معنى المزَاح لغةً:
المزاح: الدُّعابة، وهو نقيضُ الجِدِّ، من مزَح يمزَح مَزحًا ومِزاحًا ومُزاحًا ومُزاحة، وقد مازحه ممازحة ومِزاحًا، والاسم المزاح، والمزاحة أيضًا .
معنى المزَاح اصطلاحًا:
المبَاسطة إلى الغير على جهة التَّلطُّف والاستعطاف، دون أذيَّة .
الفرق بين المزَاح وبعض الصِّفات
– الفرق بين المزَاح والهَزْل:
أنَّ الهَزْل يقتضي تواضع الهازل لمن يهْزِل بين يديه، والمزَاح لا يقتضي ذلك، فالملِك يُمَازِح خدمه وإن لم يتواضع لهم تواضع الهازل لمن يهْزِل بين يديه، والنَّبي يُمَازِح، ولا يجوز أن يُقال يهْزِل. ويقال لمن يسخر: يهْزِل، ولا يقال: يمزح .
– الفرق بين المزاح والاستهزاء:
أنَّ المزَاح لا يقتضي تحقير من يمازِحه، ولا اعتقاد ذلك، فالتَّابع يُمَازِح المتبوع من الرُّؤساء والملوك، ولا يقتضي ذلك تحقيرهم ولا اعتقاد تحقيرهم، ولكن يقتضي الاستئناس بهم، والاستهزاء يقتضي تحقير المسْتَهْزَأ به، واعتقاد تحقيره .
وقيل: المزاح: الإيهام للشَّيء في الظَّاهر، وهو على خلافه في الباطن، من غير اغترارٍ للإيقاع في مكروه. والاستهزاء: الإيهام لما يجب في الظَّاهر، والأمر على خلافه في الباطن، على جهة الاغترار .
– الفرق بين المزَاح والمجُون:
أنَّ المجُون هو صلابة الوجه، وقلَّة الحياء، من قولك: مَجَن الشَّيء، يَمْجُن مُجُونًا، إذا صَلُبَ وغَلُظَ، ومنه سُمِّيت الخشبة التي يَدقُّ عليها القَصَّار الثَّوب: مِيجَنة. والمجُون كلمة مُولَّدة، لم تعرفها العرب، وإنَّما تعرف أصلها… المزاح الإيهام للشيء في الظاهر وهو على خلافه في الباطن من غير اغترار للإيقاع في مكروه. والاستهزاء الإيهام لما يجب في الظاهر، والأمر على خلافه في الباطن على جهة الاغترار .
– الفرق بين المزَاح والمدَاعَبة: !
فرَّق بعضهم بين المدَاعَبة والمزَاح بأنَّ المدَاعَبة: ما لا يُغْضِب جِدُّه، والمزَاح: ما يُغْضِب جِدُّه .
الأحاديث الواردة في المزَاح
– عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنِّي لأمزح، ولا أقول إلَّا حقًّا)) .
قال المناوي وهو يشرح هذا الحديث: (إنِّي لأمزح. أي: بالقول، وكذا بالفعل، وتخصيصه بالأوَّل ليس عليه مُعَوَّل. ولا أقول إلَّا حقًّا. لعصمتي عن الزَّلل في القول والعمل، وذلك كقوله لامرأة… ((لا يدخل الجنَّة عجوز)) ، وقوله لأخرى: ((لأحملنَّك على ولد النَّاقة)) . وقيل لابن عيينة: المزَاح سُبَّة. فقال: بل سُنَّة، ولكن مَن يُحْسِنه. وإنَّما كان يمزح لأنَّ النَّاس مأمورون بالتَّأسِّي به، والاقتداء بهديه، فلو ترك اللَّطافة والبشاشة، ولزم العُبُوس والقُطُوب، لأخذ النَّاس مِن أنفسهم بذلك على ما في مخالفة الغريزة من الشَّفَقة والعناء، فمَزح ليمزحوا) .
– عبد الرحمن بن أبي ليلى قال ((حدثنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم كانوا يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى نبل معه، فأخذها، فلما استيقظ الرجل فزع فضحك القوم فقال: ما يضحككم؟ فقالوا: لا إلا أنَّا أخذنا نبل هذا ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل لمسلم أن يروع مسلمًا)) .
قال الطَّحاوي: (ففي هذا الحديث، ذكر ما فعله الرَّجل المذكور فيه، مِن أَخْذ كِنَانة صاحبه -ليرْتَاع بفقدها- على أنَّ ذلك عنده مباحٌ له، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ((لا يحلُّ لمسلم أن يروِّع مسلمًا))، فكان قوله ذلك له -بعد فعله ما فعله- ممَّا هو من جنس ما كان فعله نُعَيْمان بسويبط، وما كان فعله عبد الله بن حذافة -في حديث علقمة المدلجي- بأصحابه ليضحكوا من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ليلى لفاعل ما ذُكر فعله إيَّاه فيه: ((لا يحلُّ لمسلم أن يروِّع مسلمًا)). فكان ذلك تحريمًا منه لمثل ذلك، ونسخًا لما كان قد تقدَّمه، ممَّا ذكرناه في هذا الباب، ممَّا تعلَّق به من تعلَّق ممَّن يذهب إلى إباحة مثله، إن كان مباحًا حينئذ، واللهَ نسأله التوفيق) .
– عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحسنَ الناسِ خُلُقًا، وكان لي أخٌ يُقالُ له أبو عُمَيرٍ -قال: أحسِبُه- فَطيمٌ، وكان إذا جاء قال: (يا أبا عُمَيرٍ، ما فعَل النُّغَيرُ؟ نُغَرٌ كان يَلعَبُ به)) .
قال ابن حجر وهو يعدِّد فوائد الحديث: (وفيه جواز الممَازَحة، وتكرير المزْح، وأنَّها إباحة سنَّة لا رخصة، وأنَّ مُمَازَحة الصَّبي الذي -لم يميِّز- جائزة، وتكرير زيارة الممْزُوح معه، وفيه ترك التَّكبُّر والتَّرفُّع، والفرق بين كون الكبير في الطَّريق فيتَوَاقَر، أو في البيت فيَمْزَح) .
المزَاح منه ما هو مذموم، ومنه ما هو محمود، فكلُّ ما جاء في ذَمِّه، فالمقصود به المذموم من المزَاح:
– قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: (مَن أكثرَ مِن شيءٍ عُرف به، ومَن مازح، استُخِفَّ به، ومن كَثُر ضَحِكه، ذهبت هيبته) .
– عن عيسى بن عبد العزيز، أنَّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بن أرطأة: (اِنْهَ مَن قِبَلَك عن المزَاح، فإنَّه يُذْهِب المروءة، ويُوغِر الصَّدر) .
– أوصى يَعْلَى بن مُنْيَة بثلاثٍ، فقال -في كلامٍ طويل-: (إيَّاكم والمزَاح؛ فإنَّه يُذهب بالبهاء، ويُعْقِب المذمَّة، ويزري بالمروءة) .
– قال عمر بن عبد العزيز: (امتنعوا من المزَاح، تسلم لكم الأعراض) .
– عن ابن المنكدر قال: (قالت لي أمِّي: يا بُنيَّ، لا تُمَازِح الصِّبيان فتهون عليهم. وقد كانت أدركت النَّبي صلى الله عليه وسلم) .
– قال سعيد بن العاص لابنه: (يا بُنَيَّ، لا تُمَازِح الشَّريف، فيحقد عليك، ولا تُمَازِح الدَّنيَّ، فيجترئ عليك) .
– كان العبَّاس رضي الله عنه يقول: (مَزَح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار المزْح سنَّة) .
– قيل لسفيان بن عيينة: المزَاح هُجنة. فقال: (بل سنَّة، ولكن الشَّأن فيمن يُحسِنه، ويضعه مواضعه) .
– قال سالم بن قتيبة لأهل بيته: (لا تُمَازِحوا فيُستَخَفَّ بكم، ولا تدخلوا الأسواق فترقَّ أخلاقكم) .
– قال الأحنف: (مَن كَثُر مِزَاحه ذهبت هيبته، ومَن كَثُر ضَحِكه استُخِفَّ به) .
– قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (لا يكون المزَاح إلَّا مِن سَخَفٍ أو بَطَر) .
– قال علي رضي الله عنه: (ستٌّ مِن المروءة، ثلاثٌ في الحضر، وثلاثٌ في السَّفر، وأمَّا اللَّاتي في الحضر: فتلاوة كتاب الله، وعِمَارة مساجد الله، واتِّخاذ الإخوان في الله، وأمَّا اللَّاتي في السَّفر: فبذل الزَّاد، وحُسْن الخُلُق، والمزَاح في غير معاصي) .
المزَاح مباحٌ، وقد يُسْتَحبُّ إذا كان فيه تَطْيِيب نفس المخَاطَب، ومؤانسته بالضَّوابط الشَّرعية، وقد يكون منهيًّا عنه، إذا أفرط فيه صاحبه أو داوم عليه، أو كان فيه تحقيرٌ أو استهزاء أو كذب، أو ترويع لمسلم أو نحوه ممَّا فيه ضرَر.
قال النَّوويُّ: (اعلم أنَّ المزَاح المنهيَّ عنه، هو الذي فيه إفراط ويُداوَم عليه، فإنَّه يُورث الضَّحك، وقسوة القلب، ويُشغل عن ذكر الله، والفِكْر في مهمَّات الدِّين، ويؤول في كثيرٍ من الأوقات إلى الإيذاء، ويُورث الأحقاد، ويُسقط المهابة والوَقار، فأمَّا ما سَلِم مِن هذه الأمور، فهو المباح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله على النُّدرة؛ لمصلحة تَطْيِيب نفس المخَاطب ومؤانسته، وهو سنَّةٌ مستحبَّة) .
وقال ابن حجر: (أخرج التِّرمذي -وحسَّنه- من حديث أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله، إنَّك تداعبنا! قال: ((إنِّي لا أقول إلَّا حقًّا)) . وأخرج من حديث ابن عبَّاس -رفعه- (( لا تمار أخاك، ولا تمازحه…)) الحديث. والجمع بينهما: أنَّ المنهيَّ عنه ما فيه إفراط أو مداومة عليه؛ لما فيه من الشُّغل عن ذكر الله، والتَّفكُّر في مهمَّات الدِّين، ويؤول -كثيرًا- إلى قسوة القلب، والإيذاء والحقد، وسقوط المهابة والوَقَار، والذي يَسلَم من ذلك هو المباح، فإن صادف مصلحة -مثل تَطْيِيب نفس المخَاطَب ومؤانسته- فهو مستحبٌّ. قال الغزالي: مِن الغلط أن يُتَّخذ المزَاح حرفةً، ويُتَمَسَّك بأنَّه صلى الله عليه وسلم مَزَح، فهو كمن يدور مع الزنج حيث دار، وينظر رقصهم، ويتمسَّك بأنَّه صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة أن تنظر إليهم) .
وقال المرتضى الزبيدي: (قال الأئمَّة: الإكثار منه، والخروج عن الحدِّ، مخلٌّ بالمروءة والوَقَار، والتَّنزُّه عنه بالمرَّة والتَّقبُّض، مخلٌّ بالسُّنَّة والسِّيرة النَّبويَّة المأمور باتِّباعها والاقتداء، وخير الأمور أوسطها) .
وقال القاري: (صرَّح العلماء بأنَّ المزَاح -بشرطه- من جملة المستحبَّات)
النَّوع الأوَّل: المزَاح المذموم
المزاح المذموم هو ما اشتمل على محظور من المحظورات كترويع المسلمين أو الكذب، أو غلب على صاحبه وأفرط فيه، يقول النَّوويُّ: (المزَاح المنهيَّ عنه، هو الذي فيه إفراط ويُداوَم عليه، فإنَّه يورث الضَّحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله والفِكْر في مهمَّات الدِّين، ويؤول في كثيرٍ من الأوقات إلى الإيذاء، ويُورث الأحقاد، ويُسقط المهابة والوَقَار)
أضرار المزَاح المذموم
1- الإفراط والمبالغة في المزَاح مَضْيَعة للوقت، وشاغلٌ عن ما هو أهمُّ، فالمداومة عليه تدلُّ عدم تقدير للزَّمن المهْدَر الذي كان ينبغي أن يستغلَّ فيما هو أولى.
2- الإكثار من المزَاح، يجلب كثرة الضَّحك، وقسوة القلب، وقد مرَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتضاحكون ويتمازحون، فقال لهم -عليه الصَّلاة والسَّلام-: ((أكثروا من ذكر هاذم اللَّذَّات)) ، فنبَّههم إلى ما يُلين قلوبهم، بدل ما هم فيه من كثرة الضَّحك الذي يقسِّي القلب.
3- المزَاح المذموم يؤول في كثيرٍ من الأحيان إلى الإيذاء، وتوريث الأحقاد، فينبغي تجنُّبه.
4- المزاح المذموم وكثرته، يُذهِب المهابة من قلوب النَّاس لهذا المكثر من المزاح، ويُذهِب عنه الوَقار
الوسائل المعينة على ترك المزَاح المذموم
1- التَّفكُّر في الأضرار التي قد تنتج عن المزَاح المذموم، واستحضار عواقبه السَّيئة.
2- مراقبة الله واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم باجتناب المزاح الذي فيه ترويع للمسلمين وغير ذلك مما نهي عنه.
3- شَغْل النَّفس بما ينفع، فالاشتغال بالنَّافع يُبعد المرء عن ممارسة الضَّار.
4- ذكر الموت، ولقد أرشد إليه النَّبي صلى الله عليه وسلم، حين مرَّ بقوم يتضاحكون ويتمازحون، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا من ذكر هاذم اللَّذَّات)).
وهو ما سَلِم من المحظورات الشرعية، ولم يغلب على صاحبه، وكانت فيه مصلحة، وتحققت فيه الضوابط الشرعية.
قال النَّوويُّ: (فأمَّا ما سَلِم من هذه الأمور، فهو المباح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله على النُّدرة؛ لمصلحة تَطْيِيب نفس المخَاطَب ومؤانسته، وهو سنَّةٌ مستحبَّة) .
ضوابط المزَاح المحمود
1- ألا يكون فيه استهزاء بشيء من أمور الدِّين:
فالاستهزاء بالدِّين، يُعتبر ناقضًا مِن نواقض الإسلام، ومُخْرِجًا لصاحبه من الملَّة، قال سبحانه وتعالى:وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التَّوبة: 65-66].
2- أن لا يتضمَّن المزَاح سخريةً أو استهزاءً بالآخرين:
وما أكثر هذه الآفة في المزَّاحين، ولا يخفى أنَّ السُّخرية بالآخرين، تُعتبر كبيرةً من الكبائر، قال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11].
3- أن يكون هذا المزَاح بصدق:
فلا يُدخِل المازح فيه الكذبَ من أجل إضحاك من حوله، فقد جعل النَّبي صلى الله عليه وسلم هذا ضابطًا لمزْحِه الذي يجب علينا أن نتأسَّى به فيه، وذلك عندما قال له الصَّحابة -رضوان الله عليهم-: يا رسول الله، إنَّك تداعبنا! قال: ((إنِّي لا أقول إلَّا حقًّا)) . وقال -عليه الصَّلاة والسَّلام-: ((ويلٌ للذي يحدِّث فيكذب ليضحك به القوم، ويلٌ له، ويلٌ له)) .
4- أن لا يترتَّب عليه ضرر على الآخرين:
وذلك مثل ترويع الشَّخص بقصد المزَاح معه، فقد نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال ((حدثنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم كانوا يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى نبل معه، فأخذها، فلما استيقظ الرجل فزع فضحك القوم فقال: ما يضحككم؟ فقالوا: لا إلا أنَّا أخذنا نبل هذا ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل لمسلم أن يروع مسلمًا)) .
5- أن لا يتَّخذ المرء المزَاح دَيْدَنه وعادته:
وإنَّما يكون كالملح في الطَّعام، فإنَّ الإكثار من المزَاح مُذْهِب للمروءة، ويُفقد الشَّخص الهيبة، وقد يؤدِّي إلى أن يجعل الشَّخص عرضةً لسخرية الآخرين منه. كما ينبغي عليه ألا يبالغ في المزَاح، ولا يطيل فيه.
6- أن يراعي الشَّخصَ الذي يمزح معه:
فما كلُّ أحدٍ يُمْزَح معه، ولا بدَّ من إنزال النَّاس منازلهم في المزَاح، فقد قيل: (لا تمازح الشَّريف فيحقد عليك، ولا الدَّنيَّ فيجترئ عليك) . فلا يكون مع مَن لا يليق بهم المزْح؛ ممَّن يحرجهم لمكانتهم، ولا يكون مع السُّفهاء؛ حتى لا يجترئوا على المازح.
7- أن يخلو من المعاصي التي كثيرًا ما تصاحب المزَاح غير المنضبط:
وذلك كالغيبة والهَمْز واللَّمز.
8- اختيار الوقت المناسب للمزاح:
وهذا من الضَّوابط المهمَّة للمَزْح، فليس كلُّ وقتٍ يَصلُح للمِزَاح، ولا كلُّ زمانٍ تليق فيه الدُّعابة.
فوائد المزَاح المحمود
– المزَاح المعتدل يحبِّب الشَّخص إلى النَّاس، ويُكسبه وُدَّهم، ويجعله مرغوبًا محبوبًا.
– مؤانسة الأصحاب، وإدخال السُّرور عليهم.
– التَّخفيف عن النَّفس، وإبعاد الملَالة والسَّأَم عنها.
– عن أنس رضي الله عنه: ((أنَّ رجلًا من أهل البادية كان اسمه زاهرًا، يهدي النَّبي صلى الله عليه وسلم الهديَّة من البادية، فيجهِّزه النَّبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال رسول الله: إنَّ زاهرًا باديتنا، ونحن حاضروه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّه، وكان رجلًا دميمًا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه، ولا يبصره الرَّجل، فقال: أرسلني، مَنْ هذا؟ فالتفت، فعرف النَّبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يَأْلُو ما ألصق ظهره بصدر النَّبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله، إذًا والله تجدني كاسدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكن -عند الله- لست بكاسد. أو قال: لكن -عند الله- أنت غال)) .
– عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنَّ رجلًا استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنِّي حاملك على ولد النَّاقة. فقال: يا رسول الله، ما أصنع بولد النَّاقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النُّوق؟))
– نماذج من مزاح السَّلف
– كان علي رضي الله عنه فيه دعابة، فقد قال عمر رضي الله عنه: (أرجو ألَّا يخالف إن شاء الله، وما أظنُّ أن يلي إلَّا أحد هذين الرَّجلين: علي أو عثمان؛ فإن وليَ عثمان، فرجل فيه لين، وإن وليَ علي ففيه دعابة) .
– عن بكر بن عبد الله قال: (كان أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم، يَتبادَحون بالبطِّيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرِّجال) .
– قال عطاء بن السَّائب: (كان سعيد بن جبير لا يقصُّ علينا إلَّا أبكانا بوعظه، ولا يقوم من مجلسنا حتى يضحكنا بمزحه) .
– قال غالب القطَّان: (أتيت ابن سيرين يومًا، فسألت عن هشام، فقال: تُوفِّي البارحة، أما شعرت؟! فقلت: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فضحك، فقلت: لعلَّه أراد النَّوم) .
– قال ابن سيرين: (ليس من حُسْن الخُلُق، الغَضَب من المزْح) .
– نماذج من مزاح العلماء المعاصرين:
– كان الشيخ ابن باز رحمه الله حريصًا على ملاطفة جُلَّاسه، وإدخال السُّرور عليهم، وكان يداعبهم، ويمازحهم مزاحًا لا إسراف فيه ولا إسفاف، فمن ذلك: جاءه -ذات مرَّة- مُطَلِّق، فقال له: ما اسمك؟ قال: ذيب، قال: ما اسم زوجتك؟ قال: ذيبة، فقال رحمه الله -مداعبًا-: أسأل الله العافية! أنت ذيب، وهي ذيبة، كيف يعيش بينكما الأولاد؟! .
– وهذا الموقف حدث للشَّيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى، حيث يقول راوي القصَّة:
(صلى الشَّيخ في الحرم المكي، وعند خروجه استقلَّ سيَّارة تاكسي، وأراد التَّوجُّه إلى مِنى، وأثناء الطَّريق أراد السَّائق أن يتعرَّف على الرَّاكب، فقال من الشَّيخ؟ فأجابه الشَّيخ: محمد بن عثيمين. فأجابه السَّائق: أنت الشَّيخ ابن عثيمين؟! -ظنًّا منه أنَّه يمزح معه- فقال: نعم. فقال السَّائق -وهو يهزُّ رأسه متعجبًا من جرأته في تقمُّص شخصية الشَّيخ ابن عثيمين، فقال الشَّيخ للسَّائق: ومن الأخ؟ فأجاب السَّائق: أنا الشَّيخ عبد العزيز بن باز. وكان ذلك في حياة ابن باز مفتي عام المملكة، فأجابه الشَّيخ: لكن ابن باز ضرير، ولا يمكن أن يسوق سيَّارة! ولما تبيَّن للسَّائق أنَّه الشَّيخ ابن عثيمين، اعتذر منه، وكان في غاية الحرج. وهذا يدلُّنا على تواضع الشَّيخ، ومداعبته لعامة النَّاس) .
– ركب أحد طلبة العلم مع الشَّيخ الألباني رحمه الله في سيَّارته، وكان الشَّيخ يُسرع في السَّير. فقال له الطَّالب: خفِّف يا شيخ! فإنَّ الشَّيخ ابن باز يرى أنَّ تجاوُز السُّرعة إلقاء بالنَّفس إلى التَّهلكة. فقال الشَّيخ الألباني رحمه الله: هذه فتوى من لم يجرِّب فنَّ القيادة. فقال الطَّالب: هل أُخْبِر الشَّيخ ابن باز؟ قال الألباني: أخبره. فلمَّا حدَّث الطَّالب الشَّيخ ابن باز رحمه الله بما قال الشَّيخ الألباني، ضحك؛ وقال: قل له هذه فتوى من لم يجرِّب دفع الدِّيات
أقوالٌ وأمثالٌ في المزَاح
– كان يقال: لكلِّ شيء بَذْر، وبَذْر العداوة المزَاح .
– وأجود ما قيل في كراهة المزَاح قولهم: (إنَّ المزَاح هو السُّباب الأصغر) .
– وقال خالد بن صفوان التميمي: (المزَاح سُباب النَّوكى) .
– وقال أبو عبيد: (من أمثال أكثم بن صيفي: المزْحَة تُذهب المهابة. يقول: إذا عُرف بها الرَّجل، قلَّت هيبته) .
– وقال بعض الحكماء: (الخصومة تُمرِض القلوب، وتثبِّت فيها النِّفاق. والمزَاح يُذهب ببهاء العزِّ) .
– وفي المثل العربيِّ: (المزَاح لقاحُ الضَّغائن) .
– لا تمازح الشَّريف فيحقد عليك، ولا الدَّنيَّ فيجترئ عليك .
– المزْح أوَّله فرحٌ، وآخره ترحٌ .
– الإفراط في المزْح مُجُونٌ وجنون، والاقتصاد فيه ظُرف، والتَّقصير عنه ندامة .
– قال ابن المعتز: (المزْح يأكل الهيبة، كما تأكل النَّار الحطب) .
– من كَثُر مَزْحه، لم يسلم من استخفافٍ به، أو حقدٍ عليه .
– من كَثُر مِزَاحه، تنازعه الحقد والهوان .
– رُبَّ مَزحٍ في غَوره جِدٌّ وكَدٌّ .
– أوَّل أسباب القطيعة: المراء والمزْح .
– وكان يقال: (المزْح في الكلام، كالملح في الطَّعام) .
– وقال الحجَّاج بن يوسف لابن القرِّيَّة: (ما زالت الحكماء تكره المزَاح، وتنهى عنه، فقال: المزَاح من أدنى منزلته إلى أقصاها عشرة أبواب: المزاح أوَّله فرح، وآخره تَرح. المزاح نقائض السُّفهاء، كالشِّعر نقائض الشُّعراء. والمزَاح يوغر صدر الصَّديق، ويُنفِّر الرَّفيق. والمزاح يُبدِي السَّرائر؛ لأنَّه يُظهر المعَاير. والمزاح يُسقِط المروءة، ويُبدِي الخَنا. لم يجر المزْح خيرًا، وكثيرًا ما جرَّ شرًّا. الغالب بالمزاح واترٌ، والمغلوب به ثائرٌ. والمزاح يجلِب الشَّتمَ صغيرُه، والحربَ كبيرُه، وليس بعد الحرب إلَّا عفوٌ بعد قُدْرة. فقال الحجَّاج: حسبك، الموت خيرٌ من عفوٍ معه قُدْرة) .
– العرب تقول: (لو كان المزَاح فحلًا، لكان الشَّرُّ له نسلًا) .
– وتقول العرب -أيضًا-: (لو كان المزَاح فَحْلًا، ما أَلْقح إلَّا جهلًا) .
– وقيل: (إذا كان المزَاح أوَّل الكلام، كان آخره الشَّتم واللكام) .
– قيل: (المزَاح يبدي المهانة، ويُذهب المهابة، والغالب فيه واترٌ، والمغلوب ثائرٌ) .
– قيل: (احذر فلتات المزاح، فسَقْطَة الاسترسال لا تُقَال) .
– قال أكثم بن صيفي: (قد يُشْهَر السِّلاح في بعض المزَاح
المزَاح في واحة الشِّعر
قال الشَّاعر:
ولا تمزحْ فإنَّ المزحَ جهلٌ
وبعضُ الشَّرِّ يبدؤُه المزَاحُ
من