يوسف عليه السلام.. والمحن الأربع
بعدما ظهرت الآيات الناطقة ببراءة يوسف عليه السلام، وبعدما بلغ التبجح بامرأة العزيز أن تقيم حفل استقبال لنسوة المدينة اللاتي شاع خبر عشقها ليوسف بينهن، فإذا بها تعلن أمامهن بلا أي مواربة أو خجل أنها مفتونة به حقا، بل تعلن في مجتمع النساء من دون حياء أنه إما أن يفعل ما يؤمر به، أو يلقى في السجن، فيختار عليه السلام السجن.
بدأت حياة يوسف عليه السلام داخل السجن، يرويها لنا القرآن الكريم بقوله: “ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين” (يوسف: 36)، قال ابن كثير يرحمه الله تعالى في كتابه قصص الأنبياء: كان أحدهما ساقي الملك والآخر خبازه، اتهمهما الملك ببعض الأمور فسجنهما، فلما رأيا يوسف في السجن أعجبهما سمته وهديه وطريقته وقوله وفعله وكثرة عبادته لربه، فرأى كل واحد منهما رؤيا تناسبه فقصاها على سيدنا يوسف: “إنا نراك من المحسنين”. فقال لهما: “يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه”. (41)
علق المفسرون على تأويل يوسف قائلين: إنه لما أخبرهما بذلك جحدا وقالا ما رأينا شيئا، فقال لهما يوسف عليه السلام: “قضي الأمر الذي فيه تستفتيان” (41) أي انتهى وتم قضاء الله، سواء صدقتما الرؤيا أو كذبتماها، لأن هذا أمر واقع لا محالة.
وأحب يوسف السجين البريء(42) أن يبلغ أمره إلى الملك: “وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك” أي اذكر حالي ووضعي وحقيقتي وبراءتي عند سيدك وحاكمك الذي تدين بشرعه وتخضع لحكمه. لكن زحمة القصر أنست الرجل تنفيذ الوصية: “فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين”. (42)
والضمير الأخير في لبث عائد على يوسف، وقد شاء المولى تبارك وتعالى أن يعلمه كيف يقطع بالأسباب كلها ويستمسك بسببه وحده، فلا يجعل قضاء حاجته على يد عبد ولا سبب يرتبط بعبد.
رؤيا الملك
عندما أراد الله سبحانه وتعالى الفرج ليوسف وإخراجه من السجن، رأى ملك مصر رؤيا عجيبة فجمع السحرة والكهنة والمنجمين، وطلب منهم تأويلها: “وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون” (43) فعجزوا عن تفسير هذه الرؤيا وهنا في ذلك الموقف تذكر الفتى الذي نجا من السجن، يوسف عليه السلام: “أنا أنبئكم بتأويله”(45) أي أخبركم عن تفسير هذه الرؤيا ممن عنده علم بتأويلها “فأرسلون” أي إلى يوسف لآتيكم بتأويلها، وبالفعل انطلق هذا الساقي إلى السجن، ودخل على يوسف وقال له: “يوسف أيها الصديق” وسماه صديقا لأنه كان قد جرب صدقه في تفسير الرؤيا التي رآها في السجن، وسأله عن تفسير رؤيا الملك: “لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون” فقال يوسف عليه السلام: “قال تزرعون سبع سنين دأبا” أي بجد وعزيمة “فما حصدتم فذروه في سنبله” أي اتركوه في سنبله لئلا يسوس “إلا قليلا مما تأكلون” أي إلا ما أردتم أكله فادرسوه واتركوا البقية في سنبله، “ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد” وهي السنون السبع المجدبات “يأكلن ما قدمتم لهن” فتأكلون فيها مما ادخرتم أيام الرخاء. “إلا قليلا مما تحصنون”، الذي تدخرونه وتخبئونه للزراعة، “ثم يأتي بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون”، أي يأتي بعد هذه السنين عام رخاء فيه يمطر الناس ويغاثون ويعصرون فيه الأعناب وغيرها لكثرة خصبه.
عندما حمل الفتى تأويل يوسف عليه السلام إلى ملك مصر كان لابد أن يرى الملك يوسف، لما علمه عنه من كمال عقل وسداد رأي، فأمر بإحضاره ليكون من جملة خاصته. ولكن يوسف أبى أن يخرج من السجن هكذا من دون أن تظهر براءته من تلك التهمة الشنيعة، وبالفعل جمع الملك النسوة ودعا امرأة العزيز معهن، فسألهن عن أمر يوسف فأكدن جميعها نزاهته وبراءته من تلك التهمة، فلم تجد امرأة العزيز بدا من الاعتراف بذلك: “قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين” (51) لتظهر براءة سيدنا يوسف واضحة جلية، وبعدها ولاّه الملك الوزارة فكان أن أصبح هو عزيز مصر، وأسلم الملك على يديه.
لقاء الإخوة
صدق تفسير يوسف للرؤيا فوقعت السنون السبع المخصبة، ثم تلتها المجدبة، وكان يوسف أثناء ذلك يباشر الوزارة بمصر، ويشرف على مخزن الغلال، ليحتاط للسنين المجدبة، فورد الناس عليه من سائر البلاد، يطلبون الغذاء، وكان من جملة هؤلاء أخوة يوسف ولأنه كان متربعا في رياسته وأبهته لم يعرفوه.
أعطى يوسف إخوته كل ما يريدونه وأكرمهم لكن “ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين. فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون”. (59 61)
ورجع الأخوة إلى أبيهم وأخبروه بأنهم أنذروا بمنع الكيل في المستقبل إذا لم يأتوا بأخيهم “بنيامين” ودار الحوار بين الأب وبنيه، الذين يحاولون إقناعه بأن يرسل معهم أخاهم، لكنه خائف على الابن من أن يلقى مصير أخيه يوسف! لكن في النهاية نجحت محاولتهم وأخذ الإخوة “بنيامين” معهم ورحلوا إلى مصر، فأكرمهم يوسف عليه السلام وأحسن استقبالهم “فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون” (71) فقد أمر يوسف عليه السلام أن تجعل السقاية وهي صواع من ذهب مرصع بالجواهر في متاع أخيه بنيامين، واتهمهم بسرقته، ليستبقي أخاه “السارق” معه لأنه كان المتبع في دين يعقوب أن يؤخذ السارق رهينة أو أسيرا أو رقيقا في مقابل ما يسرق، وهي حيلة لجأ إليها سيدنا يوسف بتعليم من المولى تبارك وتعالى له.
لما ظهر صواع الملك في حمل “بنيامين” جاء رد إخوته غريبا للغاية: “قالوا أن يسرق فقد سرق أخ له من قبل” (77) يقصدون يوسف. وقال المفسرون حول هذه الآية، إن يوسف كان قد سرق صنم جده أبي أمه فكسره وقيل كان يأخذ الطعام من البيت فيطعمه الفقراء.
فجأة تذكر الأخوة ما وعدوا به أباهم من الحفاظ على أخيهم الصغير، فراحوا يسترحمون يوسف عليه السلام باسم والد الفتى الشيخ الكبير ويعرضون أن يأخذ بدلا منه واحدا منهم، لكن يوسف كان يريد أن يلقي عليهم درسا.
مرة أخرى يتكرر الموقف الصعب، نفسه ويعود هؤلاء الإخوة إلى أبيهم يعقوب عليه السلام، وأخوهم ليس معهم فلم يجدوا سوى رد النبي الكريم المتصل بربه “فصبر جميل عسى أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم”.
ودخل إخوة يوسف مصر للمرة الثالثة، وقد أضرت بهم المجاعة في السنين العجاف، ونفدت منهم النقود، وجاؤوا ببضاعة رديئة وهي الباقية لديهم يشترون بها الزاد الذي يحتاجونه وهم في هذه المرة دخلوا مصر وفي حديثهم انكسار لم يعهد من قبل وشكوى من المجاعة يسترحمون يوسف عليه السلام لإنقاذهم.
المفاجأة الكبرى
إلى هذا الحد لم يستطع يوسف أن يمضي في طريق التخفي عنهم بحقيقة شخصيته فقد انتهت الدروس وحان وقت المفاجأة الكبيرة، لكنه في الوقت نفسه يرفق بهم في طريقة عرض هذه المفاجأة فيقول لهم “قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون”، وهكذا يعود بهم إلى سنوات بعيدة ليرن في آذانهم صوت ربما يتذكرونه بعد أن لاحت لهم ملامح وجه لم يعرفوه بما رأوا فيه من “سمت” عزيز مصر وأبهته فجاء ردهم على الفور “قالوا إنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين” (90) فلا يجدون سوى الرد عليه باعترافهم بالخطأ في قولهم: “قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين”.
وكخلق الأنبياء دائما تأتي صفة العفو عند المقدرة “قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين”.
والموقف لم ينته عند هذا الحد بل انه يتعداه إلى اشتياق يوسف لأبيه، وأن يكون صحيح البدن، بحيث يعود إليه بصره الذي فقده فيقول لهم: “اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتي بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين” نعم أمرهم بأن يضعوا قميصه على عيني أبيه ليرتد إليه بصره بإذن الله وهذا من خوارق العادات ودلائل النبوات وليس هذا فحسب بل أن يأتوا جميعا إلى مصر ليجتمع شمل الأسرة بعد سنوات الفرقة التي عاشوها.
ونصل هنا إلى الفصل الأخير من قصة هذا النبي الكريم، بعودة يوسف وإخوته إلى مصر يحكيها لنا القرآن الكريم: “فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين. ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا” (99 100).
م
ن
ق
و
ل
وشكرا