إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستتغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون} [الحشر: 18].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، بينَ أيدينا عشرٌ مباركة فيها ليلة القدر، من حُرمها فقد حرم خيرًا كثيرًا، وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يخصُّ هذه العشرَ من بينِ سائر شهر رمضان بزيادة الطاعة، فيشمرُ في العبادة، فيحيي ليلَه بالصلاة والذكر، ويهجر الشهوات المباحة؛ فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: "كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا دخل العشر شدَّ مئزرَه، وأحيا ليلَه، وأيقظ أهلَه"؛ رواه البخاري ومسلم[1]، وشد المئزر كناية عن اعتزال النساء، والله أعلم.
فيتأكد في هذه العشر قيام الليل لإدراك ليلة القدر، وهي في أوتار العشر الأواخر من رمضان؛ ففي حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – فابتغوها في العشر الأواخر، وابتغوها في كل وتر، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين، فاستهلت السماء في تلك الليلة، فأمطرت، فوكف المسجد في مصلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ليلة إحدى وعشرين، فبصرت عيني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونظرت إليه انصرف من الصبح ووجهه ممتلئ طينًا وماء"؛ رواه البخاري ومسلم[2].
فصادفت في هذا العام ليلةَ إحدى وعشرين، وقد ثبت أنها في غير ذلك، فليلة القدر في أوتار العشر الأواخر من رمضان، وليست في ليلة بعينها، بل تتنقل، ولا يمكن الجمعُ بينَ الأحاديث الصحيحة إلا بذلك، والله أعلم.
عباد الله:
بذلك يتبيَّن لنا خطأ البعض منا حينَما يجتهد في ليلة سبع وعشرين، ويتركُ الاجتهادَ في بقية أيام العشر، فمن هذه حالُه يفوته خيرٌ كثيرٌ.
وإنه ليحزُّ في النفس زهدُ الكثيرين في هذه الليلة المباركة، فتجد من يصلون آخرَ الليل في هذه العشرِ قلةً، مع أن الله متَّعهم بالصحة والفراغ، فعلامَ التواني؟! وإلى متى؟! والواحد منَّا يُتبع نفسَه هواها.
وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَىحُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْـهُ يَنْفَطِـمِ
فلا بدَّ من مجاهدتِها على طاعةِ الله حتى تستقيمَ على الطاعة وتأنسَ بالعبادة، وقد كان النبيُّ يخصُّ العشرَ الأواخرَ من رمضانَ بالاعتكاف؛ فعن عائشة – رضي الله عنها -: "أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يعتكفُ العشرَ الأواخرَ من رمضانَ حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعدِه"؛ رواه البخاري ومسلم[3].
فصلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله – تعالى – متوقف على جمعيته على الله ولَمِّ شَعثِه بإقباله بالكلية على الله – تعالى – فإن شعثَ القلب لا يلمُّه إلا الإقبالُ على الله – تعالى – وكان فضولُ الطعام والشرابِ، وفضولُ مخالطةِ الأنام، وفضولُ الكلام، وفضولُ المنام – مما يزيدُه شعثًا ويشتِّتُه في كلِّ وادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله – تعالى – أو يعوقه، اقتضت رحمةُ العزيز الرحيم بعباده أنْ شرَع لهم من الصوم ما يُذهب فضولَ الطعام والشرابِ، ويستفرغ من القلب أخلاطَ الشهوات المعوِّقةِ له عن سيره إلى الله – تعالى – وشَرَعَه بقَدْرِ المصلحةِ بحيث ينتفعُ به العبدُ في دنياه وأخراه، ولا يضرُّه ولا يقطعُه عن مصالحه العاجلة والآجلة.
وشَرَعَ لهم الاعتكافَ الذي مقصودُه وروحه عكوفُ القلبِ على اللهِ – تعالى – وجمعيتُه عليه، والخلوةُ به، والانقطاعُ عن الاشتغال بالخلق، والانشغال به وحدَه – سبحانه – بحيث يصير ذكرُه وحبُّه والإقبالُ عليه في محلِّ هموم القلبِ وخطراتِه، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهمُّ كلُّه به، والخطراتُ كلُّها بذكره، والتفكرُ في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسُه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فَيَعُدُّه بذلك لأنسه به يومَ الوحشة في القبورِ حينَ لا أنيسَ له، ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.
عباد الله:
الاعتكافٌ مشروعٌ في السَّنة كلِّها، وليس خاصًّا بالعشرِ الأواخرِ من رمضان؛ لعموم الأدلة، وإنما وقع الخلافُ بينَ أهلِ العلم في جوازِ الاعتكافِ في الأيامِ التي يحرمُ صومُها بناءً على خلافِهم؛ هل الصيام شرطٌ لصحةِ الاعتكافِ أم لا؟ قال ابن عبد البر في "التمهيد"[4]: "أجمع العلماء على أنَّ رمضان كلَّه موضعٌ للاعتكاف، وأنَّ الدهر كلَّه موضع للاعتكاف، إلا الأيام التي لا يجوز صيامُها".
الأصلُ أن المعتكفَ لا يخرجُ من المسجد، فالاعتكاف لزوم المسجد طاعةً لله والخروجُ ينافيه، وخروج المعتكف ببدنه له أحوال:
الأول: الخروج لما لا بدَّ له منه حسًّا، كحاجة الإنسان من بول وغائط، فهذا جائز بإجماع أهل العلم؛ فعن عائشة قالت: "كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا اعتكف، يُدْني إليَّ رأسَه فأرجله، وكان لا يدخل البيتَ إلا لحاجة الإنسانِ"؛ رواه البخاري ومسلم[5].
وللمعتكف الخروجُ إذا احتاج إلى الأكل والشرب، إذا لم يكن له من يأتيه به، وكذلك يجوز له الخروجُ لما لا بدَّ له منه شرعًا، كالطهارة.
الثاني: الخروجُ من غير حاجةٍ، فهذا يفسد الاعتكاف؛ لأنَّ ملازمة المسجد ركنُ الاعتكاف الأعظم، والخروج ينافي الاعتكافَ، ويستوي في ذلك الخروج القليلُ والكثيرُ، وهذا هو الأصل في مفسداتِ العبادة، استواء القليلِ والكثير، كنواقض الوضوء ومفسدات الصيام.
إخوتي:
هل يجوز للشخص أن يشترط الخروجَ لعيادة مريضٍ وتشييعِ جنازةٍ ونحوِ ذلك، هذه المسألةُ من مسائل الخلاف بينَ أهل العلم، فمن أجاز الخروجَ بالاشتراط قاس الاعتكافَ على الحج، ومن منع الخروجَ – حتى وإن اشترط الخروج – يقول: الاعتكاف لزومُ المسجد والخروج ينافيه، ولو كان الاشتراط مشروعًا لوَرَدَ فيه النصُّ، ولا يصحُّ قياسُ الحج على الاعتكاف، والقولُ بعدم صحة الاشتراط على الأقل أحوط، فينبغي للمعتكف ألاَّ يخرج من المسجد للقُرَبِ الأخرى؛ بل يشتغل بالقرب المشروعة في حال الاعتكاف، ولو نابه أمرٌ لا بدَّ منه، كوفاة قريب يقطع اعتكافه ثم يستأنفه، فقطع نوافل العبادات جائزٌ.
وخروج بعض البدن – كخروج الرأس – لا يُفسد الاعتكافَ، كمن أخرج رأسه من النافذة أو الباب ليطَّلع على أمر خارج المسجد، فكان النبي إذا اعتكف، يدني إلى عائشة رأسه، فتسرحه وهي في بيتها والنبي في المسجد.
و يجوز للمعتكف أن يزورَه أهلُه وأصدقاؤه ويتصل بالهاتف؛ لكن الإكثار من ذلك ينافي الحكمة من مشروعية الاعتكاف.
************************* ************************* ************************* ****
[1] البخاري (2024)، ومسلم (1174).
[2] البخاري (2018) ومسلم (1167).
[3] البخاري (2026) ومسلم (1172).
[4] التمهيد، (23/56).
[5] رواه البخاري (2029)، ومسلم (297).
الخطبة للشيخ أحمد الزومان
بارك الله فيه وجعلها في ميزان حسناته
جزاااكِ الله خيراااا
جعله في ميزااان حسناااتك
بلغكِ وياانا الفردوس الاعلى من الجناااان