لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي .
يعدجهاز المناعة المكتسب من أخطر الأجهزة في الجسم البشري، وهو جيش دفاعي عالي المستوى والجاهزية، فيه فرق الاستطلاع، وفرق تصنيع السلاح، وفرق القتال، وفرق الخدمات، وفرقة المغاوير, والحديث اليوم عن فرق القتال:
يرسل فريق من كريات الدم البيضاء التي صنعت وتشكلت في نقي العظام, والتي فرزت لمهام قتالية, ترسل إلى مدرسة حربية اسمها الغدة الصعترية ( التيموس ) في دورة تثقيفية تدريبية, وبعد اجتياز الامتحان تتخرج بلقب: الخلية التائية المثقفة 0
وفي هذه المدرسة الحربية تدرس هذه الكريات البيضاء التي فرزت للقتال مادتين أساسيتين: التعريف بالذات والصديق، والتعريف بالعدو الممرض 0
ففي المقرر الأول: يعرض على هذه الخلايا مئات الألوف من البروتينات التي تدخل في بناء الجسم البشري، ثم ترمز هذه العناصر الصديقة، وتدرب هذه الخلايا على ألا تهاجمها, لأنها إن هاجمتها فمعنى ذلك أن الجسم يدمر نفسه، ويتلف بعضه 0
وفي المقرر الثاني: يعرض على هذه الخلايا ما عرفه النوع البشري عبر الأجيال على أنه عنصر ممرض من خلال مناعات الأم التي تصل إلى المولود من خلال الحليب, ومن خلال التجربة الحية إذ أن الطفل في السنوات الأولى يميل بفطرته إلى التقاط الأشياء ووضعها في فمه لتتعرف خلاياه المقاتلة على العناصر المعادية، أو أن العدوى بالأمراض تعطيه مزيداً من المعلومات عن أعدائه، ومن خلال هذه المحاضرات تتعرف هذه الكريات البيضاء المقاتلة على العناصر المعادية التي عليها أن تهاجمها، أو تذيع نبأ وجودها، أو تساهم في إلقاء القبض عليها 0
ومن خلال المجاهر الإليكترونية تبدو الغدة الصعترية من خلالها على شكل مدرجات رومانية, تصطف الكريات البيضاء عليها, لتتلقى هذه المحاضرات القيمة 0
ولا بد في أية جامعة أو معهد أو مدرسة من امتحان, تمر هذه الكريات فرادى في بوابات امتحانية, وتمتحن واحدة واحدة في المقررين السابقين:
امتحان المادة الأولى: يعرض على الكرية البيضاء الممتحنة عنصر صديق، فإن هاجمته أخفقت في الامتحان، ومنعت من مغادرة الغدة الصعترية وقتلت, لأنها إن خرجت إلى الدم تهاجم الجسم الذي شكلها 0
امتحان المادة الثانية: يعرض على الكرية البيضاء الممتحنة عنصر عدو ممرض، فإن أخفقت في تمييزه والرد عليه رسبت في الامتحان, ومنعت من مغادرة الكلية وقتلت، لأنها إن خرجت إلى الدم غفلت عن العدو, ومكنته من مهاجمة الجسم 0
يستمر عمل هذه الكلية الحربية من بدء الولادة وحتى السنة الثالثة, وبعدها تقوم بتوريث علم مراقبة وضبط عمل الكريات البيضاء إلى الكريات البيضاء الناجحة في الامتحان, والتي سميت بعد التخرج بالخلايا التائية المثقفة لتقوم بدورها في نقل هذا العلم إلى أجيال الكريات البيضاء اللاحقة 0
وفي السبعينات من العمر يضعف تثقيف الكريات البيضاء المقاتلة, فتبدأ بمهاجمة العناصر الصديقة، وبعض أجهزة الجسم وأعضائه, فنرى في هذا العمر أمراضاً شائعة كالتهاب المفاصل، وبعض الاعتلالات الكلوية، وأمراض المصليات، وأمراض أخرى ما كان سببها إلا ضعف ثقافة الجهاز المناعي الذي ينتج عنه زوال الضبط في عمل الخلايا المقاتلة, فتصبح الخلايا المناعية المقاتلة تهاجم الجسم الذي شكلها وثقفها للدفاع عنه, وتكون حالة الجسم ما يشبه الحرب الأهلية, صدق القائل:
أعلمه الرماية كــل يوم فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظـم القوافي فلما قال قافـية هجاني