبين إلى المدرسة ! "

" سأبقى هنا "

" رغد ! سوف نأتي بك إلى هنا لتلعبي كل يوم إن أردت ! هيا فوالدنا ينتظر في السيارة "

لم يبد أنها عازمة على النهوض .

و الآن ماذا افعل مع هذه الصغيرة
كيف يجب ان يكون التصرف السليم

تدخلت أم حسام قائلة :

" بنيتي رغد ، غدا سيحضرك وليد إلى هنا من جديد . و كل يوم إذا أردت اللعب مع نهلة فتعالي و أحضري ألعابك أيضا "

" لا أريد "

ثم بدأت بالبكاء …

ربما تظن خالتها أننا نسيء إليها بشكل ما !

ماذا جرى لهذه الصغيرة ؟ لماذا أصبحت لا تريد الاقتراب مني ؟ أكل هذا لأنني
أخرجتها من غرفتي بقسوة تلك الليلة ؟

أم حسام أخذت تمسح على رأس الصغيرة و تهدئها و تكرر

" غدا سيحضرك وليد إلى هنا عزيزتي "

قلت ، محاولا إغراءها بالحضور بأي طريقة :
" سنمر بمحل البوضا و نشتري لك النوع الذي تحبين ! "

يبدو أن الفكرة أعجبتها ، فتوقفت عن البكاء و آخذت تنظر إلي …

قالت خالتها مشجعة :

" هيا بنيتي ، و عندما تأتين غدا سنشتري لك و لنهلة و حسام المزيد من البوضا و الألعاب "
و أخذت تقربها نحوي حتى صارت أمامي مباشرة

رفعت رغد رأسها الصغير و نظرت إلي
إنها نظرة لا أستطيع نسيانها ما حييت …

كأنها تعاتبني على قسوتي معها … و تقول … خذلتني !

مددت يدي و رفعت الصغيرة عن الأرض و ضممتها إلى صدري و قبلت جبينها

كيف لي أن أعتذر ؟
إنها اليتيمة التي و لو بذلت الدنيا كلها لأجلها ، ما عوضتها عن لحظة واحدة تقضيها في حضن أمها أو أبيها …
قلت :

" ماذا تودين بعد ؟ لعبة جديدة أم دفتر تلوين جديد ؟ "

قالت :

" أريد لعبة و أريد دفترا "

قلت :

" يا لك من سيدة طماعة ! حاضر ! كما تأمرين سيدتي ! "
فابتسمت لي أخيرا …

شعرت بشيء ما يحرك بنطالي …
نظرت إلى الأسفل فإذا بها نهلة تمسك ببنطالي و تهزه ، ثم تقول :
" احملني ! "
نظرت إليها بدهشة و استغراب !
" رغد تقول أنك قوي جدا و كنت تحملها مع دانة سوية "

ربّاه !!
في تلك الليلة ، جعلت رغد تنام على سريري للمرة الأخيرة … و لونت معها كثيرا و قرأت لها أكثر من قصة ، و طبعا اشتريت لها أكثر من لعبة و أكثر من دفتر تلوين إضافة إلى البوضا !

ربما كانت هذه طريقتي في الاعتذار !
إن كنت أدلل صغيرتي كثيرا فهذا لأنني أحبها كثيرا …

و هي نائمة على سريري بسلام ، أخذت أتأملها بعطف و محبة …
كم هي رائعة !
و كم أنا متعلق بها !

كم يبدو هذا جنونا !
ذهبت إلى حيث وضعت صندوق الأماني ، فأخذته و جعلت أنظر إليه بحدة

كم تمنيت لو أن بصري يخترق الصندوق إلى ما بداخله !

ليتني أعرف … الاسم الذي تلا هذه الجملة

( عندما أكبر سوف أتزوج …. ؟ )

عندما تكبرين يا رغد …

فقط عندما تكبرين ….

فإنني …

في أحد الأيام ، قررنا تناول بعض المشويات في المنزل

في حديقة المنزل أعد والدي ما يلزم و أشعل الفحم

كان يوما جميلا ، و كنا مسرورين لهذه ( النزهة المنزلية ) التي قلما تحدث

الأطفال ، سامرـ إن كنت أعتبره طفلا ـ و دانة و رغد كانوا يتجولون هنا و هناك
سامر مهووس بدراجته الهوائية و التي لا يتوقف عن قيادتها و العناية بها في جميع أوقات فراغه ، و رغد تهوى كثيرا الركوب معه ، و قد تعلمت كيف تقودها بنفسها
كانت تقود الدراجة فيما يجلس سامر على المقعد الحفي ، و كانت تترنح ذات اليمين و ذات الشمال و تسقط بالدراجة من حين لآخر
ألا أنها كانت سقطات خفيفة غير مؤذية ، يستمتعان بها و يضحكان مرحين !

دانة كانت تساعد أمي في إعداد اللحم ، فيما والدي يهف الجمر فيزيده اشتعالا
كنت أنا أراقب الجميع في صمت و برود ظاهري ، بينما أشعر بشيء يتحرك و يشتعل في صدري مثل ذلك الجمر … لا أعرف ما يكون …
ذهب والدي لإحضار شيء ما …

و ابتعاده عن الجمر أعطاني مجالا أوسع لأراقب اشتعاله و تأججه …
و جحيمه !
إن عيني ّ كانتا تتنقلان بين رغد و سامر على الدراجة ، و بين الجمر المتقد …

ثم شردت …

فجأة … ترنحت الدراجة و هي تسير بسرعة ، تقودها رغد الصغيرة ، و قبل أن يتمكن سامر من إيقافها ارتطمت بشيء فسقطت …

كان يمكن لهذه السقطة أن تكون عادية كسابقاتها ن لو أن الشيء الذي ارتطمت الدراجة به لم يكن صينية الجمر المتقد ….
تعالت الأصوات و انطلق الصراخ القوي يزلزل الأجواء …
ركضنا جميعا نحو الاثنين بفزع …

والدتي تولول ، و دانة تصرخ … و رغد تصرخ … و وليد يتخبط مستنجدا … صارخا … من فرط الألم …

جمرة واحة أصابت رغد بحرق في ذراعها الأيسر …
أما سامر …

فقد انتهى بوجه مشوه مخيف ، و جفن منكمش يجعل العين اليمنى نصف مغلقة … مدى الحياة …

لقد كان حادثا سيئا جدا … و انتهى يومنا الجميل بندبة لا تمحى …
و رغم العمليات التي خضع لها ، ألا أن وجه سامر ظل يحمل أثر الحادثة المشؤومة إلى الأبد

رغد و التي خرجت من الحادث بأثر حرق واحد في الذراع ، خرجت منه بآثار عميقة لا تمحى في الذاكرة و القلب

أما دانة ، فقد غرست في نفس رغد الاعتقاد الأكيد بأنها السبب فيما حدث لسامر لأنها من كان يقود الدراجة وقتها

رغد أصبحت مرعوبة فزعة متوترة معظم الأوقات … و أصبحت تخشى النوم بمفردها و تصر على أن أبقى إلى جانبها حتى تدخل عالم النوم ، و كثيرا ما كانت تستيقظ فزعة من النوم في أوائل الأيام … و تركض إلي …
و المرة التي كنت أعتقد أنها الأخيرة ، تلتها مرات أخرى ، نامت فيها الصغيرة
في غرفتي … طالبة الأمان و الطمأنينة …

" وليد أنا خائفة … النار مؤلمة … "

" وليد لن أركب الدراجة ثانية ً … "

" وليد لا أريد أن أبقى وحدي … الجمر يلاحقني … "

" وليد … عندما أكبر سأصبح طبيبة و أعالج سامر " !

و في إحدى تلك المرات ، كتبت إحدى أمانيها و أدخلتها في ذلك الصندوق !

و هذه المرة لم تسألني عن أية كلمة …

لكنني أكاد أجزم بأنها كتبت :

( يا رب اشف سامر ) !

توالت الأيام و الشهور … و تأقلم الجميع مع ما حدث ، و سامر اعتاد رؤية وجهه المشوه في المرآة و تقبله ، و استسلم الجميع إلى أنها حادثة قضاء و قدر …

أما أنا …
فأشك في أن شيطانا قد خرج من صدري و قاد الدراجة نحو الجمر المتقد …
و احرق سامر و رغد بنار كانت في صدري …

لم تزد النار صدري إلا اشتعالا

لم تزد الحادثة الاثنين إلا اقترابا …

و لم تزدني الأيام إلا تعلقا و تشبثا و جنونا برغد ….

يتبع


الحلقة الخامسة

أحـلام الجحيــم

أنهيت دراستي الثانوية أخيرا !

إنني أريد الالتحاق بالجامعة ، ألا أن القصف الجوي الذي تعرضنا له مؤخرا دمر مبنى الجامعة التي كنت أريدها
كما دمّر جزءا من المصنع الذي يملكه والدي

أوضاع بلدنا في تدهور ، و الحرب منذ أن اندلعت قبل عامين تقريبا لم تتوقف …
مستوانا المادي تراجع نتيجة لهذه الأحداث .

الدراسة تعني لي الكثير الكثير ، خصوصا بعدما حدث …

إنها أحد أحلام حياتي …

ما أكثر الأحلام !

أتذكرون صندوق الأحلام الخاص برغد و الذي صنعته لها قبل ثلاث سنوات ؟

أضفت إليه حلما جديدا يقول :

( أريد أن أصبح رجل أعمال ضخم ! ) !

اعتقد أن الأمور الإدارية تليق بي كثيرا !

وجدت فرصة هبطت علي ّ من السماء لأبتعث للدراسة في الخارج ، شرط أن أجتاز أحد امتحانات
القبول ، و الذي سأجريه بعد الغد

و ما اقرب بعد الغد !
إن مصيري و مستقبلي معلّق بذلك اليوم …

إنني قد عدت لقراءة بعض المواضيع من المواد الدراسية المختلفة استعداد له

ادعوا لي بالتوفيق !

في الوقت الراهن أنا بدون شاغل ، أو لنقل … عاطل عن المستقبل !

خلال السنوات الثلاث الماضية ازداد طولي وحجمي كثيرا و أصبحت عملاقا و ضخما !

تعديت طول والدي و أصبحت أشعر ببعض الخجل كلما وقفت إلى جانبه !

أما صغيرتي المدللة ، فلم تتغير كثيرا !

لا تزال نحيلة و صغيرة الحجم ، كثيرة المطالب ، و شديدة التدلل !

و المنافسة بينها و بين دانة حتى على الأشياء البسيطة لا تزال قائمة !

و اعتقد أنكم تتوقعون أنني …

لازلت مهووسا بها كما السابق ، بل و أكثر …

وصلت الآن إلى بوابة المدرسة الابتدائية ، و ها أنا أرى الفتاتين تقبلان نحو السيارة !

و راقبوا ما سيحصل !

تتسابق الاثنتان نحو الباب الأمامي …

تصل إحداهما قبل الأخرى بجزء من الثانية

تحاول كل واحدة فتح الباب و الجلوس في المقعد المجاور لي

تتنازعان

تتشاجران

تحتكمان إلي !

" وليد ! أنا وصلت قبلها "

" بل أنا يا وليد … أليس كذلك ؟ "

" وليد قل لها أن تبتعد عني "

" أنا من وصل أولا ! دعها تركب خلفك وليد "

" كفى ! "

كل يوم تتكرر نفس القصة ! و الآن علي ّ أن أضع جدولا مقسما فيما بينهما !

" حسنا … من التي كانت تجلس قربي يوم أمس ؟ "

أجابت دانة :
" أنا "

قلت :

" إذن ، اليوم تجلس رغد و غدا دانة و هكذا ! اتفقنا "

و بزهو و نشوة الانتصار ، ركبت السيدة رغد و جلست على الكرسي الأمامي بجانبي !

فيما ترمق دانة بنظرات ( التحسير ) !

كم سأفتقد هاتين المشاكستين !

" وليد تعلمنا درسا صعبا في ( الرياضيات ) أريدك أن تساعدني في حل التمارين "

" حسنا رغد "

" و أنا أيضا أريدك أن تساعدني في تمارين القواعد "

" حسنا دانة ! "

قالت رغد بسرعة :

" لكن أنا أولا فأنا سألتك أولا "

قالت دانة :

" درسي أنا أصعب . أنا أولا يا وليد "

أنا أولا … أنا أولا … أنا أولا …

ويلي من هاتين الفتاتين !

كلا ! لن أفتقدهما أبدا !
كنت معتادا على تعليم الفتاتين في أحيان كثيرة ، خصوصا بعد تخرجي من المدرسة …

مواقف كثيرة ، و كثيرة جدا ، هي التي حصلت خلال السنوات الماضية و لكنني اختصرت لكم

قدر الإمكان …

حينما وصلنا إلى البيت ، بالتحديد عندما هممت بإدخال المفتاح في الباب لفتحه ، بدأت منافسة جديدة …

" أعطني المفتاح أنا سأفتحه "

" لا لا ، أنا سأفتحه وليد "

" لا تقلديني ! "

" أنت لا تقلديني "

و احتدم النزاع !

أوليت الباب ظهري و وقفت بين الفتاتين و عبست في وجهيهما !

قلت بحدة :
" أنا من سيفتح الباب و إن سمعتكما تتجادلان على هذا المفتاح ثانية فتحت رأسيكما و أفرغت ما بهما "

المفروض أن نبرتي كانت حادة و مهددة ، و تثير الخوف ! ألا أن رغد أخذت تضحك ببساطة !

التفت إليها و قلت :

" لم الضحك "

قالت و هي تقهقه :

" لن تجد شيئا في رأس دانة من الداخل ! "

قالت دانة :

" بل أنت الجوفاء الرأس ! أتعلمين ماذا سيجد وليد في رأسك ؟ "

رغد :

" ماذا ؟ "

دانة :

" البطاطا المقلية التي تلتهمينها بشراهة كل يوم ! "

رغد ـ و هي تضحك بمرح ـ

" و أنت الفاصولياء التي أكلتها البارحة "

و تبادلت الاثنتان مجموعة من الأكلات و الأطباق المفضلة في رأسي بعضهما البعض حتى
أصابتاني بالصداع و التخمة !!

قلت :

" يكفي ! إنني من سيفتح رأسي أنا حتى ارمي بكما إلى الخارج منه "

و استدرت ، و فتحت الباب ، فأسرعت دانة بالدخول لتسبق رغد ،
بينما سارت رغد ببطء و انتظرتني حتى دخلت ، ثم أقفلت الباب …

" وليد ! "

التفت إليها و أنا ممتلئ ما يكفي و يزيد من سخافاتهما ، و قلت بتنهد :

" ماذا بعد "

قالت :

" أنا لا أريد أن أخرج من رأسك "

اندهشت ! نظرت إليها باستغراب ، و قلت :

" عفوا ! "

رددت "

" أنا لا أريد أن أخرج من رأسك "

" و لماذا "

ابتسمت بخبث و قالت :

" لكي أستطيع رؤية الناس من الأعلى فأنت طويـــــــــــــــــــل "

ابتسمت لها بهدوء ، ثم فجأة ، مددت يدي نحوها و رفعتها عن الأرض على حين غفلة منها إلى الأعلى
عند رأسي و أنا أقول :

" هكذا "

رغد أخذت تضحك بسعادة و بهجة لا توصف !

أتذكرون كم كانت تعشق أن أحملها !؟
لا تزال كذلك !

دخلت المنزل ، ثم المطبخ و أنا لا أزال احملها و هي تضحك بسرور ، ثم أجلستها على أحد المقاعد و ألقيت التحية على والدتي ، و التي كانت مشغولة بتجهيز أطباق المائدة

قالت أمي :

" رغد ، هيا اذهبي و أدي صلاتك ثم اجلسي عند مائدة الطعام "

قامت رغد ، و هي تنزع الحقيبة المدرسية عن ظهرها و تنظر إلى أمي و تقول :

" بطاطا مقلية ؟ "

" نعم ! حضرتها لأجلك "

و انطلقت رغد فرحة ، و غادرت المطبخ .

للعلم ، فإن صغيرتي هذه تحب البطاطا المقلية كثيرا !

والدتي استمرت في عملها و حدثتني دون أن تنظر إلي :

" لم تعد صغيرة ! "

ركزت بصري عليها ، و قلت :

" رغد ؟ لقد كبرت قليلا ! "

" لم تعد صغيرة لتحملها على ذراعيك "

غيرت كلمات والدتي هذه مجرى ما فهمت …

إذن ، فهي معترضة على حملي للصغيرة هكذا …؟

" و لكن … إنها مجرد طفلة صغيرة و خفيفة ! و هي تحب ذلك … "

" إنها في التاسعة من العمر يا وليد … "

جملة والدتي هذه ، جعلت شريط الذكريات يعرض فجأة في مخيلتي …

تذكرت كيف حضرت إلى منزلنا قبل ست أو سبع سنين … !
آه … ( المخلوقة البكاءة ) !

يا للأيام …

من كان ليصدق أنني ( ربيت ) رغد في جحري و أطعمتها بيدي و سرحت شعرها و نظفت أذنيها !

من جرّب أن يكون أما و أبا ليتيمة ، و هو طفل أو حتى مراهق لم يبلغ العشرين !

يا للذكريات !

في غرفتي لاحقا ، أخذت أقلب ألبوم الصور الذي يشمل أفراد عائلتي …

صحيح … لقد كبرت الصغيرة !

مر الوقت سريعا …

و ها أنا مقدم على الجامعة ، و حين أسافر … … …

توقفت عند هذا الحد …

فأنا لا أستطيع التفكير فيما بعد ذلك

كيف لي أن أبتعد عن أهلي و وطني …؟

كيف لي أن أتحمل الغربة و الوحدة ؟

كيف لصباح أن يطلع علي ، دون أن أحتسي شاي والدتي العطر ، و كيف لشمس أن تغرب

دون أن أقرأ أخبار الصحف لوالدي ؟

كيف لعيني أن تغمضا دون أن أتمنى لأخوتي نوما هانئا …

كيف لقلبي أن ينبض … دون أن أحمل رغد على ذراعي ؟
إنني سأذهب لإجراء الامتحان بعد الغد و إذا ما اجتزته ، فسأغادر البلد خلال أسبوع أو أكثر بقليل

إنها أفكار تجعلني أشعر بخوف و توجّس …

هل أقوى على ذلك

لابد لي من ذلك … فأحوالنا في تدهور و شهادتي الجامعية ستعني الكثير …

المرشحون لهذا الامتحان قليلون ، و كانت فرصة ذهبية أن أضيف اسمي إليهم

و أنا واثق من قدرتي على اجتيازه ، بإذن الله …

قلبت الألبوم و أنا في حيرة … أي صورة آخذها معي

ثم وقع اختياري على صورة تضمنا جميعا ، تظهر فيها رغد متشبثة برجلي !

فيما ترتسم ابتسامة رائعة على وجهها الجميل …

" هذه هي ! "

أخذت الصورة ، و صورة أخرى لرغد و هي تلوّن في أحد دفاترها و وضعتهما في محفظة جيبي .

في المساء ، ذهبت مع أخي سامر لأحد المتاجر لاقتناء بعض الأشياء ، و وقفنا عند حقائب السفر
رغبة في شراء بعضها

فيما كنا هناك ، حضر مجموعة من الشبان ، كان عمّار فيما بينهم .

عمّار نجح بصعوبة ، و تخرج ـ رغم إهماله ـ من المدرسة الثانوية ، و اعتقد أن والده
ذا النفوذ الكبير قد استطاع تدبير مقعد دراسي له في إحدى الجامعات … بطريقة ( غير قانونية !)

عندما رآني عمّار ، أقبل نوي تسبقه ضحكته البغيضة ، و قال :

" يبدو أن وليد ينوي السفر أيها الأصحاب ! هل عثر والدك على كرسي جامعي شاغر لك !؟
أم أن حطام الجامعة قد حطّم قلبك يا مسكين "

و بدأ مجموعة الشبان بالضحك و القهقهة

أوليتهم ظهري فقال عمّار :

" لا تقلق ! سأطلب من والدي أن يساعدك في البحث عن جامعة ! أو … ما رأيك بالعمل
عندنا ! فمصنعنا لم يحترق ! سأوصي بك خيرا ! "

سامر لم يتحمّل هذه السخرية من ذلك اللئيم ، و ثار قائلا :

" لم يبق إلا أن يعمل الأعزة عند الأذلة المنحرفين ! "

صرخ عمّار قائلا :

" اخرس أيها الأعور القبيح ! من سمح لك بالتحدث ! ألا تخجل من وجهك المفزع ؟ "

و التفت إلى أصحابه و قال :

" اهربوا يا شباب ! الأعور الدجال ! "

سيل من اللكمات العنيفة وجهتها بلا توقف و لا شعور نحو كل ما وقعت قبضتي عليه من أجساد
عمّار و أصحابه …

لحظتها ، شعرت برغبة في فقء عينيه و سلخ جلده …

أخي سامر نال منهم أيضا

و احتدّ العراك و تدخّل من تدخل ، و فر من فر ، و انتهى الأمر بنا تدخل من قبل الشرطة !

في تلك الليلة و للمرة الأولى منذ الحادثة المشؤومة ، سمعت صوت بكاء أخي خلسة .

عندما أصيب بالحرق ، كان لا يزال طفلا في الحادية عشرة من العمر … ربما لم يكن شكله يشغل تفكيره و اهتمامه بمعنى الكلمة ، أما الآن … و هو فتى بالغ أعمق تفكيرا ، فإن الأمر اختلف كثيرا …

ليلتها ، قال أنه يريد أن يخضع لعملية تجميل جديدة …

لكن أوضاعنا المادية في الوقت الحالي ، لا تسمح بذلك ….

عندما أحصل على شهادتي الجامعية … و أعمل و أكسب المال ، فسوف أعرضه على أمهر
جراحي التجميل ، ليعيده كما كان …

فقط عندما أحصل على شهادتي …

في اليوم التالي ، وجدت سيارتي مليئة بالخدوش المشوهة !

" إنه عمّار الوغد ! تبا له ! "

أوصلت أخوتي للمدرسة ، و شغلت نفسي ذلك الصباح بمزيد من الإعدادات للسفر المرتقب !

امتحاني سيكون يوم الغد … لذا ، قضيت معظم الوقت في قراءة مواضيع شتى من كتبي الدراسية
السابقة …

و كلما قلبت صفحة جديدة من الكتاب ، قلبت صفحة من ألبوم الصور …

كيف أستطيع فراق أهلي …؟

كيف أبتعد عن رغد ؟

إنني أشعر باضيق إذا ما مضت بضع ساعات دون أن أراها و أداعبها … و أنزعج كلما باتت في بيت خالتها بعيدا عني …
فيما أنا منهمك في أفكاري و قراءتي ، جاءتني رغد … !

طرقت الباب ، ثم دخلت الغرفة ببطء ، تاركة الباب نصف مفتوح …

" وليد … لدي تمرين صعب … ساعدني بحله "

لم يكن هناك شيء أحب إلي من تعليم صغيرتي ، ألا أنني يومها كنت مشغولا … لذا قلت :

" اطلبي من والدتي أو سامر مساعدتك ، فأنا أريد أن أذاكر ! "

لم تتحرك من مكانها !

نظرت إليها مستغربا و قلت :

" هيا رغد ! أنا آسف لا أستطيع مساعدتك اليوم ! "

و بقيت واقفة في مكانها …

إذن فهناك شيء ما !

حفظت هذا الأسلوب !

تركت الكتاب من بين يدي و نهضت ، و قدمت إليها و جثوت على ركبتي أمامها :

" رغد … ما بك ؟ "

تقوس فمها للأسفل في حزن مفاجئ و قالت :

" هل صحيح أنك ستسافر بعيدا ؟ "

فاجأني سؤالها ، إنني لم أكن أتحدث عن أمر السفر معها ، فالحديث سابق لأوانه …

قلت مازحا :

" نعم يا رغد ! إلى مكان بعيد لا يوجد فيه رغد و لا دانة و لا شجار ! و سأترك رأسي هنا ! "

لم يبدو أنها فهمت مزاحي أو تقبلته ، إذ أن تقوس فمها الصغير قد ازداد و بدأت عيناها تحمرّان

قالت :
" و هل ستأخذني معك ؟ "

هنا … عضضت على شفتي و جاء دور فمي أنا ليتقوس حزنا …
طردت الموجة الحزينة التي اعترتني
و قلت :
" من أخبرك بأنني سأسافر "

" سمعت والداي يتحدثان بهذا "

مسحت على رأسها و قلت :

" سأسافر فترة مؤقتة لأدرس ثم أعود "

" و أنا "

" ستبقين مع الجميع و حالما أنهي دراستي سأعود و آخذك إلى أي مكان في العالم ! "

" لا أريدك أن تذهب وليد ! من الذي سيحبني كثيرا مثلك إذا ذهبت ؟ "

شعرت بخنجر يغرس في صدري …

رغد … أيتها الفتاة الصغيرة … التي تربعت في كل خلايا جسمي ، ألا تعلمين ما يعنيه

فراقك بالنسبة لي !

لا أعرف إن كانت قد أحست بالطعنة التي مزقت قلبي أم أنني أهوّل الأمر ، ألا أن دموعها سالت ببطء من مقلتيها …

دموع أميرتي التي تزلزل كياني …

مددت يدي و مسحت دموعها و أنا أحاول الابتسام :
" رغد ! عزيزتي … لا يزال معك دانة و سامر … و أمي و أبي … و نهلة و حسام و سارة
( و سارة هي الابنة الثانية لأم حسام ) مع أمهم ! و كل صديقاتك ! لن تكوني وحيدة ! أنا فقط من سيكون وحيدا ! "

قالت بسرعة :

" خذني معك ! "

ضغطت على قبضتي ، و قلت :
" يا ليت ! لا يمكنني … صغيرتي ! لكنني عندما أعود … "

و لم أكمل جملتي ، رمت رغد بكتابها جانبا و قاطعتني بسيل من الضربات الخفيفة الموجهة إلى صدري …

إلى قلبي …

إلى روحي …

إلى كل عصب حي في جسدي …

و شريان نابض …

" لا تذهب … لا تذهب … لا تذهب … "

" رغد … "

" أنت قلت أنك ستعتني بي كل يوم و دائما ! لا تذهب … لا … لا … لا .. "

و أخذت تبكي بعمق …

و كلما حاولت المسح على رأسها أبعدت يدي و ضربت صدري استنكارا …

ضرباتها لم تكن موجعة ، لو أنني لم أكن مصابا ببعض الكدمات و الرضوض في صدري ، أثر عراكي الأخير مع عمّار و أصحابه …

شعرت بالألم ، و لكنني لم أحرك ساكنا …

تركت لها حرية التعبير عن مشاعرها قدر ما تشاء …

لم أوقفها … لم أبعدها … لم أنطق بكلمة بعد …

إنها رغد التي تربت في حضني … و عانقت ذات الصدر الذي تضربه الآن …

ليتهم لم يحرقوا الجامعة …

ليتهم لم يحرقوا المصنع …

ليتهم أحرقوا شيئا آخر …

ليتهم أحرقوا عمّار !
يبدو أن صوت رغد قد وصل إلى مسامع والدي فجاء إلى غرفتي و وقف عند فتحة الباب …

عندما رأى ولدي رغد تضربني ، غضب من تصرفها و بصوت حاد قال ، و هو واقف عند الباب :

" رغد … توقفي عن هذا "

رغد رفعت رأسها و نظرت إلى والدي ، ثم قالت :

" لا تدعه يذهب "

ألا أن أبي قال بحدة :

" خذي كتابك و عودي إلى أمك ، و دعي وليد يدرس "

لم تتحرك رغد من مكانها ، فرفع والدي صوته بغضب و قال :

" ألم تسمعي ؟ اذهبي إلى أمك و كوني فتاة عاقلة "

رغد التقطت كتابها من على الأرض ، و خرجت من الغرفة

أما قلبي أنا فكان يعتصر ألما …

بعدها ، قلت لأبي :

" لماذا يا أبي ؟ إنها ستظل تبكي لساعات ! جاءت تطلب مني تعليمها "

والدي قال بغضب :

" لقد كانت والدتك تعلّمها ، و حين جيء بذكر سفرك ، حملت كتابها و أتت إليك ، نهيناها فلم تطع "

قلت مستاءا :

" لكنك صرفتها بقسوة يا أبي "

لم تعجب جملتي والدي فقال :

" أنت تدللها أكثر من اللازم يا وليد … يجب أن تعلمها أن تحترمك لا أن ترفع يدها عليك هكذا ، تصرف سيئ "
" لكني لا أستاء من ذلك يا أبي … إنها مجرد طفلة ، كما أنني أتضايق كثيرا إذا أساء أحد إليها ، والدي … أرجوكم لا تقسوا عليها بعد غيابي … "

من يدري ماذا يحدث ؟ بعد أن أغيب …؟

هل سيسيء أحد إلى طفلتي

إنني لا أقبل عليها كلمة واحدة …

ليتني أستطيع أخذها معي !

انتظرت حتى انصرف والدي من المنزل ، ثم فتشت عن رغد ، فوجدها في غرفتها … و كما توقعت ، كانت غارقة في الدموع …

أقبلت إليها و ناديتها :

" رغد يا صغيرتي … "

رفعت رأسها إلي ، فرأيت العالم المظلم من خلال عينيها البريئتين …

اقتربت منها و طوّقتها بذراعي ، و قلت …

" لا تبكي يا عزيزتي فدموعك غالية جدا … "

قالت :

" لا تذهب … وليد … "

قلت :

" لا بد أن أذهب … فسفري مهم جدا … "

" و أنا مهمة جدا "

" طبعا أميرتي ! أهم من في الدنيا ! "

أمسكت بيدي في رجاء و قالت :

" إذا كنت تحبني مثلما أحبك فلا تسافر "

في لحظة جنون ، كنت مستعدا للتخلي عن أي شيء ، في سبيل هذه الفتاة …

و بدأت أفكار التخلي عن حلم الدراسة تنمو في رأسي تلك اللحظة …

ليتني … أيا ليتني استمعت إليها …

يا ليتني فقدت عقلي و جننت لحظتها بالفعل …

لكنني للأسف … بقيت متشبثا بحلمي الجميل ….

" عزيزتي ، سأكون قريبا … اتصلي بي كل يوم و أخبريني عن كل أمورك ! و إذا
تشاجرت معك دانة فأبلغيني حتى أعاقبها حين أعود ! "

نظرت إلي نظرة سأضيفها إلى رصيد النظرات التي لن أنساها ما حييت …

ما حييت يا رغد لن أنسى هذه اللحظة …

" وليد … خذلتني … لم أعد أحبك "

رغد لم تكلمني طوال الصباح التالي ، بل و لم تنظر إلي …

كانت حزينة و قد غابت ضحكتها الجميلة و مرحها الذي يملأ الأجواء حياة و حيوية …

الجميع لاحظ ذلك ، و استنتجوا انه بسبب موضوع سفري و غضب والدي منها يوم الأمس …
و كالعادة ، أوصلت سامر إلى مدرسته ، ثم دانة و رغد ….

وهي تسير مبتعدة عن السيارة و متجهة نحو مدخل المدرسة ، كانت رغد مطأطئة الرأس متباطئة الخطى

جعلت أراقبها قليلا ، فألقت علي نظرة حزينة كئيبة لم أتحمل رؤيتها ،فابتعدت قاصدا المكان الذي سأجري فيه اختباري المصيري …

المشوار إلى هناك يستغرق قرابة الساعة ، و كنت ألقي بنظرة على الساعة بين الفينة و الأخرى خشية التأخر
أعرف أنها فرصة العمر و أي تأخير مني قد يضيعها …
حينما أوشكت على الوصول ، وردتني مكاملة هاتفية عبر هاتفي المحمول ، من صديقي ( سيف ) يتأكد من وشوكي على الوصول . و سيف هذا هو أقرب أصحابي ، و هو مرشح معي أيضا لدخول الامتحان .
بعد دقيقة ، عاد هاتفي يرن من جديد …

كان رقما مجهولا !

" مرحبا ! لابد أنك وليد ! "

بدا صوتا غير معروف ، سألته "

" من أنت "
قال :
" يا لذاكرتك الضعيفة يا مسكين ! يبدو أن الضرب الذي تلقيته من قبضتي قد أودى بقدراتك العقلية ! "

الآن استطعت تمييز المتحدث … إنه عمّار !

" عمّار ؟ !"

" أحسنت ! هكذا تعجبني ! "

استأت ، كيف حصل على رقم هاتفي الخاص و ما الذي يريده مني ؟

" ماذا تريد ؟ "

" انتبه و أنت تقود ! أخشى أن تصاب بمكروه ! "

" أجب ماذا تريد "

ضحك ذات الضحكة الكريهة و قال :

" لا شك أنك في طريقك للامتحان ! أليس كذلك ! إن الوقت سيستغرق منك أقل من ساعتين فيما لو قررت الذهاب إلى المطار ! "

ضقت ذرعا به ، قلت :

" هل لي أن أعرف سبب اتصالك ؟ فإما أن تقول ماذا أو أنهي المكالمة "

" رويدك يا صديقي ! سأمهلك ساعتين فقط ، حتى تمثل أمامي و تعتذر قبل أن أسافر بهذه الصغيرة بأي طائرة ، إلى الجحيم ! "

بعدها سمعت صرخة جعلت جسدي ينتفض فجأة و يدي ترتعشان ، و المقود يفلت من بينهما ، و السيارة تنحرف عن حط مسيرها ، حتى كدت أصطدم بما كان أمامي لو لم تتدخل العناية الربانية لإنقاذي ….

" وليد … تعال … "

لقد كان صوت رغد ….

جن جنوني …

فقدت كل معنى للقدرة على السيطرة يمكن أن يمتلكه أي إنسان … مهما ضعف

صرخت :

" رغد ! أهذه أنت رغد أجيبي "

فجاء صوت صراخها و بكاؤها الذي أحفظه جيدا يؤكد أن أذني لا زالتا تعملان بشكل جيد …

" رغد أين أنت ؟ رغد ردي علي ّ "

فرد عمّار قائلا :

" تجدنا في طريق المطار ! لا تتأخر فطائرتي ستقلع بعد ساعتين … إلا إن كنت لا تمانع في أن أصطحب شقيقتك معي !؟ "

صرخت :

" أيها الوغد أقسم إن أذيتها لأقتلنك … لأقتلنك يا جبان "

ضحك ، و قال :

" لا تتأخر عزيزي و لا تثر غضبي ! تذكر … طريق المطار "

ثم أنهى المكالمة …

استدرت بسيارتي بجنون ، و انطلقت بالسرعة القصوى متجها نحو المطار …

لم أكن أرى الطريق أمامي ، الشوارع و السيارات و الإشارات … اجتزتها كلها دون أن أرى شيئا منها

لم أكن أرى سوى رغد

و أتذكر كيف كانت تنظر إلي قبل ساعة …

ثم أتخيلها في مكان بين يدي عمّار

لم أعرف كيف أربط بين الأحداث أو أفكر في كيفية حدوث أي شيء …

أريد أن أصل فقط إلى حيث رغد

لا أعرف كم الوقت استغرقت …

شهر ؟

سنة ؟

قرن ؟

بدا طويلا جدا لا نهاية له …

و سرت كقارب تائه في قلب المحيط …

أو شهب منطلق في فضاء الكون …

لا يعرف إلى أين …

و متى

و كيف سيصل …

و بم سيصطدم …

أخذت هاتفي و اتصلت برقم عمّار الظاهر لدي ، أجاب مباشرة :

" لقد انقضت عشرون دقيقة ! أسرع فشقيقتك ترتجف خوفا ! "

" إياك أن تؤذها و إلا … "

" سأفعل إن تأخرت ! "

" أيها الـ … … … دعني أتحدث إليها "

جاءني صوتها الباكي المذعور :

" وليد لا تتركني هنا "

" رغد … عزيزتي أنا قادم الآن … لا تخافي صغيرتي أنا قادم "

" أنا خائفة وليد تعال بسرعة أرجوك … آه … أرجوك … "

أي عقل تبقى لي

لماذا لا تتحرك هذه السيارة اللعينة ؟

لماذا لم اشتر صاروخا لمثل هذه الظروف ؟

لماذا لم تحترق في الحرب يا عمّار …

ألف لعنة و لعنة عليك أيها الجبان … ويل لك مني ..

بعد ساعة و نصف ، و فيما أنا منطلق كالبرق على الشارع المؤدي إلى المطار ، إذا بي ألمح سيارة تقف جانبا ، و يقف عندها رجل

و أنا أقترب توضح لي أنه عمّار

بسرعة ، أوقفت سيارتي خلف سيارته مباشرة و نزلت منها كالقذيفة و ركضت نحوه ، في الوقت الذي فتح هو في الباب ، و أخرج رغد من السيارة …

جاءت رغد تركض نحوي فالتقطتها و رفعتها عن الأرض و أطبقت بذراعي حولها بقوة …

" رغد … رغد صغيرتي … أنا هنا … أنا هنا عزيزتي "

رغد كانت تحاول أن تتكلم لكنها لم تستطع من شدة الذعر …

كانت ترتجف بين يدي ارتجاف الزلزال المدمر … كانت تحاول النطق باسمي لكن لم تستطع النطق بأكثر من

" و … و … و "
انهمرت دموعي كالشلال و أنا أضغط عليها و هي تضغط علي و تتشبث بي بقوة و أشعر بأصابعها تكاد تخترق جسدي فيما ترفع رجليها للأعلى كأنما تتسلقني خشية أن تلامس رجلها الأرض و تفقدها الأمان …

" أنا معك عزيزتي لا تخافي … معك يا طفلتي معك … "

حاولت أن أبعد رأسها قليلا عني حتى أتمكن من رؤية عينيها و إشعارها بالأمان ، لكنها بدأت بالصراخ و تشبثت بي بقوة أكبر و أكبر كأنها تريد أن تدخل بداخلي …

" وليد ! لديك امتحان مهم ! هل ستضيّع الفرصة ؟ "

قال هذا عمّار الوغد و أطلق ضحكة كبيرة …

انتابتني رغبة في تحطيمه ألا أن رغد عادت تصرخ حينما خطوت خطوة واحدة نحوه …

" خسارة يا وليد ! جرّب حظك في مصنع والدي ! "

و ابتسم بخبث :

" دفّعتك الثمن … كما وعدت "

ثم استدار و هم بركوب سيارته …

خطوت خطرة أخرى نحوه ، فأخذت رغد تصرخ بجنون :

" لا .. لا .. لا .. لا .. لا "

انثنى عمّار ليدخل السيارة ، ثم توقف ، و استقام ، و استدار نحوي و قال :

" نسيت أن أعيد هذا ! "

و من جيب بنطاله أخرج شريطا قماشيا طويلا ، و رماه في الهواء باتجاهي

رقص الشريط كالحية في الهواء ، وأنا أراقبه ، في نفس اللحظة التي ظهرت فيها طائرة في السماء مخترقة قرص الشمس المعشية ، و دوت بصوتها في الأجواء ، فيما يتداخل صوتها مع صوت عمّار وهو يقول :

" إلى الجحيم ! "

ثم هبط الشريط المتراقص تدريجيا و بتمايل حتى استقر عند قدمي ّ …

ركزت نظري على الشريط ، لأكتشف أنه الحزام الذي تلفه رغد حول خصرها ، و التابع لزيها المدرسي الذي ترتديه الآن …

رفعت نظري ببطء و ذهول و صعق إلى وجه عمّار ، فحرك هذا الأخير زاوية فمه اليمنى بخبث إلى الأعلى في ابتسامة قضت علي ّ تماما … و دمرتني تدميرا

أبعدت وجه رغد عن كتفي و أجبرتها على النظر إلي … فيما أنا عاجز عن رؤية شيء … من عشي الشمس … و هول ما أنا فيه …

لم أر إلا دمارا و حطاما و نارا و جحيما …

لهيبا … و صراخا … و دموعا تحترق … و آمالا تتبعثر … و أحلاما تظلم …

سوادا في سواد …

عند هذه اللحظة ، نزعت رغد عني عنوة ، و دفعت بها أرضا و نظرت من حولي فإذا بي أرى صخور كبيرة قربي …

التقطت واحدة منها ، و بسرعة لا تجعل مجالا للمح البصر بإدراكها ، و قوة لا تسمح لشيء بمعاكستها ، رميتها نحو عمار و هو يهم بركوب سيارته ، فارتطمت برأسه … و صرخ … و ترنح لثوان ..

ثم هوى أرضا …

و انتفض جسده …

و انتزعت روحه …

و إلى الجحيم
يتبع

الحلقة السادسة

لاترحــل يا وليــــد

وقفت جامدا في مكاني ، و أنا أراقب عمّار يترنح ، ثم يهوي ، و تسكن حركاته …

كان دوي الطائرة يزلزل طلبتي أذني … دققت النظر إليه … لم يحرّك ساكنا

رفعت قدمي بصعوبة و حثثتها على السير نحو عمّار

بصعوبة وصلت قربه فرأيت عينيه مفتوحتين ، و الدماء تسيل من أنفه ، و صدره ساكنا عن أية أنفاس …

أدركت … أنه مات … و إنني أنا … من قتله

استدرت للخلف و عيناي تفتشان عن رغد …

صغيرتي الحبيبة …

مدللتي الغالية …

مهجة قلبي …

رأيتها تقف بذعر عند سيارتي ، و تنظر إلي و دموعها تنهمر بغزارة ، فيما يستلقي حزامها القماشي على الرمال الناعمة بكل هدوء …

بتثاقل و بطء ، بانهيار و ضعف شديدين ، سرت باتجاهها …

نفذ كل ما كان في جسدي من طاقة ، فكأنما كنت أعمل على بطارية انتزعت مني

و تركتني بلا طاقة و لا حراك …

في منتصف الطريق ، انهرت …

خررت على الأرض كما تخر قطعة قماش كانت متدلية كالستار المثبت إلى الحائط

و ارتطمت ركبتاي بالرمال … و هبطت أنظاري برأسي نحو الأرض …

رفعت رأسي بصعوبة و نظرت إلى رغد ، و هي لا تزال واقفة في نفس الموضع و الوضع …

بصعوبة فتحت ذراعي قليلا ، و قلت بصوت مخنوق خرج من رئتي :

" تعالي … "

رغد نظرت إلي دون أن تتحرك ، فعدت أقول :

" تعالي … رغد "

الآن ، أقبلت نحوي بسرعة ، و بقوة ارتمت في حضني و كادت تلقيني أرضا …

طوّقتني بذراعيها بقوة ، و حين حاولت تطويقها أنا عجزت إلا عن رمي ذراعي المنهارتين حولها بضعف

بكيت كثيرا … و كثيرا جدا …

لما ضاع … و لما انتهى ..

و لما هو آت و محتوم …

بقينا على هذا الوضع بضع دقائق ، لا أقوى على قول أو فعل شيء … و السكون التام يسيطر على الأجواء …

كان طريقا بريا موحشا ، و لم تمر بنا أية سيارة حتى الآن …

استعدت من القوة ما أمكنني من تحريك يدي قليلا ، فجعلت أمسح على رأس طفلتي و أنا أقول بحرقة و مرارة :

" سامحيني يا رغد … سامحيني … "

رغد استردت أنفاسها التائهة ، و قالت و وجهها لا يزال مغمورا في صدري :

" دعنا نعود للبيت "

أبعدت رأسها قليلا عني و سمحت لأعيينا باللقاء … و أي لقاء

لقاء مبلل بسيول عارمة من الدموع الدامية

لم يجد لساني ما يستطيع النطق به …

حاولت النهوض أخيرا ، و ذراعاي تجاهدان من أجل حمل الصغيرة ، ففشلت

أطلقت صيحة حسرة و ألم مريرة تمنيت لو أنها زلزلت الكون كله ، و حطمت كل الأجرام و الكواكب و من عليها … و محت الدنيا من الوجود …

و طفلتي الصغيرة تبكي على صدري مذعورة فزعة … و عدوّي الوغد جثة هامدة تقطر دما … و حلمي الكبير قد ضاع و تلاشى كغبار عصفت به ريح غادرة …
و مصيري المجهول البعيد … كما وراء الأفق … و الساحة الخالية إلا من رغد وأنا … و الشمس تشهد ما حدث و يحدث … رفعت يدي إلى السماء … و صرخت :

" يا رب …. "

استطعت أخيرا أن اشحن بالطاقة الكافية ، لأنهض و أحمل صغيرتي على ذراعي ، و أسير بها نحو السيارة …

لم أجلسها على المقعد المجاور لا ، بل أجلستها ملتصقة بي ، فأنا لا أريد لبضع بوصات أن تبعدها عني …

رن هاتفي المحمول ، و الذي كان في السيارة ، ألقيت نظرة لا مبالية على اسم المتصل الظاهر في الشاشة ، كان صديقي سيف ، أخذت الهاتف و أسكته ، و ألقيت به جانبا … فكل شيء قد انتهى …

انطلقت بالسيارة ببطء ، و أنا لا أعرف إلى أين أتجه … فكل شيء أمامي كان مبهما و مجهولا …

قطعت مسافة طويلة في اتجاهات متعددة ، و نار صدري تتأجج ، و دموعي عاجزة عن إطفاء شرارة واحدة منها …

صغيرتي ، ظلت متشبثة بي ، لا تتكلم ، و تنحدر دمعة من عينها تخترق صدري و تمزق قلمي قبل أن ينتهي بها المصير إلى ملابسها المتعطشة لمزيد من الدموع …

بعد فترة ، مررت في طريقي بحديقة عامة

و تصورا أي تصرف لا يمت لوضعي بصلة ، هو الذي بدر مني دون تفكير !

" رغد عزيزتي ، ما رأيك باللعب هنا قليلا ؟ "

رغد رفعت بصرها إلي ببراءة و شيء من الاستغراب … فحتى على طفلة صغيرة محدودة المدارك ، لا يبدو هذا تصرفا طبيعيا ..

" سأشتري بعض البوضا لنا أيضا ! هيا بنا "

و أوقفت السيارة ، و فتحت الباب ، و نزلت و أنزلتها عبر الباب ذاته .

أمسكت بيدها و حثثتها على السير معي نحو مدخل الحديقة

هناك ، كان العدد القليل جدا من الناس يتنزهون ، مع أطفالهم الصغار ، فهو نهار يوم دراسي و حار …

إنني اعرف أن صغيرتي تحب الأراجيح كثيرا ، لذا ، أخذتها إلى الأرجوحة و بدأت أؤرجحها بخفة …

تخلخل الهواء ملابسها الغارقة في الدموع ، فجففها ، و صافحت وجهها الكئيب فأنعشته …

تصوروا أنها ابتسمت لي !

عندما كانت رغد تبتسم ، فإن الدنيا كلها ترقص بفرح في عيني ّ و البهجة تجتاح فؤادي و أي غبار لأي هموم يتبعثر و يتلاشى …

أما هذه الابتسامة … فقد قتلتني …

لم أع لنفسي إلا و الدموع تقفز من عيني ّ قفزا ، و أوصالي ترتجف ارتجافا ، و قلبي يكاد يكسر ضلوعي من شدة و قوة نبضاته …

تبتسمين يا رغد ؟ بكل بساطة … و كأن شيئا لم يكن !؟

ألا يا ليتني … قتلتك يا عماّر يوم تعاركنا …

ليتني قضيت عليك منذ سنين …

ليتني أحرقتك قبل أن تحرق قلبي و تدمر ماضي و مستقبلي … و تحطّم أغلى ما لدي …

" وليد "

انتبهت على صوت رغد تناديني ، و أنا غارق في الحزن المرير …

مسحت دموعي بلا جدوى ، فالسيل منهمر و الدمعة تجر الدمعة …

" نعم غاليتي ؟ "

" هل نشتري البوضا الآن ؟ "

أغمضت عيني …

و أوقفت الأرجوحة شيئا فشيئا ، فنزلت و استدارت إلي … فأخذتها في حضني و قلت باكيا و مبتسما :

" نعم يا صغيرتي ، سنشتري البوضا و أي شيء تريدينه … و كل شيء تتمنينه …
أي شيء أيتها الحبيبة … أي شيء … أي شيء … "

و انخرطت في بكاء قوي …

رغد ، تبدلت تعابير وجهها و قالت و هي تندفع للبكاء :

" لا تبكي وليد أرجوك "

و أجهشت بكاءا هي الأخرى …

جذبتها إلى صدري و طوقتها بحنان و عاطفة ممزقة … و بكينا سوية بكاءا يعجز اللسان عن وصفه …

و القلب عن تحمله ..

و الكون عن استيعاب فيض عبره

و امتزجت دموعنا …

و لو مر أحد منا لبكى …

و لو شهدتم بكاءنا لخررتم باكيين …

ألا و حسبنا الله و نعم الوكيل ….

بعد ذلك ، مسحت دموعها و دموعي ، و ابتسمت لها :

" إلى البوضا الآن ! "

حملت الطفلة الصغيرة الحجم الخفيفة الوزن الضئيلة الجسم البريئة الروح على ذراعي ، فهي تحب ذلك …

و أنا سأفعل كل ما تحبه و تريده …

و لو أملك الدنيا و ما عليها لقدمتها لها فورا … قبل الرحيل …

و هل سيعوّض ذلك شيئا …

اشترينا البوضا ، و جلسنا نتناولها قرب النافورة ، و حين فرغت من نصيبها اشتريت لها واحدا آخر …

و كذلك ، أطعمتها البطاطا المقلية فهي تحبها كثيرا !

أطعمتها بيدي هاتين …

نعم … بهاتين اليدين اللتين كثيرا ما اعتنتا بها … في كل شيء …

و اللتين قتلتا عمّار قبل قليل …

و اللتين ستكبلان بالقيود ، و تذهبان إلى حيث لا يمكنني التكهن …

جعلتها تلعب بجميع الألعاب التي تحبها ، دون قيود و دون حدود ، بل ركبت معها و للمرة الثانية في حياتها ذلك القطار السريع الذي جربنا ركوب مثيله قبل 3 سنوات …

و كم أسعدتها التجربة الثانية !

نعم … ببساطة … أسعدتها !

كأي طفلة صغيرة وجدت فرصة لتلهو … دون أن تدرك حقائق الأمور …

لهونا كثيرا … ، و حين اقترب الموعد الذي يفترض أن أكون فيه عند مدرسة رغد و دانة ، في انتظار خروجهما …

" عزيزتي ، سنذهب لأخذ دانة من المدرسة ، لا تخبريها عن أي شيء "

نظرت رغد إلي باستفهام ، أمسكت بكتفيها و قلت مؤكدا :

" لا تخبري أحدا عن أي شيء ، أنا سأخبرهم بأنك لم تشائي الذهاب للمدرسة فأخذتك معي … اتفقنا رغد ؟ عديني بذلك ؟ "

و ضغط على كتفيها و بدا الحزم في عيني … فقالت :

" حسنا "

قلت مؤكدا :

" أخبريهم فقط أنك ذهبت معي ، و نمت أثناء الطريق و لا تعلمين أي شيء آخر … لا تأتي بذكر أي شيء آخر رغد … فهمت ِ عزيزتي ؟ "

" نعم "

" عديني بذلك يا رغد … عديني "

" أعدك … وليد "

" إذا أخلفت وعدك ، فإنني سأرحل و لن أعود إليك ثانية "

توجم وجهها ، ثم أمسكت بيدي و شدّت قبضتها بقوة و اغرورقت عيناها بالدموع و تعابيرها بالفزع و قالت :

" لا لا ترحل وليد . أرجوك . لا تتركني . أعدك . أعدك "

وصلنا إلى البيت أخيرا ، بدا الوضع شبه طبيعي ، إلا من سكون غريب من قبل رغد و التي يفترض بها أن تكون مرحة …

الكل عزا ذلك للحزن الذي يعتريها بسبب سفري المرتقب .

سألتني أمي :

" كيف كان الامتحان ؟ "

قلت :

" سأخبرك بعد الغذاء "

و تركت العائلة تنعم بوجبة هنيئة أخيرة …

بعد ذلك ، ذهبت إلى غرفة والدي ّ في وقت قيلولتهما الصغيرة …

" والدي … والدتي … لدي ما أخبركما به "

بدا القلق على وجهيهما ، و تلعثمت الكلمات على لساني…

أمي ، حين لاحظت حالتي المقلقة قالت :

" هل الامتحان …. "

قلت :

" لم أحضر الامتحان "

اندهشا و تفاجأا …

قال والدي :

" لم تحضره ؟ كيف لماذا ماذا حصل "

نظرت إليهما ، و سالت دموعي … و انهرت … و طأطأت رأسي للأرض …

هتفت أمي بقلق و فزع :

" وليد "

أخذت نفسا عميقا … و رفعت بصري إليهما و بلسان مرتجف و جسد يرتعش و شفتين مترددتين قلت :

" لقد …. قتلت عمّار "

~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
الهاتف المحمول الخاص بعمار، و الرقم الأخير الذي تم طلبه ،
و الأخير الذي تم استقباله فيه ، و توقيت الاتصال ، و توقيت حدوث الوفاة ،
و العراك الذي حصل مؤخرا بيني و بينه و تدخلت فيه الشرطة ، و عدم حضوري للامتحان ،
كلها أمور قد قادت الشرطة إلي ّ بحيث لم يكن اعترافي ليزيدهم يقينا بأنني الفاعل …

بقي … شيء حيّرهم … تركته ساكنا في قلب الرمال …

حزام رغد

ما سر وجوده هناك …

أنكرت أي صلة لرغد بالموضوع بتاتا ، و لدى استجوابها أخبرتهم أنها لا تعرف شيئا ، حسب اتفاقنا

سيف أيضا تم التحقيق معه ، و أكد للشرطة أنه حين اتصل بي كنت على مقربة من المبنى حيث قاعة الامتحان

و ظل السؤال الحائر :

لماذا عدت أدراجي ؟

ما الذي دفعني للذهاب إلى شارع المطار ، و الشجار مع عمّار ، و من ثم قتله

لماذا قتلت عمّار

ما الذي أخفيه عن الجميع

والد صديقي سيف كان محاميا تولى الدفاع عني في القضية ، باعتبار أنني قتلته دون قصد …
و أثناء شجار … و بدافع كبير أصر على كتمانه …

و سأظل أكتمه في صدري ما حييت … فإن هم حكموا بإعدامي … أخبرت أمي قبل تنفيذ الحكم …

و إن عشت ، سأقتل السر في صدري إلى أن أعود … من أجل صغيرتي …

تعقدت الأمور و تشابكت … و ظلّ الغامض غامضا و المجهول مجهولا ،

و حكم علي ّ بالسجن لأمد بعيد …

" أمي … أرجوك … لا تخبري رغد بأنني ذهبت للسجن … اخبريها بأنني سافرت لأدرس … و سأعود حالما أنتهي … و قولي لها أن تنتظرني "

" أبي … أرجوك … لا تقسو على رغد أبدا … اعتنوا بها جيدا جميعكم …
فأنا لن أكون موجودا لأفعل ذلك "

كان ذلك في لقائي الأخير بوالدي ّ ، قبل أن يتم ترحيلي إلى سجن العاصمة ، حيث سأقضي سنوات شبابي و زهرة عمري فيه … بدلا من الدراسة في الجامعة … و أعود إن قدرت لي العودة خريج سجون بدلا من خريج جامعات … و بمستقبل أسود منته ، بدلا من بداية حياة جديدة و أمل …

هكذا ، انتهت بي الأحلام الجميلة …

هكذا ، أبعدت عن رغد … محبوبتي الصغيرة
و لم يبق لي منها إلا صورتين كنت قد وضعتهما في محفظتي قبل أيام …

و ذكريات لا تنسى أحملها في دماغي و أحلم بها كل ليلة …

و صورتها الأخيرة مطبوعة في مخيلتي و هي تقول :

" لا لا ترحل وليد . أرجوك . لا تتركني "
يتبع

الحلقة السابعة

وبئــس الحيــــاة

لأن أخي وليد لم يعد موجودا ، فسأخبركم أنا ببعض ما حدث في بيتنا بعد المصيبة العظمى .

لم يكن تقبل أي منا لا أنا و لا والديّ أو دانة أو رغد لغياب وليد بالشيء السهل مطلقا

و خصوصا رغد ، فهي متعلقة به كثيرا و رحيله أحدث كارثة بالنسبة لها

مرضت رغد في بداية الأمر بشكل ينذر بالخطر .

وليد قبل أن يخرج مع أبي من المنزل ذلك اليوم إلى حيث لم نكن نعلم ، مر بغرفة رغد و قد كانت مقيلة بعد الظهيرة .
أظنه ظل ّ يبكي هناك لفترة طويلة …

فتش جيوبه ثم أخرج مجموعة من تذاكر ألعاب حديقة الملاهي ، و وضعها إلى جانبها كما وضع ساعة يده … ثم قبل جبينها و غادر

أتى إلينا واحدا واحدا و جعل يعانقنا بحرارة و دموع مستمرة …

عندما سألت دانة :

" إلى أين تذهب يا وليد "

أجاب أبي :

" سيسافر ليدرس كما تعلمون "

الذي نعلمه أن موعد السفر لم يكن في ذلك اليوم … و لو يكن قد تحدد

إنني لم أعرف أنه في السجن غير اليوم التالي ، و قد أجبرت على كتم السر هذا عن الصغيرتين .

صحيح أنني تمنيت أن يهلك عمّار لحظة أن سخر مني و جعل الناس من حولي يضحكون علي ، ألا أنني لم أتمنى أن يكون شقيقي الأكبر و أخي الوحيد هو من يهلكه…

خلال السنوات الماضية ، كثيرا ما كان الشجار ينشب بينهما و عراكنا الأخير لم يكن غير حلقة من السلسلة …
خاتمة السلسلة … الحلقة الأخيرة …

فيما كنا جالسين في غرفة المعيشة بعد مغادرة أبي و وليد وصلنا صراخ غير طبيعي من غرفة رغد

أسرعنا جميعا نحوها فوجدناها في حالة فظيعة من الذعر و الخوف … و تصرخ " وليد … وليد …"

تلت ذلك مرات و مرات و حالات و حالات من الذعر و الفزع و الانهيار التي أودت بصحة الصغيرة لأسابيع …
في كل يوم ، بل كل ساعة ، تقوم رغد بالاتصال بهاتف وليد لكن دون جدوى

" لقد قال انه سينتظر اتصالي كل يوم "

لقد كانت تعتقد أنه سافر ..

" أنا وفيت بوعدي … يجب أن يفي بوعده "

و الكثير من الهلاوس و الوساوس … و التصرفات الغير طبيعية التي صدرت منها …

و بدلا من أن تكبر … أظنها صغرت و عادت للوراء ست سنين ، أي كما جاءتنا أول مرة …
بكاء مستمر ، و خوف لا مبرر له ، تشبث جنوني بأمي ، حتى في النوم .

رفضت الذهاب للمدرسة أول الأيام ، كثيرا ما كانت تدخل غرفة وليد و تستلقي على سريره و تبدأ بالبكاء ثم الصراخ ، حتى اضطرت والدتي لقفل تلك الغرفة لحين إشعار آخر …

توالت الأيام ، و بدأت حالتها تهدأ شيئا فشيئا ، و تعتاد فكرة أن وليد لم يعد موجودا ، و أنه سيعود بعد زمن طويل …

أما تذاكر اللعب ، فحين أردت أخذها ذات مرة لتلهو في الحديقة ، رفضت … و قالت :

" سأذهب مع وليد حينما يعود "

و أما الساعة ، فلا تزال تحتفظ بها بين أشيائها النفيسة …

" سأعيدها لوليد حين يعود "

لأنه نقل إلى سجن العاصمة ، فإننا لاقينا بعض الصعوبات في زيارته ، خصوصا و أوضاع البلد تدهورت كثيرا و الحرب اشتدت و الدمار حل و انتشر و حطّم ما حطم من المباني و الأراضي و الشوارع … و كل شيء ، و اضطررنا لترك منزلنا و الانتقال لمدينة أخرى …
في كل يوم ، و بين الفينة و الأخرى يزج بشخص جديد في السجن .

في الفترة الأخيرة ، كان معظم السجناء من مرتكبي الجرائم السياسية

أو المتهمين بها ظلما .

كنت أنا أصغر الموجودين سنا ، إذ أنني لم أبلغ العشرين بعد و كان وجودي بين السجناء مثيرا للاهتمام .

تعرفت على ( زميل ) يدعى نديم .
نديم هذا كان متهما بإحدى الجرائم السياسية و قد حكم عليه بسنوات طويلة من السجن و الحرمان من الحياة …

" و من يعتني بزوجتك و ابنتك الآن ؟ "

سألته أثناء حديث لنا ، و هل كنا نملك غير الأحاديث

أجابني :

" ليس لدي الكثير من الأقارب ، ألا أنني اعتقد أنهما ستلجئان إلى أخي غير الشقيق ( عاطف ) فهو مقتدر ماديا و يستطيع مساعدتهما ـ إن قبل

و اكتشفت فيما بعد ، أن عاطف هذا لم يكن غير والد عمّار الذي قتلته !

الذي جعل الأمر يمر مرور الكرام هو أن نديم لم يكن على علاقة وطيدة بأخيه غير الشقيق عاطف او ابنه المتوفى عمّار …

و الذي حدث هو أننا مع الوقت أصبحنا صديقين حميمين رغم ذلك .

لقد كان هو الداعم الوحيد لي و المشجع على عيشة السجن المريرة …

و أي مر
أي عذاب ؟
أي ضياع …

في كل ليلة ، اضطجع على السرير الضيق المهترىء المتسخ ، عوضا عن سريري الواسع المريح ، و أغطي جسدي المنهك بأغطية بالية ممزقة ، بدلا من البطانيات الناعمة النظيفة …

اغمض عيني ّ و أفكر … و أتذكر … و أبكي …

أخرج الصورتين من تحت الوسادة القديمة المسطحة، و أحدق بهما …

هنا ، يقف أفراد عائلتي جميعا ، هذا أبي … هذه أمي … هذا شقيقي سامر ، و هذه الندبة التي شوّهت وجهه منذ ذلك اليوم … و هذه دانة … بظفيرتيها المتدليتين على كتفيها …
و هذه … هذه …

من هذه

إنها دنياي …

حبيبتي الصغيرة المدللة …
طفلتي الغالية …

نبضة قلبي … رغد

تقف إلى جانبي ممسكة برجلي …
كانت تريد مني أن أحملها ألا أنني فضلت أن نلتقط الصورة و هي واقفة إلى جواري …

و في هذه الصورة … مع دفتر تلوينها …

ما أجملها .. و ما أجمل شعرها الخفيف الناعم … كم أحب أن أمسح على رأسها … ما أنعم هذا الملمس …

مسحت بيدي … شعرت بخشونة …
خشونة السرير الذي ألقي بجسدي عليه …
خشونة الواقع الذي أعيشه …

رفعت يدي و أخذت أحدق براحتي …

و أرى ما علق بها من غبار و حبات رمل تملأ السرير …

صرخت …

صرخت فجأة رغما عني …

" رغد … أعيدوني إلى رغد … أخرجوني من هنا … "

في الصباح … أنهض عن سريري بكل كسل و كل ملل و إحباط

فأنا سأنتظر دوري في طابور السجناء الذاهبين إلى دورات المياه ، ثم أخرج من ذلك المكان البغيض و أنا أشعر أنني كنت أكثر نظافة قبل دخولي إليه ، و أذهب إلى حيث يقدّم لنا فطور الصباح … و أي فطور …

عوضا عن شاي أمي و أطباقها الشهية اللذيذة ، التي أتناولها عن آخرها ، يقدم لنا مشروبا سيء الطعم ، لا أستطيع الحكم عليه بأنه شاي أو قهوة أو أي مشروب آخر …

و أجبر معدتي الجوفاء على هضم طعام رديء لا طعم له و لا رائحة ، حتى إنني أترفع عن مضغه و ازدرده ازدرادا …

و يبدأ يوم فارغ لا أحداث فيه … تمر الساعة تلو الأخرى دون أن يكون هناك أي تغيير … لا مدرسة أذهب إليها … لا رفاق أتصل بهم … لا أهل أتبادل الأحاديث معهم … و لا أطفال أرعاهم و أعلمهم … و لا رغد تظهر فجأة عند باب غرفتي و تقول :

" وليــــــــــد … لوّن معي ! "

آه يا رغد …

ما الذي تفعلينه الآن ؟

ما الذي فعلته بعد غيابي ؟

هل يعتنون بك جيدا

رغد …

أكاد أموت شوقا إليك …

ليتك تقفزين من مخيلتي و تظهرين أمامي ، كما كان يحدث سابقا ….

" أخرجوني من هنا … أخرجوني من هنا .. "
لو لم يكن نديم موجودا ، أظن … أنني كنت سأصاب بالجنون .

اليوم سيأتي أهلي لزيارتي حسب الاتفاق .

في مثل هذا اليوم أكون أنا محلقا في السماء و في حالة توتر مستمرة …

أهلي بعد أن كانوا يزورونني 3 مرات في الأسبوع ، اقتصروا على واحدة بسبب صعوبة الحضور و مشقة المشوار …

أذرع الغرفة ذهابا و إيابا في توتر شديد … منتظرا لحظة مجيئهم .

" ما بك يا وليد ! اجلس ! ألم تتبع من المشي ذهابا و عودة ؟ لقد أصبتني بالدوار ! "

" لا أستطيع التوقف يا نديم … والداي و أخي سامر سيحضرون في أية لحظة ! أنا مشتاق لهم كثيرا جدا "

" على الأقل … أنت لديك من يزورك ! أما أنا فلا علم لي بحال زوجتي و ابنتي … ربما أصابهما مكروه "

التفت إلى نديم و أنا مندهش من صبر هذا الرجل و قدرته على التحمل …
من هذا الرجل العظيم ، تعلّمت أشياء كثيرة … و أدين له بالكثير …

قلت :
" لا بد أنهما لم تحصلا على تصريح لزيارتك … خصوصا و أنت ( مجرم سياسي ) و يخشى منك ! "

ابتسم نديم ، و قال مازحا :

" نعم ! فأنا ألعب بمصير دولة و شعب كامل ، لا رجل واحد !
لم لا تعمل معي بعد خروجنا من هنا ؟ "

" بعد خروجي من هنا ، فإن آخر شيء أفكر به هو العودة ! أبقني بعيدا عن السياسة و الدولة و الشعب … إنني فقط أريد العودة إلى أهلي … "

نعم ، فمن يجرّب عيشة كهذه لا يمكن أن يسلك طريقا قد يعيده إليها .

هنا ، فُتح الباب ، فاقشعر بدني و تأهبَت أذناي لسماع ما سيقوله الحارس …
ربما جاء دوري للزيارة …

وقفنا جميعا ، أنا و نديم و جميع من كان معنا لدى سماعنا جلبة و ضوضاء قادمة من ناحية الباب ، و من ثم رؤيتنا للحراس و الضباط يدخِلون ثلاثة من الرجال المكبلين بالحديد إلى داخل السجن ، و يدفعون بهم دفعا و ينهالون عليهم بالضرب العنيف …

لقد كان مشهدا مريعا هزّ قلوبنا جميعا ، و حين قاوم أحدهم رجال الشرطة و حاول مهاجمته ، رُمي بالرصاص … و خر صريعا .

حمل بعض الحراس الجثة و أبعدوها خارج الزنزانة ، فيما واصل بعضهم ضرب الرجلين الآخرين حتى أفقدوهما الوعي …

كان منظرا فظيعا جفلت أفئدتنا و اكفهرت وجوهنا لدى رؤيته …

ترك الضباط و الحراس السجينين الجديدين ، و غادروا .

وقفت جامدا في مكاني لا أقوى على الحراك ، بعد أن كنت في قمة النشاط و الحركة ، أجول بالغرفة دون سكون ….

اقترب بعض الزملاء من الرجلين و حملوهما إلى سريرين متجاورين ، و اعتنوا بهما حتى أفاق أحدهما ، و علمنا منه أنهم ـ أي الثلاثة ـ ( متهمون بجرائم سياسية ) و محكوم عليهم بالإعدام .

أخبرنا المجرم الجديد هذا عن الأوضاع التي ازدادت تدهورا بشكل كبير جدا ، و أنه تم القبض على مجموعة كبيرة جدا من الشبان بتهم سياسية مختلفة و زج بهم في السجون ، في انتظار حكم الموت ، و أن عدد القتلى من جنود الحرب و كذلك من عامة الناس في ازدياد مطرد ، و أن الحرب حامية الوطيس و المقابر ممتلئة و الفوضى تعم البلاد …

بقيت واقفا عند الباب أنتظر … الوقت يمر و أهلي لم يحضروا … فهل أعاقهم شيء ؟ أم هل أصابهم مكروه لا قدّر الله ؟

نديم كان يراقبني ، و كلما التفت إليه التقت نظراتنا ، أنا في قلق ، و هو يصبّر … و كلما التفت إلى الناحية الأخرى ، وقع بصري على الدماء المراقة على الأرض … فأرفع بصري في ذعر نحو السقف ، فأرى مجموعة من حشرات الجدران تتجوّل بلا رادع …

فأشعر باختناق في صدري ، و أحاول شهق نفس عميق ، فتنجذب إلى أنفي روائح كريهة مختلطة ، مزيج من روائح العرق …
و الدماء …
و الأنفاس …
و بقايا الطعام المتعفن في سلة المهملات …
و دخان السيجارة التي يدخنها الحارس خلف الباب …

" أين والداي ؟ لماذا لم يحضرا ؟ أخرجوني من هنا … لم أعد أحتمل … أخرجوني من هنا … "

انهرت و أنا ابكي كطفل أضاع والديه في متاهة ، فأقبل نديم نحوي يواسيني ، بينما أطلق مجموعة من السجناء هتافات الانزعاج و الاستياء أو السخرية مني
و من بكائي و نحيبي المتكرر …

إنني ابن العز و النعمة و الرخاء …
و قد تربيت في بيت نظيف وسط عائلة راقية محترمة … كيف لي أن أتحمّل عيشة كهذه ، و لدهر طويل ، لمجرد أنني قلت شخصا يستحق الموت ؟

لم يحضر والداي في ذلك اليوم ،

و لا اليوم الذي يليه ،

و لا الأسبوع الذي يليه ،

و لا الشهر الذي يليه ،

و لا السنين التي تلته واحدة تلو الأخرى ….
أصبحت منقطعا بشكل نهائي عن أهلي و عن الدنيا بأسرها
اعتقد أن مكروها قد ألم بهم ، و لا أستبعد أن يكونوا قتلوا في الحرب …

الشخص الوحيد الذي حضر لزيارتي بعد عامين كان صديقي القديم سيف .

" لا أصدق أنك تذكرتني ! لا بد أنني أحلم ؟ "

قلت ذلك ، و أنا مطبق بكل قوتي على صديقي ، كمن يمسك بخيال يخشى ذهابه …

" لم أنسك أيها العزيز … إنني عدت للبلد بصعوبة قبل أيام ، فكما تعلم كنت مسافرا للدراسة في الخارج … أوضاع البلد لم تسمح لي بالعودة قبل الآن "

سألته بلهفة و خوف :
" و أهلي ؟ عائلتي ؟ ما هي أخبارهم أما زالوا أحياء ؟ لماذا لا يزورونني ؟ "

سيف طأطأ برأسه و تنهد بمرارة ، فأغمضت عيني ّ و وضعت يدي فوقهما لأتأكد من أن الخبر المفجع لن يصلني …

سيف ربت على كتفي و قال :

" لا علم لي بأخبارهم يا وليد … إذ يبدو أنهم اضطروا للرحيل عن المدينة و ربما سافروا لمكان بعيد … و لم يتمكنوا من العودة … "

تأوهت …
و شعرت بشيء يخترق صدري فتألمت … تهت بعيدا …
هل انتهى كل شيء ؟
أمي و أبي …
سامر و دانة …
و الحبيبة رغد …
حياتي كلها …
هل انتهى كل ذلك ..

شعر سيف بألمي فعانقني بعاطفة ملتهبة … و قال :

" سأحاول تقصي أخبارهم يا وليد … الدنيا في الخارج مقلوبة رأسا على عقب … ربما تكون أنت قد نجوت بدخولك هذا السجن ! "

أبعدت سيف عني قليلا بما يسمح لأعيننا باللقاء …

قلت :

" أريد أن أخرج من هنا … "

أمسك سيف بيدي و شدّ عليها … عيناه تقولان أن الأمر ليس بيده …

قلت :

" سيف … سيف أنت لا تعلم كم الحياة هنا سيئة ! إنهم … إنهم يا سيف يضعون الحشرات عمدا في طعامنا و يجبروننا على قضم أظافرنا … و المشي حفاة في دورات المياه القذرة !
سيف … إنهم لا يوفرون لنا الأشياء الضرورية كالمناديل و شفرات الحلاقة !
أنظر كيف أبدو ؟ ألست مزريا ؟
عدا عن ذلك ، فهم يضربون و بعنف كل من يبدي استياء ً أو يتذمر !

زنزانتي يا سيف … لا يوجد فيها فتحة غير الباب المقفل …
لا هواء و لا نور إنني مشتاق إلى الشمس …
إلى الهواء النقي … إلى أهلي … إلى الحياة …

إلى كل شيء حرمت منه …
أبسط الأشياء التي تجعلني أحس بأنني بشر … مخلوق كرّمه الله !
إلى … فرشاة أسنان نظيفة أنظّف بها أسناني ! "

و لو كنت استمررت في وصف حالي له ، لكان فقد وعيه من الذهول … ألا أنني توقفت حين شعرت بيده ترتخي من قبضها على يدي و رأيت الدموع تتجمع في مقلتيه منذرة بالهطول …

أغمضت عيني ّ بحسرة و أنا أتخيل و أقارن بين حياتي في البيت ، و حياتي في هذه المقبرة …
و جاء طيف رغد و احتل مخيلتي …
الآن …
أراها و هي تقول في لقائنا الأخير :

" لا ترحل … لا تتركني "

و تتلاشى هذه الصورة ، ثم تظهر صورتها و هي مذعورة و ترتجف بين ذراعي ، ذلك اليوم المشؤوم ….

ثم تظهر صورة عمّار ، و ابتسامته الخبيثة لحظة رميه الحزام في الهواء …

" إلى الجحيم … "

قلت دون وعي مني :

" كان يجب أن أقتله … و لو يعود للحياة … لقتلته ألف مرّة … "

انتبه صديقي سيف من شروده و تخيله لحالتي الفظيعة ، قال :

" لماذا ؟ "

نظرت إله ، بصمت موحش … فعاد يقول :

" لماذا يا وليد ؟… الذي دفعك لان ترمي بنفسك في حياة كهذه لابد أنه … "

و لم يتم جملته ، استدرت موليا إياه ظهري …
تماما كما استدرت حين سألني يوم الحادث .

سيف لم يصبه اليأس مني … قال :

" أخبرني يا وليد … فقد يكون أمرا يقلب الموازين و يخرجك من هنا بمدة أقصر … والدي أكد لنا ذلك فيما مضى و قد يستطيع إعادة النظر في قضيتك بشكل ما … "

بدا و كأن قلبي قد تعلّق بأمل الخروج … و البحث عن أهلي و العودة إليهم …
و لكن … ألم يفت الأوان …

" وليد … "

استدرت لأواجه سيف … كانت نظرات الرجاء تملأ عينيه … إنه الوحيد الذي أتى ليزورني من بين أصحابي و أهلي و الناس أجمعين …

" لماذا وليد …؟ "

" سيف … "

" كنتَ على وشك الوصول لقاعة الامتحان … ما الذي أخبرك به ، ثم أجبرك على ترك الامتحان و الذهاب إلى تلك المنطقة ؟ و بالتالي … قتله "

" كان يجب أن أقتله … "

" لماذا قل ؟ أخبرني … "

" لأنه … "

" أجل .. "

" لأنه … … لأنه اختطف صغيرتي رغد … و هددني بإيذائها ما لم أسرع بالحضور لتلك المنطقة … "

أصيب سيف بالذهول … و اتسعت حدقتا عينيه و انفغر فاه مصعوقا …

قال ، دون أن تتلامس شفتاه :

" و … ؟ "

" و انتهى كل شيء …. "
يتبع

الوسوم:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.