شبهات حول المكي والمدني
شبهات حول المكي والمدني
الشبهة الأولى:
يقولون إن الباحث الناقد يلاحظ أن في القرآن أسلوبين متعارضين لا تربط الأول بالثاني صلة ولا علاقة، مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا الكتاب قد خضع لظروف مختلفة وتأثر ببيئات متباينة فنرى أن القسم المكي منه يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة كما نشاهد القسم المدني منه تلوح عليه أمارات الثقافة والاستنارة فالقسم المكي يتفرد بالعنف والشدة والقسوة والحدة، والغضب والسباب والوعيد والتهديد.
الجواب: يكمن الجواب في عدة نقاط:
1- أما قولهم أن القسم المكي قد تفرد بالعنف والشدة فينقضه أن في القسم المدني شدةً وعنفًا فدعواهم بالتفرد باطلة. وإنما اشتمل القرآن الكريم بقسميه المكي المدني على الشدة والعنف لأن ضرورة التربية الرشيدة في إصلاح الأفراد والشعوب تقضي أن يمزج المصلح في قانون هدايته بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد والشدة واللين.
2- أما قولهم: أن في القسم المكي سبابًا: نقول: لا يعقل أن القرآن الذي جاء يعلم الناس أصول الآداب يخرج هو عن أصول الآداب إلى السباب؟ نعم لقد ورد في القرآن كله تسفيه لأحلام المتنطعين إلا أنه في شدته وعنفه لم يخرج عن جادة الأدب ولم يصدف عن سبيل الحكمة بل الحكمة تتقاضاه أن يشتد مع هؤلاء لأنهم يستحقون الشدة.
الشبهة الثانية:
إن قصر السور والآيات المكية مع طول السور والآيات المدنية يدل على انقطاع الصلة بين القسم المكي والمدني فلما كان في مكة أميًا بين الأميين جاءت سور المكي وآياته قصيرة ولما وجد في المدينة بين المثقفين جاءت سور المدني وآياته طويلة.
الجواب:
1- إن في القسم المكي سورًا طويلة مثل سورة الأنعام وفي القسم المدني سورًا قصيرة مثل سورة النصر.
2- إن قصر السور والآيات المكية لا يدل كما زعموا من امتياز القسم المكي بميزات الأوساط المنحطة بل القصر مظهر الإيجاز والإيجاز مظهر رقي المخاطب، وقد عرف أن القرشيين في مكة كانوا أهل ذكاء وألمعية وفصاحة وبلاغة وأهل المدينة على استنارتهم لم يبلغوا شأن قريش في تلك الخصائص والمزايا. وكان منهم أهل كتاب درجوا على ألا تستفيد إلا بالتطويل ولا يقنعوا إلا ببسط الكلام.
الشبهة الثالثة:
إن القسم المكي خلا من التشريع والأحكام بينما القسم المدني مشحون بتفاصيل التشريع والأحكام وذلك يدل على أن القرآن من وضع محمدًا وتأليفه تبعًا لتأثره بالوسط الذي يعيش فيه فهو حين كان بمكة بين الأميين جاء قرآنه المكي خاليًا من العلوم والمعارف العالية ولما حل بالمدينة بين أهل الكتاب المثقفين جاء قرآنه المدني مليئًا بتلك العلوم والمعارف العالية.
الجواب:
1- إن القسم المكي لم يخل جملة من التشريع والأحكام بل عرض لها وجاء عليها ولكن بطريقة إجمالية.
2- أن كثرة التفاصيل في تشريع الأحكام بالمدينة ليس نتيجة لما زعموه إنما هو أمر لا بد منه في سياسة الأمم وتربية الشعوب وقد جاء من باب تقديم الأهم على المهم لهذا بدأ الله عباده في مكة بما هداهم بدأهم بإصلاح القلوب وتطهيرها من الشرك والوثنية ولما مرنوا على ذلك وتهيأت نفوسهم للترقي والكمال جاءهم بتفاصيل التشريع والأحكام.
3- لو كان كلامهم هذا صحيح لظهر أثر أهل الكتاب المدنيين فيمن معهم من عرب أهل المدينة وفيمن حولهم ولكانوا هم الأحرياء بهذه النبوة والرسالة.
4- أن القرآن تحدى الكافة من مكيين ومدنيين بل من جن وإنس.
الشبهة الرابعة:
أن القرآن أقسم كثيرًا بالضحى والليل والتين والزيتون وطور سينين ولا ريب أن القسم بالأشياء الحسية يدل على تأثر القرآن بالبيئة في مكة لأن القوم فيها كانوا أميين لا تعدوا مداركهم حدود الحسيات. أما بعد الهجرة واتصال محمد بأهل المدينة وهم مثقفون فقد تأثر القرآن بهذا الوسط وخلا من الأيمان الحسية.
الجواب:
1- إن القسم بالأمور الحسية في القرآن ليس منشؤه انحطاط القوم كما يزعمون إنما منشؤه رعاية مقتضى الحال فيما سيق القسم لأجله، فالقرآن كان يعالج أفشى العقائد فيهم وهي الشرك فكان العلاج يلفت انتباههم إلى ما في الكون من شؤون الله وخلق الله ليصلوا من وراء ذلك إلى أن يؤمنوا بالله وحده.
2- إن القسم بتلك الأمور إشارة إلى الأسرار العظيمة التي وضعها الله في تلك الأمور التي أقسم.
النقص والزيادة:
الشبهة الخامسة:
أن كثيرًا من آيات القرآن لم يكن لها قيد سوى تحفظ الصحابة وكان بعضهم قد قتلوا في مغازي محمد وحروب خلفائه الأولين وذهب معهم ما كانوا يتحفظونه من قبل أن يُوعِزَ أبوبكر إلى زيد بن ثابت بجمعه فلذلك لم يستطع زيد أن يجمع ما كان يتحفظه الأحياء.
الجواب:
إن قولهم هذا لا يسلم لهم، لأن نفس ما كان يتحفظه الشهداء من القراء كان يتحفظه كثير غيرهم من الأحياء الذين لم يستشهدوا ولم يموتوا. بدليل قول عمر: (وأخشى أن يموت القراء من سائر المواطن) ومعنى هذا أن القراء كلهم لم يموتوا ومعلوم أن أبابكر كان من الحفاظ وكذلك عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم وهؤلاء عاشوا حتى جمع القرآن في المصحف. فكتابة زيد ما كتبه هي كتابة لكل القرآن لم تفلت منه كلمة ولا حرف.
الشبهة السادسة:
إن ما كان مكتوبًا على العظام وغيرها فإنه كان مكتوبًا عليها بلا نظام ولا ضبط وقد ضاع بعضها وهذا ما حدا العلماء إلى الزعم أن فيه آيات نسخت حرفًا لا حكمًا وهو من غريب المزاعم. وحقيقة الأمر فيها أنها قد سقطت بتة بضياع العظم الذي كانت مكتوبة عليه ولم يبق منها سوى المعنى محفوظًا في صدورهم.
الجواب:
إن قولهم هذا ينقضه: أن ترتيب آيات القرآن كان توقيفيًّا وأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يرشد كتاب الوحي أن يضعوا آية كذا في مكان كذا من سورة كذا. وكان يقرئها أصحابه كذلك ويحفظها الجميع حتى صار ترتيب القرآن وضبط آياته معروفًا مستفيضًا بين الصحابة حفظًا وكتابة. ثم إن التعويل كان على الحفظ والتلقي قبل كل شيء ولم يكن التعويل على المكتوب وحده. فلا جرم كان في الحفظ والكتابة معًا ضمان للنظام والترتيب والضبط والحصر.
يتبع